مع تقدّم التحوّل العالمي في قطاع الطاقة، لم يعد يُنظر إلى الهيدروكربونات من منظور التكلفة أو وفرة الموارد فحسب، بل باتت تُقيّم بشكل متزايد من خلال بصمتها الكربونية عبر سلسلة القيمة بأكملها. ويطرح ذلك سؤالاً محورياً: من يحدّد هذه البصمة الكربونية؟ من يقيسها؟ ومن يصادق عليها؟ في الواقع، أصبحت شهادات الكربون ميداناً ناشئاً لصراع تتقاطع فيه مصالح ملامح التجارة العالمية في مجال الطاقة والتمويل والنفوذ الجيوسياسي. وفي المستقبل القريب، قد تغدو الديناميّات البنيوية للسوق، مثل حجم إنتاج الغاز الطبيعي وتصديره في دولة ما، أقل أهمّية من البصمة الكربونية لتلك الشحنات، وكيفية تقييمها، ومن يقوم بذلك.
بالنسبة إلى كبار منتجي الطاقة الخليجيين، مثل قطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتّحدة، تُعدّ هذه القضية ملحّة: فإذا لم يبادروا بالانخراط الفاعل في رسم مستقبل شهادات الكربون ومعاييرها، قد يضعهم في موقع المتلقّي، ليس في ما يخصّ أسعار السلع فحسب، بل أيضاً في ما يتعلّق بمصداقية المناخ ذاتها. ففي هكذا مستقبل، لن تعود السيادة على الموارد مسألة تتعلّق بالتحكّم في الثروات الطبيعية، كما كان الحال عند نشوء «أوبك» أو في سياق موجة التأميم الاقتصادي التي رافقت حقبة حركات الاستقلال في منتصف القرن العشرين، بل ستتمثّل القوّة الحقيقية في القدرة على وضع القواعد التي تنظّم البنية الاقتصادية العالمية، وتحديد الجهة التي تمتلك سلطة خلق القيمة بذاتها.
معايير مجزّأة
لم يعد التوجّه العالمي نحو إزالة الكربون يقتصر على خفض الانبعاثات الإجمالية فحسب، بل تطوّر ليصبح ساحة تنافس سياسي وإستراتيجي محتدم حول مصادر الوقود التي تولّد تلك الانبعاثات وكيفية قياسها واعتمادها وفرض الضرائب عليها.
تُعدّ آليات مثل آلية تعديل الكربون على الحدود التابعة للاتحاد الأوروبي (CBAM)، التي دخلت حيز التنفيذ في العام 2023، مثالاً مبكراً على هذا المسار. وعلى الرغم من أنّ هذه الآلية تستهدف في مرحلتها الأولى القطاعات ذات الكثافة الكربونية المرتفعة، مثل الصلب والإسمنت، إلّا أنّه من المرجّح أن تتوسّع دائرة الرسوم الجمركية ومتطلّبات الشهادات المرتبطة بالكربون لتشمل أسواق الطاقة، بما فيها الغاز الطبيعي المسال والهيدروجين، وصولاً إلى النفط في نهاية المطاف. وفي الوقت نفسه، تظهر ضغوطات تنظيمية جديدة، مثل قواعد الاتحاد الأوروبي الخاصّة بكثافة انبعاثات الميثان، ومعايير انبعاثات قطاع الشحن البحري التي تفرضها المنظّمة البحرية الدولية، وتسعير الكربون داخل الاتحاد الأوروبي، إلى جانب قانون الاتحاد الأوروبي توجيه العناية الواجبة لاستدامة الشركات، الذي يُلزم الشركات بضمان خلو سلاسل التوريد من العمل القسري والأضرار البيئية. وتُعيد هذه الأطر مجتمعة رسم ملامح قواعد التجارة العالمية، وتفرض متطلّبات متزايدة على مصدري الطاقة في ما يتعلّق بالامتثال والحصول على الشهادات البيئية. وفي آسيا، بدأ بعض من أكبر مستوردي الغاز الطبيعي المسال في العالم يطالبون بشهادات كربونية مفصلة لكلّ شحنة على حدة.
ومع ذلك، لا يزال العالم يفتقر حتى اليوم إلى معيار عالمي موحّد يحدّد بدقة ما يُعتبر «غاز طبيعي مسال منخفض الكربون»، أو «غاز منخفض الميثان»، أو «هيدروجين نظيف». فالقواعد تُصاغ حتى الآن بشكل مجزأ، وغالباً من دون إشراك أو حتى استشارة كبار مصدّري الطاقة في الدول الخليجية.
