عندما زار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الخليج الشهر الماضي، وسط ضجّة واحتفالات منسّقة، تعزّز لدى الدول الخليجية شعور متزايد بأنّ المنطقة تشهد صعوداً سياسياً. وكانت جولة ترامب، التي استغرقت أربعة أيام وشملت المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتّحدة، أول رحلة خارجية كبرى له في ولايته الثانية، وهي خطوة مدروسة لتجاوز حلفاء الولايات المتّحدة التقليديين، بمن فيهم إسرائيل. وفي ظلّ هذا التحوّل، يرى المسؤولون والأكاديميون الخليجيون أنفسهم، بشكل متزايد، جزءاً من كتلة صاعدة ذات نفوذ كبير على الساحة الدولية.
يبدو أنّ الافتراض، الذي عكسته اتفاقيات أبراهام بأنّ الوصول إلى الولايات المتّحدة يمرّ عبر إسرائيل، بدأ يتراجع لصالح ثقة جديدة بأنّ الدول الخليجية قادرة على التعامل مباشرة مع واشنطن، والتأثير في قراراتها وفق شروطها. وكما صرّح مؤخّراً وزير الدولة الإماراتي السابق للشؤون الخارجية أنور قرقاش، «يُنظر إلى ميزان القوى على أنّه يميل لصالح الخليج».
ويبقى التساؤل مطروحاً حول ما إذا كانت هذه الافتراضات تعكس واقعاً فعلياً أو تستند إلى تحوّلات ملموسة ودائمة في النظام الدولي، إذ لم تتضح معالم ذلك بعد. في الواقع، دقّ قرار ترامب بالانضمام إلى إسرائيل في عدوانها على إيران، وما أعقبه من ضربات انتقامية إيرانية استهدفت قاعدة العُديد العسكرية في قطر، ناقوس الخطر في العواصم الخليجية. والآن يحاول القادة جاهدين للحفاظ على استمرار وقف إطلاق النار الهشّ.
لقد شكّلت الأزمة الإيرانية الإسرائيلية مخاطر عميقة، بل وجودية، للدول الخليجية. لكنها وفّرت أيضاً فرصاً ثمينة لتعزيز نفوذها لدى واشنطن، وتقديم نفسها كوسيط إقليمي، والظهور، على النقيض من إسرائيل، بصفة الطرف الأكثر مسؤولية في المشهد الإقليمي. وكما قال أستاذ إماراتي بعد التوصّل إلى وقف إطلاق النار: «لا يزال الوقت لصالح الدول الخليجية، وسيبقى كذلك لسنوات مقبلة».
ولا يُظهر أحد هذه الرغبة بوضوح أكثر من الإمارات العربية المتّحدة، التي لطالما قدّمت نفسها كدولة متقدّمة على جيرانها. وغالباً ما توصف الإمارات في الغرب بـ «إسبرطة الصغيرة»، وهو لقب يعكس قوّتها العسكرية، وتدخّلاتها الإقليمية، وطموحاتها الإستراتيجية، كما يعبّر عن تنامي قدراتها العسكرية واستعدادها المتزايد لإبراز نفوذها، بما في ذلك دعمها للمصالح الأمريكية. ولكن إذا كانت الإمارات العربية المتّحدة راضية في السابق بأن يُنظر إليها من هذا المنظور، فهي لم تعد ترغب في حصرها فيه.
تضع أبو ظبي اليوم لنفسها دوراً أكثر تعقيداً، لا تمليه تصوّرات أو مصالح خارجية، بل حساباتها الإستراتيجية الخاصّة وسعيها الدؤوب لبلورة أجندة مستقلّة تعكس أولوياتها الأمنية وطموحاتها في بسط النفوذ على الساحة العالمية. وفي هذا التصوّر الجديد، تطرح الإمارات العربية المتّحدة نفسها كبديل عقلاني وموثوق عن إسرائيل، أي دولة يمكن الشراكة معها، والتعلّم منها، وربّما استقطاب الكفاءات والخبرات منها للمساعدة في بناء صرح نفوذها الخاص في الداخل وترسيخ مكانتها كقوّة صاعدة في المنطقة.
