لم تهدر الحكومة الإسرائيلية الجديدة، التي تُوصَف بأنّها الأكثر يمينية في إسرائيل على الإطلاق، ثانيةً واحدة لزيادة الضغط على السلطة الفلسطينية. ففي حين أنّ قيود السفر التي فُرضَت مؤخّراً على كبار المسؤولين والضغوط المالية وتجميد البناء ليست جديدة بذاتها، لكن عند النظر إليها في سياق التصريحات الصادرة عن أعضاء الحكومة الجديدة، فيمكن أن تشير إلى خروج عن السياسات السائدة منذ سنوات. منذ توقيع إتفاقيات أوسلو، اعتمدت إسرائيل على السلطة الفلسطينية كوكيلتها لضبط الأوضاع في الضفة الغربية نيابة عنها، إلّا أنّ أعضاءً من الحكومة التي تولّت السلطة في أواخر ديسمبر الماضي يعتبرون أي كيان وطني فلسطيني بمثابة إهانة للسيادة الإسرائيلية؛ “وحقّها الحصري” في كلّ “أرض إسرائيل” التوراتية.
تزامنت عودة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى السلطة مع تحرّك فلسطيني لدفع محكمة العدل الدولية للنظر في الاحتلال الإسرائيلي المستمرّ منذ عقود. بعد يوم فقط من تولّي الحكومة الجديدة السلطة، صوَّتت الجمعية العامة للأمم المتّحدة على قرار يقضي بالطلب إلى محكمة العدل الدولية أن تصدر فتوى بشأن الآثار المترتبة على الاحتلال، وما يتضمّنه من عمليّات استيطان وضمّ أراضٍ وتغيير في التركيبة السكّانية للقدس.
جاء ردّ الحكومة الإسرائيلية سريعاً، إذ وصفت هذه الخطوة الفلسطينية بأنّها “حرب سياسية وقانونية ضدّ دولة إسرائيل”، فألغت تصريح السفر الممنوح لوزير خارجية السلطة الفلسطينية رياض المالكي، وقالت إنّها ستعيد توزيع الإيرادات الضريبية، التي تجمعها بالنيابة عن السلطة الفلسطينية، على العائلات اليهودية الإسرائيلية التي قتل لها أفراد على يد فلسطينيين.
كذلك، حظرت جميع أعمال البناء الفلسطينية في الـ 60 في المئة من أراضي الضفّة الغربية التي أُخضِعت بموجب اتفاقيات أوسلو للسيطرة الإسرائيلية الكاملة عسكرياً وإدارياً، وحيث عمليات البناء التي يقوم بها الفلسطينون مقيّدة بشدّة أصلاً. أخيراً، كثّفت إسرائيل هجماتها على المنظّمات غير الحكومية التي تُعنى بحقوق الفلسطينيين (علماً أنّ الإدارة السابقة صنّفت في أكتوبر الماضي 6 منها على أنها منظّمات إرهابية).
وفي مقابلة نادرة لرئيس الوزراء الفلسطيني محمد أشتية مع صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، حذّر من أن تؤدّي الإجراءات الأخيرة إلى الانهيار الوشيك للسلطة الفلسطينية.
ظاهرياً، تختلف هذه الإجراءات قليلاً عن الخطوات التي اتخذتها الحكومات الإسرائيلية المُتعاقبة في السنوات العشرين إلى الثلاثين الماضية من أجل الضغط على السلطة الفلسطينية، وهي أكثر بقليل من كيان إداري فلسطيني يعتمد بالكامل على قوّة الاحتلال. في الواقع، تُعتبر السياسة الإسرائيلية تجاه السلطة الفلسطينية متقلّبة، فهي تتأرجّح بين دعم السلطة الفلسطينية لأسباب براغماتية أو معاقبتها لأسباب سياسية؛ فاعتماد المظهر الحازم والصارم مع الفلسطينيين هو دائماً رهان جيّد في سياسة الحملات الانتخابية الإسرائيلية. كما أنّ إبقاء السلطة الفلسطينية ضعيفة ومعتمدة على إسرائيل يصبّ في صالحها كونها توسّع مستوطناتها غير القانونية والبنية التحتية المُرتبطة بها في الأراضي المحتلّة.
