حفل تخرج مؤسسة قطر السنوي. (مؤسسة قطر، 2025)

هجوم ترامب على الأكاديميا فرصة ثمينة للدول الخليجية؟

هجرة الأدمغة من الجامعات الأمريكيّة تمنح الدول الخليجية فرصة لتسريع  تحوّلها من اقتصادات معتمدة على النفط والغاز إلى اقتصادات قائمة على المعرفة.

26 مايو، 2025
فريدريك شنايدر

قبيل زيارة دونالد ترامب التاريخية إلى الخليج سعياً إلى استثمارات لإنعاش الاقتصاد الأمريكي، انشغل الرئيس الأمريكي بتسديد ضربة قاضية للجامعات والمؤسّسات البحثيّة في بلاده. فقد شنّت وزارة الكفاءة الحكومية بقيادة إيلون ماسك حملة تدميرية طالت كلّ شيء من البحوث الطبّية إلى الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي. وسُحِب التمويل بشكلٍ مفاجئ وتعسفي من مئات المشاريع التابعة لمعاهد الصحّة الوطنية. وتصدّر إغلاق وزارة التعليم قائمة أولويات ترامب، إذ جمّدت إدارته مئات ملايين الدولارات المخصّصة للجامعات في إطار حملة تهدف إلى القضاء على برامج تُعنى بالتنوّع والإنصاف والشمول، فضلاً عن قمع الاحتجاجات الطلابية المؤيّدة لفلسطين داخل الحرم الجامعي. وفي الحالة الأخيرة، استُهدف الطلاب المهاجرون بسبب آرائهم السياسية، وأُقيل أساتذة جامعيون من مناصبهم، من بينهم جمال كفادار وروزي بشير من جامعة هارفرد.

 

ومع ذلك، في خضم ما خلّفته هذه السياسات القمعية من دمار مؤسّساتي، تبرز فرصة ذهبية أمام دول أخرى. فمن المرجّح أنّ تؤدّي سياسات ترامب المناهضة للمؤسّسات إلى هجرة الأدمغة والكفاءات من الولايات المتّحدة. وبينما تمتلك الدول الخليجية دوافعها الخاصة للاستثمار في الاقتصاد الأمريكي، بإمكانها أيضاً الاستفادة من تدفّق الباحثين المتميّزين الذين يغادرون الولايات المتّحدة واستقطابهم نحو مؤسّساتها المحلية.

 

لطالما أعلنت حكومات دول مجلس التعاون الخليجي أنّ مستقبل ما بعد النفط يعتمد على اقتصاد المعرفة. وقد قطعت المنطقة أشواطاً كبيرة باتجاه تعزيز المنافسة داخل قطاع التعليم العالي، شملت افتتاح فروع لجامعات عالمية مرموقة، وزيادة عدد الطلاب والباحثين، وصعود نجم الجامعات الإقليمية في التصنيفات العالمية.

 

لذلك، تمتلك الدول الخليجية الكثير لتقدّمه للأكاديميين المنفيين من الولايات المتّحدة: في الواقع، يُعدّ التمويل سخياً والرواتب تنافسية، والمنظومة التعليمية والبحثية آخذة في التوسّع. وعلى عكس أوروبا، لا تعاني المنطقة من تداعيات التقشّف والركود الاقتصادي وصعود اليمين المتطرّف وتجاوزاته. وهذا ما يجعل منطقة الخليج وجهةً جذّابة، لا سيّما بالنسبة إلى الأقليّات العرقية والدينية التي  تتعرّض للتمييز. وتوفّر قطر، على وجه الخصوص، ملاذاً للطلاب والأكاديميين المضطهدين بسبب مواقفهم الرافضة للإبادة الجماعية في غزة. كما يتمتّع الخليج بموقع جغرافي ملائم، كونه يقع على مسافة متساوية تقريباً بين المراكز الأكاديمية الكبرى في أوروبا والصين.

 

هل التطلّعات تفوق القدرة الحقيقية؟

 

مع ذلك، لا يزال على الدول الخليجية قطع شوط طويل قبل أن تتمكّن من منافسة الجامعات العالمية الكبرى. وعلى الرغم من التصريحات الواثقة والتوقعات الطموحة، غالباً ما لا يحظى التعليم العالي في المنطقة بالاهتمام أو التمويل الكافيين. على سبيل المثال، انخفضت الميزانية الاتحادية للتعليم العالي في الإمارات العربية المتحدة منذ العام 2017، في الوقت الذي تضاعف فيه عدد الطلاب. أمّا المشاريع الضخمة مثل «نيوم» في المملكة العربية السعودية  فتتعامل مع التعليم الجامعي والبحوث كأمر ثانوي في أفضل الأحوال.

 

ويبدو أنّ إستراتيجية استقطاب فروع الجامعات الدولية، على الرغم من بعض النجاحات الملحوظة مثل جامعة نيويورك في أبوظبي وجامعة كارنيجي ميلون في الدوحة، فقدت زخمها. إذ لم يطرأ أي توسّع على عدد هذه الفروع، كما أُثقل كاهلها بتحدّيات متعدّدة، منها التركيز المتكرّر على التدريس على حساب البحث العلمي، والإهمال النسبي من قبل الجامعات الأم، فضلاً عن انتشار مؤسسات تعليمية منخفضة الجودة أو حتى احتيالية في بعض الدول المضيفة.