حذّر المحلّل الإماراتي محمد بحرون مؤخّراً، في سلسلة من التغريدات على منصّة إكس (تويتر سابقاً)، من أنّ إسرائيل تخاطر بأنّ تصبح المصدر الرئيس لعدم الاستقرار في المنطقة، مشبهاً موقفها بشخصية «ثور» الأسطورية، الذي لا تأتي قيمته إلّّا من مطرقته. وأشار إلى أنّ المنطقة لم تعد تتقبّل فاعلين يشبهون الآلهة يستخدمون القوّة الغاشمة، بل تحتاج إلى أطراف موثوقة قادرة على بناء شراكات اقتصادية وتقديمها على التحالفات الأمنية. وشكّلت هذه التغريدات ترويجاً ضمنياً للإمارات العربية المتّحدة بوصفها البديل المتزن والموثوق إقليمياً ودولياً.
ركيزة إقليمية جديدة
قدّمت حرب غزّة وعزلة إسرائيل المتزايدة على الساحة الدولية فرصة إستراتيجية للإمارات لتعزيز هذه الصورة، وقد وُضِع أساسها في وقت سابق، وتحديداً في خلال أزمة حيّ الشيخ جرّاح في القدس في العام 2021، حين أثارت محاولات إسرائيل تهجير السكّان الفلسطينيين سخطاً دولياً.
تزامن تصاعد هذا الغضب العالمي مع تقرير لافت لمنظّمة «هيومن رايتس ووتش» يتّهم إسرائيل بممارسة الفصل العنصري، وتنامي استعداد وسائل الإعلام الغربية لمنح مساحة لأصوات فلسطينية تتحدّى السردية الإسرائيلية، ما يشير إلى تغيّر محتمل في المزاج العالمي يمكن أنّ يكتسب زخماً سريعاً. ولم يكن الغضب موجّهاً من العالم العربي فحسب، بل كان عالمياً، ما دفع الإمارات العربية المتّحدة إلى تخفيف القيود الصارمة التي كانت تفرضها على الانتقادات العلنية لإسرائيل، والتي لم تكن مقبولة في أعقاب التطبيع.
وإدراكاً منها لهذه التحوّلات على الصعيدين المحلّي والدولي، بدأت الإمارات العربية المتّحدة في تصوّر دور جديد لنفسها كركيزة إقليمية.
تنعم الإمارات باستقرار سياسي، وازدهار اقتصادي، وتقدّم صورة من التسامح الاجتماعي، وحرصت الإمارات العربية المتّحدة على ترسيخ مكانتها كقوّة وسطى صاعدة، وبخلاف إسرائيل، فهي تعتمد على إمكاناتها الذاتية ولا تعوّل على المساعدات الأجنبية. وتعتبر الإمارات العربية المتّحدة نفسها نموذجاً ناجحاً للتعايش غير الديمقراطي، فهي لا تعاني من صراعات داخلية دائمة، وتنأى بنفسها عن تهديدات جيرانها. وبعد عقود من قمع النشاط الإسلامي محلّياً وخارجياً، تطرح الإمارات نفسها كحليف موثوق للغرب، ونموذج لـ«الاستبداد العلماني».
وبينما تستمرّ الإمارات العربية المتّحدة في العمل كحصن منيع ضدّ الإسلاموية، أبدت ارتياحاً في التعامل مع أشكال مختلفة من الأصولية الدينية في أماكن أخرى، سواء بتعميق العلاقات مع الحكومة اليمينية الحالية في إسرائيل، أو توطيد العلاقات مع القيادة القومية الهندوسية في الهند، أو احتضان الشبكات الإنجيلية الأمريكية. وبالنسبة إلى أبوظبي، يمكن تبرير هذه الأصوليات والتسامح معها، أو حتى الشراكة معها طالما لا تشكّل تهديداً مباشراً لشرعيّتها الداخلية أو طموحاتها الإقليمية.
وتنظر الإمارات العربية المتّحدة إلى صعود الهند بهويتها الحضارية الفريدة كدليل على إمكانية التعايش بين القومية الدينية والمكانة الدولية المرموقة. ومع ذلك، يبقى القاسم المشترك هو القوّة الصلبة، أي القدرة النووية والثقل الاقتصادي والأهميّة الإستراتيجية، وهي عملة تسعى الإمارات العربية المتّحدة جاهدة إلى اكتسابها. غير أنّها، بخلاف الهند، تعمل على صياغة هوية وطنية تبرز إرثها الثقافي بمعزل متعمّد عن الدين، لدحض السردية القائلة بأنّها وجيرانها الخليجيين يفتقرون إلى العمق التاريخي أو الثقافة الأصيلة أو الجذور الحضارية.