على الرغم من ذلك، لطالما اعتمدت الحكومات السابقة، ومن ضمنها حكومات نتنياهو، على السلطة الفلسطينية، التي اعتُبِرت ركيزة أساسية للحكم الإسرائيلي في الأراضي المحتلّة. تقدّم السلطة الفلسطينية للعالم التصوّر بوجود فصل سياسي بين الشعبين، وكذلك تدير المراكز السكانية الفلسطينية بالنيابة عن إسرائيل. وبالتالي، فإنّ إنشاء السلطة الفلسطينية في العام 1994 قد خفّف عن إسرائيل الكثير من الأعباء المالية والإدارية الناجمة عن التعامل مع عدد كبير من السكّان المحتلّين.
يُعدُّ هذا الأمر أساسياً، لا سيما بالنسبة لنتنياهو، من أجل “إدارة” الصراع مع الفلسطينيين بدلاً من محاولة حلّه – علماً أنّه للمفارقة كان من معارضي عملية السلام التي أوجدت الحكومة الفلسطينية. على الرغم من خطاب عدد من السياسيين الإسرائيليين العلني المناهض للسلطة الفلسطينية، إلّا أنّهم يحترمون وجهة نظر مؤسّستهم الأمنية: تؤدّي السلطة الفلسطينية عملاً مهمّاً بالنيابة عن إسرائيل، وبالتالي يجب الحافظ عليها.
ارتضى مسؤولو السلطة الفلسطينية بهذه الصفقة، وهو ما أثار حفيظة معظم الفلسطينيين بسبب المنافع المادية التي يحقّقها هؤلاء المسؤولين والنفوذ الذي يكتسبونه من بقاء السلطة. ويُعتبَر هذا الترتيب الذي بموجبه لا تشكّل السلطة الفلسطينية أي تحدٍّ حقيقي على إسرائيل لا بل تساهم في منع قيام أي مقاومة فلسطينية، السبب الرئيسي لتدنّي شعبيتها.
بيد أنّ تصريحات بعد القادة الإسرائيليين الحاليين من اليمين المتطرّف تتعارض مع هذا الترتيب المستمرّ منذ ثلاثة عقود. على سبيل المثال، عندما سأل أحد الصحافيين وزير المالية الإسرائيلي الجديد بتسلئيل سموتريتش عن تأثير العقوبات الجديدة على انهيار السلطة الفلسطينية، أجاب: “طالما أنّ السلطة الفلسطينية تشجّع الإرهاب، وطالما أنّها عدو، فليس لديّ مصلحة في استمرارها”.
لقد قيل الكثير عن الطبيعة اليمينية المتطرّفة للحكومة الإسرائيلية الجديدة، التي وضعت في السلطة عناصر فاشية وثيوقراطية من الحركة الصهيونية الدينية في إسرائيل. حتّى أنّ بعض النقّاد اليمينيين شجبوا ضمّ شخصيّات مثيرة للجدل مثل إيتمار بن غفير وسموتريتش خوفاً من أن تشكّل أيديولوجياتهم المُفرطة في قوميّتها والتفوّق اليهودي تحوّلاً جذرياً في السياسة الإسرائيلية. لا شكّ أنّ مشاركتهم في الحكومة تشكّل تحدّياً خطيراً للعناصر الأكثر علمانية وليبرالية في المجتمع الإسرائيلي، وللأقلّيات، والصحافة، والقضاء بشكل خاص بعد أن أصبح هدفاً رئيسياً لفرض حدّ أدنى من الرقابة على سياسات الغالبية في إسرائيل.
لا تعني هذه المخاوف الكثير للفلسطينيين الذين عانوا الأمَرَّين من الاحتلال العسكري والاستعمار الاستيطاني لعقود. بالنسبة لهم، التهديد الذي تشكّله هذه الحكومة الجديدة يرتبط باشتداد حدّة سياساتها لا بتغيّرها. بمعنى آخر، حتى لو تحوّل العنف ونزع الملكية الذي يعيشه الفلسطينيون يومياً من سيئ إلى أسوأ، إلّا أنّه لن يكون مختلفاً في جوهره.
قد يكون الاستثناء الوحيد هو موقف الحكومة الجديدة، أو بعض أعضائها، تجاه السلطة الفلسطينية، الذي قد يغيّر الوضع على الأرض جذرياً.