وتشكّل هذه التجزئة خطراً كبيراً على المنتجين الخليجيين. ففي غياب معايير موحّدة عالمية، قد يجد المصدّرون أنفسهم في مواجهة شبكة متضاربة من أنظمة الشهادات. ما يُجبرهم على تعديل الشحنات بما يتماشى مع متطلّبات وطنية متغيّرة باستمرار، ما يزيد التكاليف، ويقلّص القدرة على المناورة، ويقوّض الميزات التنافسية في الأسواق العالمية. بل إنّ الهيدروكربونات الخليجية، التي لطالما كانت موضع استهداف وكبش فداء في مفاوضات المناخ الدولية، قد تُوصم بأنّها «ملوّثة» لمجرّد افتقارها إلى شهادة معترف بها، حتى لو كانت انبعاثاتها الكلّية منخفضة نسبياً.
وفي عصر تتصاعد فيه الحمائية الاقتصادية، لا يُولى اهتمام كافٍ لإمكانية تحوّل شهادات الكربون إلى حواجز تجارية غير جمركية، ما قد يؤدّي إلى إقصاء المصدّرين الخليجيين من الأسواق الرئيسة، أو تعرّضهم لضرائب وغرامات عقابية.
وفي مثل هكذا نظام، لم تعد القيمة تُستمدّ مما يُستخرَج من باطن الأرض فحسب، بل مما يتمّ اعتماده والتحقّق منه عند نقطة البيع. وعلى الرغم من الاستثمارات الخليجية الضخمة التي يضخّها منتجو الطاقة في تقنيات احتجاز الكربون، وخفض انبعاثات الميثان، وإنتاج الهيدروجين الأزرق، إلّا أنّهم يظلّون مهددين بفقدان إمكانية الوصول إلى الأسواق إذا لم يتمكّنوا من التحكّم، أو على الأقل المساهمة في صياغة المعايير التي يتمّ بموجبها تقييم منتجاتهم.
لقد أدرّكت شركات النفط الدولية، مثل «شل» (Shell) و«توتال إنرجي» (TotalEnergies) و«بي بي» (BP)، هذه الحقيقة مبكراً، فسارعت بشكل استباقي لبناء أطر اعتماد داخلية، وتسيير شحنات منخفضة الكربون، والتكيّف المبكر مع اللوائح الأوروبية الناشئة. ولا يقتصر هدفها على مجرّد تحقيق الامتثال، بل يتعدّاه إلى التأثير في صياغة مفهوم الامتثال نفسه، بما يضمن أقصى قدر من المرونة والوصول إلى الأسواق المهمّة.
وبينما تستثمر شركات الطاقة الخليجية مثل قطر للطاقة وشركة بترول أبو ظبي الوطنية “أدنوك” (ADNOC) في تقنيات التخفيف من الانبعاثات، إلّا أنّها تبدو أقل حضوراً في مجال صياغة أنظمة الشهادات الناشئة، التي ستحدّد في نهاية المطاف القيمة السوقية لهذه الاستثمارات عالمياً. فبدلاً من الاكتفاء بإزالة الكربون من سلاسل القيمة، ينبغي لهذه الشركات أن تسعى للسيطرة، قدر المستطاع، على معايير قياس نزاهة الكربون نفسها، من حيث دقة البيانات وإمكانية تتبّعها وشفافيتها.
يتوقّف مستقبل الاقتصاد الخليجي على التحوّل من مجرّد الامتثال ورد الفعل إلى دور أكثر فاعلية وتأثيراً في صياغة قواعد منح الشهادات واعتمادها.
وبدلاً من الاكتفاء بالتكيّف مع الأطر التي تصاغ في مناطق بعيدة، سيكون من مصلحة منتجي الطاقة الخليجين أنّ يشاركوا في إنشاء هيئات الشهادات معاييرها بأنفسهم، لا سيّما بالتعاون مع كبار المشترين الآسيويين الذين يتطلّعون إلى معايير واقعية وموضوعية ومرنة، تعترف بدور الغاز الطبيعي كمكوّن أساسي في هذا التحوّل الطاقي، لا كعقبة في وجهه.
