شهدت الأسابيع الأخيرة تصاعداً حاداً في التوتّرات الكامنة المزمنة بين الجزائر ومالي، حتى باتت على وشك الانفجار بعد وقوع سلسلة من التفجيرات على طول الحدود بين الدولتين. ففي 1 أبريل، أسقطت الجزائر مسيّرة مسلّحة تابعة لمالي فوق منطقة تين زاوتين الحدودية الحسّاسة. وزعم كلّ من الطرفين أنّ الحادثة وقعت في مجاله الجوّي السيادي. ردّت مالي بالانسحاب من لجنة الأركان العملياتيّة المشتركة (CEMOC)، وهي مبادرة إقليميّة لمكافحة الإرهاب مقرّها في الجزائر، فيما استدعى تحالفُ دول الساحل (AES)، المؤلّف من مالي والنيجر وبوركينا فاسو، سفراءه لدى الجزائر. ولم تمض أيام حتى أقدم البلدان على إغلاق مجالها الجوّي.
جاءت واقعة أبريل في أعقاب حادثة أخرى وقعت قبل أقلّ من أسبوعَين في 17 مارس، حيث أطلقت مسيّرة مالية النار على شاحنات جزائرية ودمّرتها بالقرب من الحدود، مدّعيةً أنّها كانت تنقل إمدادات لمجموعات الطوارق المتمرّدة، ما حمل الجزائر على التوعّد بردٍ انتقامي. وفي ظلّ غياب تحرّك دبلوماسي عاجل وحذر، فقد يخرج الوضع عن السيطرة.
مقاربتان مختلفتان
تعود جذور التوتّرات الأخيرة إلى الثورة الليبيّة التي انطلقت أوائل العام 2011 وأسفرت عن سقوط نظام معمر القذافي في وقتٍ لاحق من السنة نفسها. وحضّت الاضطرابات التي تلت سقوطه متمردّي الطوارق المسلّحين على العودة إلى مالي، ما أدّى إلى اندلاع تمرّدات قبليّة وإسلاميّة في شمال البلاد. وإدراكاً منها لخطورة الانزلاق نحو التفكّك الإقليمي، سارعت الجزائر إلى التوسّط، بما أنّها تتقاسم حدوداً سهلة الاختراق مع مالي على طول 1400 كم وتضمّ سكاناً من الطوارق يقيمون روابطاً مع الدول المجاورة. وتوّجت جهودها باتفاق الجزائر للعام 2015، أي اتفاق السلم والمصالحة الذي أُبرم بين باماكو وائتلاف من مجتمعات الطوارق، بمن فيهم بعض الانفصاليين، في العاصمة الجزائرية وصادقت عليه الأمم المتّحدة.
غير أنّ الانقلابات المتعاقبة التي شهدتها مالي بين عامي 2020 و2021 قد مكّن مجلس عسكري عدائي وعديم الخبرة من تسلّم مقاليد السلطة في البلاد. فعادت الحكومة المالية الجديدة بقيادة الكولونيل أسيمي غويتا إلى القتال في الشمال بمساعدة مرتزقة من فيلق أفريقيا التابع لروسيا، الذي كان يُعرف سابقاً بمجموعة “فاغنر”. وأعادت حكومةُ مالي الجديدة تفسير إصرار الجزائر على التوسّط مع الطوارق ومجموعات المعارضة الأخرى، حفاظاً على الاستقرار الإقليمي، على أنّه تدخّل في شؤونها وازدادت شكوكها تجاه جارتها الشمالية. ولم يشفع للجزائر نجاحها في إحباط مساعي المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “إيكواس” (ECOWAS) للتدخّل عسكرياً في منطقة الساحل في العام 2023، إثر سلسلة الانقلابات التي أعادت رسم المشهد السياسي الإقليمي، ولم تفلح في تغيير رأي باماكو أو كسر الجمود الدبلوماسي بين البلدين.