ومن الأمثلة اللافتة على ذلك، ما حدث في خلال زيارة ترامب إلى الإمارات العربية المتّحدة، عندما سار ورئيس دولة الإمارات صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد بين صفّين متقابلين من راقصي «العيالة» الذكور المدججين بالسيوف، تصحبهم فرق من الراقصات الشابات المعروفات بـ«النعاشات». وعلى الرغم من أنّ العرض أثار استغراب المراقبين الدوليين، كان تصميمه مدروساً: فالإمارات لا تؤكّد على تراثها الثقافي فحسب، بل تُظهر أيضاً صورة ليبرالية عبر تقديم الراقصات في مشهد عام بارز.
وكان لهذا المشهد أيضاً بُعد رمزي أعمق من مجرّد الاستعراض، إذ حمل في طياته رسالة تحدٍٍّ واضحة. ففي خضمّ القطيعة المريرة بين قطر والإمارات العربية المتّحدة بين عامي 2017 و2021، عندما انحدرت الخلافات الدبلوماسية إلى تبادل الإهانات الشخصية البذيئة التي وُجهت إلى أمّهات حكّام البلدين، تعرّضت العائلة الحاكمة في أبوظبي لعبارة مسيئة، وأطلق عليهم «أبناء النعاشة». وكان القصد من ذلك إهانة والدة الشيخ محمد بن زايد، الشيخة فاطمة، التي يُقال إنّها كانت «نعاشة» شابّة قبل أنّ تلفت بجمالها انتباه الشيخ زايد. ولا تزال هذه العبارة تتردّد في وسائل التواصل الخليجية.
من هنا، لم يكن عرض النعاشات في خلال مراسم رسمية رفيعة المستوى مجرّد استعراض ثقافي، بل استعادة حقّ رمزية، تحوّل الإهانة إلى مصدر للفخر الوطني.
سدّ فراغ جيوسياسي
وبعيداً من إعادة تشكيل صورتها الثقافية، كانت الإمارات العربية المتّحدة بارعة في الترويج لثروتها واستقرارها وانفتاحها العالمي. فمن الإعلانات المتكرّرة للمسؤولين الحكوميين عن شراكات جديدة مع رؤساء شركات وادي السيليكون، إلى زخم التغطيات الإعلامية في الصحف المحلية والدولية التي تشيد بالإمارات العربية المتّحدة كمركز لجذب لرأس المال العالمي والنخب المهاجرة، كانت الرسالة واضحة: تسعى الإمارات العربية المتّحدة لأن يُنظر إليها كملاذ آمن للاستقرار في شرق أوسط متقلّب.
وفي ظلّ انغماس إسرائيل في حرب طويلة في غزّة وتورّطها في صراع مع إيران، فضلاً عن الأزمات الدبلوماسية والضغوط الاقتصادية المتزايدة، ترى الإمارات العربية المتّحدة في ذلك فرصة إستراتيجية سانحة، فهي على أهبّة الاستعداد لاحتضان موجة متوقّعة من رؤوس الأموال والمواهب بينما يبحث المستثمرون والشركات عن بيئة أكثر استقراراً.
كما تعزّز الإمارات العربية المتّحدة حضورها في قطاعات لطالما سيطرت عليها إسرائيل، مثل التكنولوجيا والدفاع والدبلوماسية. ومثال على ذلك، إعلان أبوظبي في خلال زيارة ترامب عن خطط لبناء أكبر تجمّع لمراكز بيانات الذكاء الاصطناعي خارج الولايات المتّحدة، ما يعزز موقعها كمركز تكنولوجي إقليمي.
