أجريت الانتخابات الرئاسية في روسيا هذا الأسبوع بعد عامين ونيّف على غزو روسيا لأوكرانيا. في المقابل يبدو أن أوكرانيا على وشك تأجيل الانتخابات المقررة في نهاية مارس. ويُزعم أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنفق أكثر من مليار دولار على حملة علاقات عامة تمهيداً للانتخابات التي فاز بها بشكل ساحق. ما أهميّة هذه الانتخابات بالنسبة إلى الدولتين والحرب المستمرّة بينهما؟
في الانتخابات الروسية، كان الفائز محسوماً سلفاً، ألا وهو الرئيس الحالي فلاديمير بوتين. لقد خاض الانتخابات كمرشّحٍ مستقلّ، مصوّراً نفسه على أنّه متفوّق على السياسات الحزبية المنقسمة. في الواقع، إنّ الأحزاب ضعيفة في روسيا المعاصرة وثانوية بالنسبة إلى الشخصيات السياسية. في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي جرت في العام 2018، نال بوتين حوالي 77 في المئة من الأصوات. أمّا هذه المرة، فقد فاز بنسبة 87,8 في المئة بحسب صناديق الاقتراع. توخّياً للوضوح، على الأرجح أنّ بوتين يحظى بتأييدٍ واسع في الداخل الروسي. لكن من شبه المستحيل معرفة حجم هذا الدعم كون الانتخابات خاضعة لمراقبةٍ شديدة. من هذا المنطلق، من غير المرجّح أن تؤثّر الانخابات في الاجتياح الروسي لأوكرانيا أو في السياسة الخارجية على نطاقٍ أوسع.
لكن قد يتضّح أنّ لمسألة انتخابات أوكرانيا تأثيراً أكبر في مجرى الحرب. لأسباب مختلفة، كييف غير قادرة على إجراء الانتخابات أم غير مستعدّة لذلك. من جهة، أعلنت أوكرانيا الحكم العسكري بعد الغزو، ما وضع حدّاً للعملية الديمقراطية في ظلّ حظر الانتخابات. ويبدو أنّ ثمة توافق شعبي وسياسي في البلاد حول تأجيل الانتخابات إلى حين تضع الحرب أوزارها.
بيد أنّ معارضي دعم الغرب لأوكرانيا في أماكن مثل الولايات المتحدة، لا سيما في الأوساط الموالية لترامب في الحزب الجمهوري، يستغلّون على ما يبدو مسألة تعليق الانتخابات كذريعة لوقف المساعدات العسكرية لكييف. وإذا توقّف دعم الدول الغربية على هذا الأساس، سيكون لمصير الانتخابات الأوكرانية تأثير في الحرب أكبر من تأثير الانتخابات الروسية تقنياً، حتى لو لم تجرِ هذه الانتخابات أبداً.
وجد تقريرٌ حديث صادر عن “معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام” (SIPRI) أنّ حجم صادرات الأسلحة الروسية قد انخفض بشكلٍ حاد في السنوات الأخيرة، لمّا كانت الحرب في أوكرانيا تستهلك قدرة موسكو الإنتاجية وإمداداتها. وفي خلال الفترة نفسها، استوردت دول في الشرق الأوسط غالبية أسلحتها من الولايات المتحدة وأوروبا. كيف ينعكس هذا التوازن المتغيّر في مبيعات الأسلحة على علاقات روسيا مع دول الشرق الأوسط؟
يكشف التقرير الصادر عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام” كيف أنّ المنافسة بين القوى العظمى بالإضافة إلى اجتياح أوكرانيا تعيد تشكيل ليس البيئة الأمنية العالمية فحسب، بل أيضاً حصّة القوى الكبرى من سوق الأسلحة العالمية. لقد ارتفعت حصّة الغرب (أي حصّة الولايات المتحدة وأوروبا الغربية مجتمعة) من 62 في المئة بين العامين 2014 و2018 إلى 72 في المئة بين العامين 2019 و2023. في المقابل، شهدت حصّة روسيا انخفاضاً كبيراً بنسبة 53 في المئة في خلال الفترة عينها. وجاءت المملكة العربية السعودية وقطر ضمن أكبر ثلاثة مستوردين للأسلحة في العالم بين العامين 2019 و2023، في حين أنّ مصر حلّت في المراتب العشرة الأوائل. وتشتري هذه الدول الغالبية العظمى من أسلحتها من الغرب.
يعتمد فهم التراجع الكبير في صادرات الأسلحة الروسية على عوامل متعدّدة. أولاً، من المحتمل أن يكون أداء الأسلحة الروسية الضعيف في أوكرانيا قد انعكس على جاذبيتها وأضعف شهيّة مستوردين محتملين، بما في ذلك في الشرق الأوسط.
ثانياً، لقد حدّ التهديدُ بفرض عقوبات مباشرة أو ثانوية من استعداد عددٍ من الدول للتعاون في مجال الصناعة الدفاعية أو التجارة مع روسيا من خلال زيادة كلفة شراء الأسلحة الروسية. ينبغي على أي دولة، لا سيما إذا كانت من القوى الوسطى وتريد شراء أسلحة روسية، أن تأخذ خطر العقوبات الغربية أو الثانوية في عين الاعتبار.