 

وبالمثل، شهدت الجامعات المحلّية تقدّماً متبايناً، فمن جهة تبرز مؤسسات رائدة وناجحة مثل جامعة قطر في الدوحة وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن في الظهران، ومن جهة أخرى ثمة تجارب أقل نجاحاً مثل معهد مصدر في أبو ظبي وجامعة زايد التي أعيدت هيكلتها في دبي. علاوة على ذلك، لم يسلم التقدّم الذي أحرزته جامعات المنطقة في التصنيفات العالمية  من إثارة الجدل.

 

يعدّ استقطاب «لاجئين» أكاديميين من الولايات المتحدة فرصة ثمينة للدول الخليجية، لا سيما في مواقع تمرّ بمرحلة انتقالية أو تشهد توسعاً، مثل المدينة التعليمية في قطر، التي تبحث حالياً عن بديل لحرم جامعة «تكساس إيه آند إم». غير أنّ اغتنام هذه الفرصة يتطلّب المزيد من العمل لتحسين منظومة التعليم العالي والبحث العلمي في المنطقة، التي لا تزال في طور الخروج من موقعها المهمّش عالمياً . ولتحقيق هذا التحوّل، لا بدّ من وضع التعليم العالي والبحث العلمي في صلب الإستراتيجيات الوطنية فعلياً، وتخصيص التمويل المناسب، وتكثيف الجهود لتأسيس جامعات ومراكز بحثية جديدة وتوسيعها، فضلًا عن إنشاء مؤسسات تنسيقية قوية، وبنى تحتية بحثية متقدمة، على غرار المؤسسات العلمية الوطنية الناجحة في دول مثل الولايات المتحدة وسويسرا وسنغافورة.

 

نحو تكامل إقليمي

 

يُعد تجاوز المنظور الوطني الضيّق أمراً حيوياً في هذه الجهود. بالفعل، تحتاج دول مجلس التعاون الخليجي إلى استبدال منطق العزلة والمنافسة السائد في مجال التعليم الجامعي والبحث العلمي بمناخٍ من التنسيق والتعاون الإقليمي. لن تتمكّن أي دولة خليجية منفردة من  تحقيق الكتلة الضرورية من الباحثين والمؤسسات الأكاديمية المرموقة. بدلاً من ذلك، ينبغي عليها العمل على إضفاء الطابع المؤسّساتي على التنسيق الإقليمي من خلال هيئة علمية خليجية قويّة ومموّلة جيداً، تستند إلى نماذج ناجحة مثل برنامج « إيراسموس بلس» الأوروبي لدعم التنقل الأكاديمي، وبرنامج «ماري سكلودوفسكا-كوري» لتدريب الباحثين، ومؤسسة العلوم الوطنية الأمريكية لتقديم المنح التنافسية قبل أن يتم تقويضها مؤخراً.

 

 قد تشمل المبادرات الرئيسة برامج تبادل الطلاب وأعضاء هيئة التدريس على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي، وتقديم شهادات علمية مشتركة بين الجامعات والمشاريع البحثية المتعددة الجنسيات، لا سيما في مجالات إستراتيجية رائدة مثل الطاقة المتجددة، والعلوم الطبية الحيوية، والذكاء الاصطناعي. كما يمكن اعتماد آلية تمويل ممنهجة تقدّم منحاً بحثية تنافسية على مستوى المنطقة، ومنحاً دراسية قائمة على الجدارة، ما يحفّز التعاون. ولضمان استمرارية الزخم، يمكن أنّ تركز هذه الهيئة في البداية على مَهمّة إقليمية ذات تأثير واسع، مثل تعزيز القدرة على مواجهة الأوبئة أو التنمية الحضرية المستدامة، والاستفادة من الموارد والخبرات المشتركة. ومن خلال توحيد معايير الاعتماد الأكاديمي، وتنسيق تمويل البحوث، وتعزيز الشراكات الأكاديمية العابرة للحدود، يمكن لدول مجلس التعاون الخليجي أنّ تبني اقتصاد معرفة تنافسياً على المستوى العالمي، ولاستفادة في الوقت نفسه من وفورات الحجم والحدّ من حالات الازدواجية والتشرذم.

 

في الختام، تثبت الأزمة الراهنة في الولايات المتّحدة أنّ تهديد الحرية الأكاديمية هو تهديد لوجود للمنظومة الأكاديمية في جوهرها. من هذا المنطلق، وبحسب عالمة الاجتماع الإماراتية ميرة الحسين، ينبغي على دول مجلس التعاون الخليجي استخلاص العِبَر لتحويل مؤسسات التعليم العالي في الخليج إلى «مناطق حرة للفكر الأكاديمي»، تتمتع بشكل من أشكال  «الاستقلالية الإقليمية» في ما يخص حرية البحث والتعبير، وهي حريات باتت مهدّدة على نحو متزايد في أجزاء أخرى من العالم.

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: السياسة الأمريكية الخارجية
البلد: الإمارات العربية المتحدة، البحرين، الكويت، المملكة العربية السعودية، قطر

المؤلف

زميل أوّل غير مقيم
فريدريك شنايدر هو زميل أوّل غير مقيم في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية. ويعمل أيضاً مستشار سياسات مستقل، وقد تعاون مع عدد من المؤسّسات المرموقة، من بينها مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية (SOAS) ومنتدى الخليج الدولي ومعهد دول الخليج العربية في واشنطن (AGSIW) ومعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى وأكاديمية أنور قرقاش الدبلوماسية ومؤسّسة دبي للمستقبل وموقع… Continue reading هجوم ترامب على الأكاديميا فرصة ثمينة للدول الخليجية؟