فضلًا عن ذلك، وعلى الرغم من الجهود الإقليمية الرامية إلى توحيد المعايير في قطاعات صناعية متعدّدة، فإنّ الدول الخليجية ستكون أكثر استفادة إذا تصدّرت مساعي وضع معايير تركّز على الهيدروكربونات تحديداً، ويمكن أن يتجسّد ذلك في إنشاء «هيئة خليجية لشهادات الكربون»، أو «منصّة عربية لمعايير الطاقة منخفضة الكربون»، بما يمكّنها من وضع معايير معترف بها إقليمياً وعالمياً للغاز الطبيعي المسال منخفض الكربون والمنتجات النفطية المنخفضة الانبعاثات. ويمكن لهذه المؤسّسات أن تضمن تقييماً منصفاً للهيدروكربونات الخليجية، فضلاً عن توفير منصّة تفاوض عند التعامل مع العملاء في أوروبا وآسيا وسائر الأسواق العالمية.
والأهم من ذلك، أن تتيح سيادة الدول الخليجية على أنظمة الشهادات فرصة الدفاع عن دور الغاز الطبيعي في سردية التحوّل الطاقي، لا سيّما في ظلّ تصاعد الضغوط عليه في المنتديات المناخية الدولية. ومن دون هكذا جهود، قد تفرض السرديات الخارجية رؤيتها، فتصوّر جميع أنواع الهيدروكربونات، بصرف النظر عن مستوى انبعاثها الفعلي، كعقبات أمام جهود الحدّ من تغيّر المناخ، وتُقصيها من السوق عبر آليّات التسعير.
كتابة القواعد
إنّ ما تمتلكه الدول الخليجية من الموارد المالية الضخمة، والاستثمارات التكنولوجية، وثقل نفوذها الدبلوماسي، يؤهّلها لأن تقود مشهد الطاقة، شريطة أن تبادر فوراً إلى التركيز على ثلاث أولويات ملحّة:
أولًا، تطوير شراكات لاعتماد الشهادات مع كبار المستوردين، مثل اليابان وكوريا والهند والصين، للمشاركة في صياغة معايير كربونية مشتركة تتماشى مع واقع الطاقة والمصالح الوطنية الخليجية، وهو ما يعدّ مرحلة أولية بالغة الأهمية في عملية التنفيذ. ثانياً، يكمن النجاح في إنشاء بنية تحتية إقليمية موثوقة وشفافة، ترتكز على أنظمة القياس والإبلاغ والتحقّق (MRV) تنبثق من مؤسّسات خليجية وتستفيد من رصيد معرفي عربي. ثالثاً، فمن الأهمية بمكان أن تُقدَّم الهيدروكربونات الخليجية للعالم، لا بوصفها مصادر طاقة أنظف وصديقة للبيئة فحسب، بل أيضاً كإسهامات موثقة ومعتمدة في الجهود العالمية لإزالة الكربون.
ستمكّن هذه الخطوات الدول الخليجية ليس ضمان استمرار إمكانية وصولها إلى أسواق الطاقة العالمية فحسب، بل أيضاً تعزيز دورها كجهة أساسية في صياغة نظام الطاقة العالمي الجديد.
في عصر المساءلة الكربونية، من يضع المعايير هو من يتحكّم في تدفقات الطاقة ورأس المال والنفوذ العالمي. ومع ذلك، لا يزال الخطاب السائد في الجنوب العالمي، وخصوصاً في الدول الخليجية، منصبّاً على السيطرة على الموارد وحصص الأسوأق أو توسيع سلاسل القيمة في مراحل التكرير والتوزيع، وبالكاد يُولَى أي اهتمام لصياغة قواعد اللعبة نفسها، أي وضع المعايير وشهادات الاعتماد والأطر التي تحدّد القيمة العالمية وإمكانيات الوصول إلى الأسواق. وإذا كانت الدول الخليجية تطمح لأن تكون منطقة لصناعة القيمة الحقيقية، لا مجرّد مُصدّر للسلع وفق أنظمة تُصاغ في أماكن أخرى، فلا بدّ لها من ثورة مفاهيمية جذرية.
إنّ السيادة الحقيقية في مراحل الإنتاج الأولية لا تقتصر على حسن إدارة الموارد فحسب، بل تتجسّد في امتلاك القدرة والإرادة على صياغة المعايير التي تتحكم في شريان الاقتصاد العالمي. ولم يعد السؤال الوجودي الذي يواجه صُنّاع السياسات الخليجيين اليوم هو ما إذاكان عليهم التكيّف مع ضغوط التحوّل المناخي فحسب، بل ما إذا كانوا سيبادرون إلى صياغة مقاييس النجاح، أم سيكتفون بأن يكونوا خاضعين هم أنفسهم لمعايير يضعها غيرهم.