لكن لا يقتصر طموح الإمارات العربية المتّحدة على المنافسة في مجال التكنولوجيا فحسب. فلقد منحها اضطراب حركة الملاحة في البحر الأحمر بسبب الحوثيين فرصة لفرض نفسها كنقطة محورية في شبكة لوجستية إقليمية ناشئة، وإن كانت لا تزال في طور التطلّعات. وردّاً على الهجمات التي استهدفت السفن، أطلقت أبوظبي مبادرة لإنشاء جسر برّي لتجاوز التدخّلات الحوثية وتسهيل نقل البضائع برّاً إلى إسرائيل عبر الإمارات العربية المتّحدة والمملكة العربية السعودية.
يُطرح هذا المشروع بكونه خياراً إستراتيجياً احتياطياً، لكنه في جوهره يشكّل نموذجاً أولياً لطموح طويل المدى وأشمل، وهو تطوير ممرّ تجاري عابر للمناطق يربط الهند بأوروبا عبر الشرق الأوسط، مع استعداد الإمارات العربية المتّحدة لتولّي دور أساسي فيه. وفي إطار تعزيز هذا التصوّر، وقّعت أبوظبي مؤخّراً مذكّرة تفاهم بقيمة 800 مليون دولار لتطوير ميناء طرطوس في سوريا، وهي صفقة يصعب تخيّل أنّ إسرائيل قادرة على إبرامها نظراً لعدائها مع سوريا ومعظم دول المنطقة.
لكن طموحات الإمارات العسكرية مستوحاة أيضاً من البصمة العسكرية الإسرائيلية، سواء داخل المنطقة أو خارجها. لقد خلقت الإبادة الجماعية المستمرّة في غزّة غطاءً مناسباً، ومكّنت الإمارات العربية المتّحدة من توسيع نطاق تحرّكاتها وتدخّلاتها العسكرية، لا سيّما في أفريقيا، حيث بات السودان مسرحاً رئيساً لاستعراض قوّتها العسكرية ونفوذها.
وبالاستفادة من الرأسمال الدبلوماسي الذي وفّرته اتفاقيات أبراهام، تمكّنت الإمارات العربية المتّحدة من استباق الانتقادات وصرف الأنظار عن تورّطها العسكري في السودان وصراعات أخرى في أفريقيا. وبهذا النهج، هي ترى نفسها في موقع حصانة نسبية، شبيهة بتلك التي تمتّعت بها إسرائيل تاريخياً بفضل توافقها مع المصالح الأمنية الغربية. لكن، بخلاف إسرائيل، تمكّنت الإمارات العربية المتّحدة حتّى الآن من تفادي موجات الإدانة الدولية، والمحافظة على صورة من البراغماتية والاستقرار، على الرغم من تدخّلاتها شبه الإمبريالية في حروب مثل السودان واليمن وليبيا.
ومثال على ذلك، قرار محكمة العدل الدولية الأخير برفض الدعوى السودانية التي تتّهم الإمارات العربية المتّحدة بالتواطؤ في الإبادة الجماعية لدورها في تسليح قوّات شبه عسكرية وتمويلها، وذلك بحجّة عدم امتلاك الاختصاص. وقد احتفلت الإمارات العربية المتّحدة بهذا القرار باعتباره نصراً كبيراً ودليلاً على قوّتها الناعمة، متناسية أنّ الرفض كان لأسباب إجرائية بحتة. وبينما تواجه إسرائيل اتهامات مستمرّة باختبار الأسلحة وتقنيات المراقبة على الفلسطينيين تحت الاحتلال، تروّج أبوظبي لبيئتها التنظيمية المتساهلة بوصفها حقل اختبار للابتكار التكنولوجي، حيث يمكن للمديرين التنفيذيين تجربة منتجاتهم المتقدّمة من دون رقابة صارمة.
وفي هذا السياق، تبدو الإمارات العربية المتّحدة وكأنّها تسعى لتكون بديلاً لإسرائيل: حليفاً إقليمياً عقلانياً وموثوقاً للقوى الغربية، لا يهدّد شرعية النظام العالمي، ولا يمنح خصوماً مثل روسيا والصين فرصة لاستغلال انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي وشلل المؤسّسات متعدّدة الأطراف لمصلحتهم. ومن خلال تجنّب الإحراجات الدبلوماسية المباشرة والتبعات القانونية التي تعانيها إسرائيل، تستعدّ الإمارات العربية المتّحدة لملء فراغ جيوسياسي محتمل، إذا ما أدّت تناقضات المشروع الإسرائيلي إلى تقويض استمراره على المدى الطويل.