موضوع الخلاف
لا تزال الهواجس الأمنية المستمرّة في منطقة الساحل في صلب التوتّرات بين الدول إذ يشكّل الساحل بؤرة ملتهبة للتطرّف العنيف، فالمنطقة تعجّ بفصائل جهادية مثل تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي (AQIM) وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين (JNIM) وتنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى (ISGS). وقد تصاعدت حدّة الصراعات المسلّحة مع استغلال هذه المجموعات ضعف الحوكمة في المنطقة وتنامي التوتّرات بين مكونات المجتمعات المحلّية.
من ناحية أخرى، خلّف انسحابُ بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعدّدة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي “مينوسما” (MINUSMA) واختتام عمليّة برخان الفرنسية في العام 2022، وهي حملة عسكرية قادها الجيش الفرنسي في منطقة الساحل والصحراء الكبرى، فراغاً أمنيّاً واجه الجيش المالي صعوبةً في ملئه. وعلى الرغم من توفير فيلق أفريقيا الدعم التكتيكي، إلّا أنّ وجوده ما لبث أن أثار جدلاً حاداً.
ونظراً للروابط التاريخية والثقافية والعائلية الوثيقة بين قبائل الطوارق عبر حدود منطقة الساحل، بالإضافة إلى الصلات عن طريق الزواج بين بعض المقاتلين الجهاديين والمجتمعات المحلّية الساعية إلى كسب حمايتهم، حرصت الجزائر على انتهاج مقاربة توفيقيّة تجاه المتمرّدين من الطوارق بغية تجنّب زعزعة الاستقرار الإقليمي. وفضّلت في الوقت عينه التعاون الأمني الإقليمي، على غرار عملية نواكشوط بقيادة الاتحاد الأفريقي. فأدّت الجزائر على مرّ التاريخ دور الوسيط في الصراعات الداخلية في مالي، بما فيها تمرّد الطوارق في التسعينات وفي العام 2006 ومن ثمّ في العام 2012. وإثر الهجوم الإرهابي على منشأة للغاز في مدينة عين أمناس الجزائرية في العام 2013، نشرت الحكومة أنظمة مراقبة وقوّات خاصة في المناطق الواقعة مباشرة على حدودها مع مالي بغية حماية البنى التحتية للنفط والغاز التي تُعدّ حيوية بالنسبة إلى اقتصادها.
انهيار اتفاق الجزائر
وجّه تسلّم المجلس العسكري مقاليد الحكم في مالي ضربة قاسية للجهود الدبلوماسية الجزائرية، لا سيّما لاتفاق الجزائر لعام 2015، فقد اتّهمت السلطة العسكرية الجزائر بإيواء متمرّدين من الطوارق وبالتدخّل في سياستها الداخلية، خصوصاً بعد المحادثات التي أجرتها الجزائر مع مجموعات من المعارضة. وقد زاد من حدّة التوتّر اعتقاد باماكو بأنّ الجزائر منحازة لصالح قادة الطوارق في شمال البلاد، وبأنّها وفّرت ملاذاً لأعضاء ائتلاف الإطار الإستراتيجي للدفاع عن الشعب الأزوادي (CSP-DPA). وفي سبتمبر 2022، أعلن رئيس الوزراء المالي، العقيد عبد الله مايغا، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أنّ الاتفاق لم يعد سارياً، علماً أنّ الإلغاء الرسمي لم يصدر قبل مطلع العام 2024.
أدّى هذا القرار إلى فقدان قناة دبلوماسيّة محوريّة، ما أثار قلقاً إقليمياً لا سيّما وأنّ اتفاق الجزائر كان معترفاً به دولياً كأساس لتحقيق السلام. وفيما استمرّت العلاقات في التدهور، اتّهمت باماكو في ديسمبر 2024 ويناير 2025 الجزائر بـ”التدخّل المستمرّ” وبتأجيج العنف الانفصالي. إلّا أنّ الجزائر نفت هذه المزاعم، مشدّدة على حيادها الدبلوماسي ودعمها لسيادة مالي ووحدة أراضيها.