لنعد إلى سموتريش مجدّداً، فقد وضع في ورقة صادرة عام 2017 بعنوان “خطّة إسرائيل الحاسمة” رؤيته لضمّ الضفّة الغربية، بما يسمح بانتفاء الحاجة لكيان حاكم مثل السلطة الفلسطينية، وبالتالي لدولة مستقلّة. سوف يُخيّر الفلسطينيون المقيمون “تحت أجنحة الدولة اليهودية” بين البقاء كمقيمين من دون حقوق متساوية أو التخلّي عن منازلهم ومغادرة البلاد. وهو ما سمّاه أحد الصحافيين الإسرائيليين بأنّه “إنذار أخير للاستسلام أو الانتقال”.
مجدّداً، في النظرة العالمية لسموتريتش وغيره ممن انبثقوا عن حركة المستوطنين، يتفوّق “الحق الحصري” للشعب اليهودي بكامل الأرض على أي همّ آخر. لا يولي هو وأقرانه غير الديمقراطيين أي اهتمام للعواقب المُحتملة التي قد تنجم عن نسختهم المشوّهة عن الواقع. وفي هذا السياق، يكتب سموتريتش، رافضاً اتهامات الفصل العنصري، أنه “يمكن تطبيق السيادة الإسرائيلية على جميع مناطق يهودا والسامرة [أي الضفّة الغربية] من دون منح العرب المقيمين هناك حقّ التصويت في انتخابات الكنيست منذ اليوم الأوّل، ومع ذلك الاستمرار كسلطة ديمقراطية. قد لا تكون ديمقراطية مثالية، لكنها ديمقراطية”.
هذه العقلية، التي تميّز جيلاً من السياسيين المستوطنين من “اليمين الجديد”، تجعل ضمّ الضفّة الغربية إلى إسرائيل رسمياً أكثر احتمالية من أي وقت مضى.
في اليوم الذي سبق تولي نتنياهو منصبه، غرَّد المبادئ التوجيهية لحكومته الجديدة: “للشعب اليهودي حقٌّ حصري غير قابل للانتزاع في جميع أنحاء أرض إسرائيل. ستعمل الحكومة على تعزيز الاستيطان وتطويره في جميع أنحاء أرض إسرائيل – في الجليل والنقب والجولان ويهودا والسامرة “.
لم تضع الحكومة صراحةً خططاً لضمّ الضفّة الغربية رسمياً، وهي خطوة سوف تثير بالتأكيد ضجّة عالمية خصوصاً مع استمرار روسيا في حربها في أوكرانيا. مع ذلك، فقد اتخذت إدارة نتنياهو الأخيرة خطوات غير مسبوقة تماشياً مع هذا الهدف.
لقد وُضِعت شعبة الجيش الإسرائيلي التي أدارت الضفّة الغربية بمعظمها تحت سلطة مدنيين في وزارة الدفاع، وهي خطوة مُحنّكة باتجاه الضمّ لأنّها تعني ضمنياً توسيع سيطرة إسرائيل المدنية على الأراضي المحتلّة. وبالتوازي، أعيد تنظيم وزارات بأكملها مثل وزارة الدفاع والأمن القومي بطريقة تسمح لسموتريش وبن غفير، على التوالي، بتأدية دور أكبر في إدارة ومراقبة كلّ من الفلسطينيين والمستوطنين اليهود في الأراضي المحتلة، وهي أدوار تفاوضوا عليها بتأنٍ على مدى خلال أسابيع من محادثات التحالف.
إنّ قرار تجريد وزير خارجية السلطة الفلسطينية من تصريح السفر هو دليل على القوّة التي تمارسها إسرائيل حتى على أكثر الفلسطينيين نفوذاً في الأراضي المحتلّة. وفي حين أنّه من غير المرجّح أن تؤدّي الإجراءات التي اتُّخذَت مؤخّراً ضدّ السلطة الفلسطينية إلى انهيارها، إلّا أنّه من الواضح أنّ شخصيات نافذة في الحكومة الإسرائيلية الجديدة لديهم رؤية وأمامهم حالياً الفرصة لتطبيقها.
السلطة الفلسطينية ليست جزءاً من هذه الرؤية.
بعيداً من هذا التهديد، يطرح أي تحرّك نحو الضمّ أو القضاء على السلطة الفلسطينية أسئلة صعبة على إسرائيل: هل هي جاهزة للسيطرة المباشرة على الأراضي مرّة أخرى، كما يشير سموتريتش؟ هل هي مستعدّة لتحمّل التكاليف التي تجنّبتها منذ عام 1994؟ كيف سيبدو الحكم الإسرائيلي المباشر من منظور فلسطيني؟ وفي حال انهارت السلطة، من الذي سوف يخلفها بين الفلسطينيين؟