أعلن حلف شمال الأطلسي (الناتو)، في قمته السنوية الخامسة والسبعين في يوليو من العام الجاري، عن نيّته فتح أول مكتب اتصال له خاص بمنطقة الشرق الأوسط في الأردن. وعلى الرغم من دلالة افتتاح المكتب بزيادة انخراط القوى الغربية، غير أنّ قدرة الناتو على توسيع عملياته في المنطقة ستكون محدودة نتيجةً للانعطافة المتزايدة التي تُبديها القوى الغربية الكبرى نحو احتواء النفوذ المتنامي للصين وروسيا في الشرق الأوسط وخارجه.
في القمة التي عُقِدت العام الماضي، أعربت المنظمة عن اهتمامها بإنشاء مكتب اتصال في عمّان في إطار خططها لتعزيز الروابط الإستراتيجية القائمة مع الأردن وتوطيد العلاقات الدفاعية مع المنطقة ككل. وفي غضون عامٍ واحد، انطلقت جهود ملموسة لإنشاء المكتب الإقليمي. ونُشِر إعلان وظيفي، على الفور تقريباً بعد انتهاء أعمال القمة، لملء منصب رئيس مكتب الاتصال التابع للناتو، ما يُرجّح تعيين شخص في هذا المنصب في الأشهر المقبلة. قد تكون هذه الجهود المتسارعة لإنشاء المكتب مرتبطة بما تخلّفه الحرب على غزة من تأثير على الأمن الإقليمي والمنافسة بين القوى العظمى. وبوجهٍ خاص، قد يكون التقدّم السريع للناتو انعكاساً للمحاولات التي تقوم بها القوى الغربية للاستفادة من نفوذها الأمني في المنطقة من أجل التصدّي لتأثير الصين وروسيا المتنامي.
يمكن أن يُعزى صعود النفوذ الإقليمي للصين وروسيا إلى الجهود التي تبذلها دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لتنويع تحالفاتها خارج إطار الشركاء الغربيين التقليديين. وقد تكثّفت هذه الجهود في الآونة الأخيرة بسبب الآثار المزعزِعة للاستقرار الناجمة عن الدعم المستمرّ الذي يقدّمه الغرب لإسرائيل في المنطقة الأوسع. ويُعَدّ إعلان بكين لعام 2024، حيث وافق القادة الفلسطينيون من حيث المبدأ على تشكيل حكومة وحدة وطنية، مثالاً بارزاً على توسّع الانخراط الدبلوماسي الصيني مع الشرق الأوسط. ولكن، على الرغم من توطيد الصين علاقاتها الدبلوماسية، لا تزال علاقات بكين الأمنية مع بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في حدّها الأدنى. تعزّز هذه الفجوة، في العلاقات بين منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من جهة والصين من جهة أخرى، دور القوى الغربية في موقع الشركاء الأمنيين الأساسيين للمنطقة.
ّعلى الرغم من أنّ القوى الغربية تسعى إلى الاضطلاع بدور أوسع وأكثر رسوخاً في الأمن الإقليمي – من خلال التنسيق المتعدّد الأطراف عن طريق مكتب إقليمي للناتو – فإن الصراعات في الجوار الأوروبي، ولا سيما توسّع النفوذ الروسي والحرب على أوكرانيا، ستعطّل قدرة تلك القوى على الاضطلاع بهذا الدور. وهذه القدرة محدودة أيضاً بسبب زيادة تركيز الولايات المتحدة على منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ولا سيما مع إطلاق إستراتيجية واشنطن لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ في العام 2022.
تلوح شكوكٌ بالفعل بشأن فعّالية الانخراط الأمني للقوى الغربية مع المنطقةواستدامته. وقد أعرب عددٌ من المسؤولين الأمريكيين عن قلقهم بشأن الإبقاء على الانتشار الواسع للأسلحة والموارد المالية في العمليات الأمنية الإقليمية، مشدّدين على أنّ التكاليف المترتّبة على ذلك ستؤثّر إلى حد كبير في مستقبل التوجّه الإستراتيجي للولايات المتحدة ومصالحها. وبالتالي، لم يعد بإمكان قوى الناتو تحمّل هذه المسؤوليات بمفردها. ولذلك تبحث الآن عن قوى وحلفاء إقليميين يمكنهم الاضطلاع بدور أوضح.
على سبيل المثال، دعت الولايات المتحدة إلى إنشاء تحالف أمني عربي مشترك لحفظ الأمن في غزة بعد الحرب. إذا تشكّلت هذه القوة فعلاً، فعلى الأرجح أنّ قوى الناتو ستستخدم مكتب الأردن لتعزيز التنسيق في إطار جهاز أمني إقليمي. وجاء اعتراض الأردن للصواريخ الإيرانية خلال الهجوم المضاد الذي شنّته طهران على إسرائيل في أبريل الماضي ليؤكّد أهمية القوى الإقليمية المتزايدة في تعزيز مصالح القوى الغربية الأمنية وحمايتها.
سيستمر تنامي التعدّدية القطبية والتفاعل بين القوى العالمية الكبرى والتحالفات الآخذة في التطوّر والمشهد الجيوسياسي المعقّد في تشكيل الديناميات الأمنية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فابتداءً من الوساطة التي قامت بها الصين للتوصّل إلى الاتفاق الإيراني السعودي في العام 2023 وانتهاءً بالاتفاق الأمني الأمريكي السعودي الذي بلغ طريقاً مسدوداً، ينطبع الإطار الأمني لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بسعي القوى العالمية إلى إرساء نفوذ إقليمي. ويأتي إنشاء وجود للناتو في الأردن ليؤكّد على الجهود المكثّفة التي تبذلها القوى الغربية للحفاظ على موقعها على رأس مجموعة القوى العظمى التي تتنافس على النفوذ في بنية المنطقة الأمنية؛ ولكن قدرة المكتب الإقليمي على تحقيق انخراطٍ مجدٍ ستوضَع على محك الاختبار بفعل التحديات الأمنية المختلفة في المناطق المجاورة التي تتقدّم على الشرق الأوسط.