المضي قدماً
تحمل عزلةُ مالي المتنامية، بعد قطع علاقاتها الدبلوماسية مع فرنسا والأمم المتّحدة والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا والآن مع الجزائر، في طيّاتها خطر الاعتماد الإستراتيجي المفرط على القوات شبه العسكرية الروسية. والواقع أنّ تحقيق سلام طويل الأجل في منطقة الساحل لا يمكن أن يتمّ من خلال التسلّح الثنائي وحده، بل يتطلّب حوكمةً شاملة وتعاوناً إقليميّاً وتنمية اقتصادية مستدامة. لطالما كان الصراع في شمال مالي في صلب التوتّرات المتواصلة، وبينما عزّزت الجزائر الحوار والجهود الدبلوماسية لحلّ الأزمة، لجأ المجلس العسكري الحاكم في مالي إلى التدخّل العسكري بشكلٍ متزايد.
إنّ خبرة الجزائر في اتّباع سياسة عدم التدخّل وتغليب الحوار تجعلها وسيطاً مثالياً. ويمكن لاتفاق الجزائر، إذا أعيدت صياغته ليشمل آليّات تنفيذ أكثر فاعلية وإشرافاً أوسع من الاتحاد الأفريقي، أن يوفّر إطاراً متجدّداً للمصالحة الوطنية. ويشكّل إدماجُ المجتمع المدني واللامركزية عنصرَين أساسيّين لتحقيق النجاح الدائم المنشود في المدى البعيد.
وتؤدّي دول الساحل الأخرى دوراً لا يقل أهميّة في المشهد الإقليمي. فالنيجر، بما تتمتّع به من علاقات وثيقة مع كل من مالي والجزائر، تبدو مؤهّلة للاضطلاع بدور الوسيط. وعلى الرغم من تقارب النيجر سياسياً مع مالي، إلّا أنّها قد عزّزت في الوقت نفسه روابطها الاقتصادية مع الجزائر من خلال التعاون في مجال الطاقة والبرامج التدريبية. وفي يناير، أبدت الجزائر استعدادها لمساعدة النيجر على بناء مصفاة للنفط ومجمّعاً للبتروكيماويات، ومن ثمّ التزمت بتقديم “هبة” لتطوير محطة لتوليد الكهرباء بقدرة 40 ميغاواط في النيجر، بهدف الحدّ من انقطاع الكهرباء المستمرّ. لذا تُعتبَر نيامي في موقعٍ مناسب يخوّلها تسهيل الدبلوماسية الهادئة وراء الكواليس، شريطة ألّا تنساق وراء طموحات مالي للهيمنة على تحالف دول الساحل.
أساس لإحلال السلام
لا غنى عن مالي والجزائر في مستقبل منطقة الساحل. ويُعتبر التعاون بينهما ضرورياً، لا سيّما نظراً لتاريخهما وجغرافيتهما ومخاوفهما الأمنية المشتركة. وعلى الرغم من المواجهات الأخيرة، لا يزال اتفاق الجزائر لعام 2015 يشكّل أساساً صالحاً لتحقيق السلام. إنّ إعادة الانخراط بين البلدين، عبر تعزيز التكامل الاقتصادي وتنسيق الجهود الأمنية وتغليب الحوار الشامل، ليس أمراً ممكناً فحسب، بل حاجة ملحّة وأولوية قصوى. وبوساطة بنّاءة ودعم إقليمي فعّال، يمكن للدولتين إعادة بناء الثقة ومنع تحوّل منطقة الساحل إلى ساحةٍ صراع على النفوذ. لا شكّ في أنّ مستقبل الدولتين مرتبط بشكل لا ينفصم، وأنّ بناء علاقات قائمة على الاستقرار والتعاون بين الجزائر ومالي مفتاح لتحقيق الازدهار في منطقة الساحل برمّتها. بيد أنّ التوتّرات لا تزال تتصاعد في ظلّ غياب واضح للجهود الدبلوماسية.