ثالثاً، تركّز الصناعات العسكرية الروسية بشكلٍ أساسي على تلبية حاجات البلاد المتزايدة من الإنتاج. على سبيل المثال، فَقَدَ أسطول روسيا في البحر الأسود زهاء ثلث سفنه القتالية في خلال العامين الماضيين. بالتالي، عوضاً عن التصدير، من المرجّح أن تنكبّ الصناعةُ الدفاعية الروسية على تلبية الطلب المحلي.
وأخيراً، كانت الحصّة الروسية من سوق الأسلحة في دول مجلس التعاون الخليجي متواضعة على مرّ التاريخ، إن لم تكن زهيدة. إلّا أنّه من المهم مراقبة تغيّر حصّة روسيا في الدول الصديقة لموسكو تقليدياً. على سبيل المثال، لا تزال روسيا أكبر مورّد للأسلحة في الهند، حيث تمثّل حوالي 36 في المئة من الواردات وفقاً للتقرير أعلاه. بيد أنّ حصّتها الإجمالية في سوق الأسلحة في الهند انخفضت بشكلٍ كبير. في المقابل، عزّزت فرنسا وجودها في الهند إلى حدّ بعيد. وإذا استمرّت هذه الاتجاهات على هذا المنوال، فسيكون لها تداعيات كبيرة على نفوذ روسيا ومكانتها في هذه الدول، لا سيّما أنّ التعاون في مجال الدفاع يخلق علاقات وتبعيات طويلة الأمد.
على خلفيّة الأحداث في غزة وأوكرانيا، كيف تغيّر دور روسيا الإقليمي ومكانتها في الشرق الأوسط؟
في مستهل غزو روسيا لأوكرانيا، برزت توقّعات بأنّ الحرب ستنعكس سلباً على مكانة روسيا في الشرق الأوسط، غير أنّها لم تتحقّق بأي شكلٍ من الأشكال. بالفعل، لا تزال موسكو تسعى جاهدةً إلى المحافظة على مكانتها ونفوذها في الجيوسياسة الإقليمية، في الوقت الذي تحاول فيه دول الشرق الأوسط تحقيق توازن جيوسياسي بين الكتلة الغربية وروسيا.
لقد عزّزت موسكو دورها في شؤون الإقليم الأمنية لسنوات، لا سيما منذ إنشاء موطئ قدم لها في البحر الأبيض المتوسّط من خلال سوريا في العام 2013 وتدخّلها العسكري اللاحق في الحرب الأهلية السورية في العام 2015. نتيجةً لذلك، ظهرت أنواعٌ مختلفة من التبعيات وأوجه الاعتماد المتبادل بين روسيا وعددٍ من الجهات الإقليمية. وقد أصبح ذلك عاملاً مهمّاً تأخذه الجهات الإقليمية بعين الاعتبار عند صياغة ردود السياسات على غزو روسيا لأوكرانيا. بالفعل، لقد سهّلت روسيا عدداً من أدوار الوساطة لدول مثل تركيا والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية من أجل إبقائها في موقفٍ محايد بدلاً من دعم السياسة الغربية.
أمّا إحدى النتائج الأخرى، فهي أنّ الحربَين في أوكرانيا وغزة قرّبتا روسيا إلى “محور المقاومة” بقيادة إيران، على الرغم من أنّ الوضع معقّد نوعاً ما، كون الحربان أعاقتا أيضاً التقارب بين سوريا والعالم العربي، الذي يحظى بدعم روسيا.
وتوقّع البعض كذلك أن ينعكس الغضبُ في الشرق الأوسط حيال ازدواجية معايير الغرب في مقاربته تجاه غزة وأوكرانيا إيجاباً على روسيا والصين في المنطقة. غير أنّ ذلك لم يتحقّق فعلياً حتى الآن، لا سيما أنّ خطاب موسكو الذي ينتقد بحدّة ازدواجية الغرب لم يتحوّل إلى سياسةٍ بديلة ذات مصداقية. وحتى الآن، أكثر خطوة ملموسة أخذتها روسيا هي استضافة محادثات بين الفصائل الفلسطينية المتخاصمة، علماً أنّ نتائج هذه المبادرة غير أكيدة.
غير أنّ موسكو مستفيدة من أزمة غزة التي لا تشكّل مجرّد تطوّر إقليمي، بل ظاهرة عالمية. وينطبق ذلك بشكلٍ خاص في الجنوب العالمي، حيث ستحاول روسيا والصين البناء على الاستياء من الغرب. علاوة على ذلك، يعتبر الكرملن أنّ انخراط الولايات المتحدة العسكري في المنطقة – حيث من الممكن أن تغرق في هذا المستنقع – بالإضافة إلى سمعتها العالمية الملطّخة بسبب دعمها إسرائيل، يقعان في صالحه. وما دامت الولايات المتحدة ماضية قدماً في هذا المسار، تعتقد موسكو أنّ ذلك سينعكس سلباً على الدعم الأمريكي لأوكرانيا.