مع اقتراب تجدّد الحرب بين إيران وإسرائيل، ما الدروس التي يمكن استخلاصها من يونيو؟

حقّقت حرب إسرائيل التي استمرّت 12 يوماً ضدّ إيران نجاحات تكتيكية لافتة، شملت عمليات اغتيال وتخريب وتدخلاً عسكرياً أمريكياً، لكنها فشلت في نهاية المطاف في إحداث انهيار داخلي أو هزيمة إستراتيجية لإيران، بل أدّت إلى تعزيز الوحدة الوطنية الإيرانية، وتكريس الغموض بشأن برنامجها النووي، ورفع خطر تصعيد إقليمي أوسع في جولة مقبلة.

30 أكتوبر، 2025
سجّاد صفائي

منذ أن وضعت حرب الاثني عشر يوماً بين إسرائيل وإيران أوزارها في يونيو الماضي، يخيّم على المنطقة شبح عودة القتال مجدّداً، خصوصاً أنّ إسرائيل لم تتمكّن بعد من تحقيق جميع أهدافها تجاه إيران، ويبدو أنّها عازمة على المضيّ قدماً لتحقيقها. وعلى الرغم من أنّ الحرب كانت مدفوعة على الأرجح بجملةٍ من الاعتبارات، فإن الهدف الإستراتيجي الأسمى لإسرائيل كان واحداً وواضحاً: تحييد قدرة إيران على أيّ تحدّي مؤثر للهيمنة الإسرائيلية في المنطقة. ورأت إسرائيل أنّ تحقيق هذه الغاية يمكن أنّ يتمّ عبر عددٍ من السيناريوهات التي تصبّ جميعها في خدمة رؤيتها الكبرى، وهي: إمّا الانهيار الكامل للدولة الإيرانية وتفكّكها الجغرافي، أو إقامة نظام سياسي جديد أكثر انسجاماً مع المصالح الإسرائيلية، أو نزع القدرات العسكرية الإيرانية بشكلٍ لا رجعة فيه بحيث تُصبح إيران عاجزةً تماماً عن الدفاع عن نفسها في حال شنّت إسرائيل هجمات مستقبلية، تماماً كما هو حال سوريا ولبنان اليوم.

 

 

الطريق إلى النصر

 

تماشياً مع هذه الرؤية الكبرى، سعت حرب إسرائيل إلى رسم مسارين مترابطين نحو تحقيق النصر.

كان المسار الأول يهدف إلى إضعاف إيران من الداخل ودفعها نحو الانهيار عبر سلسلة متتالية من الإخفاقات المؤسّسية والاضطرابات الاجتماعية الواسعة الموجّهة ضدّ الدولة. بدأ ذلك بحملة اغتيالات وحشية استهدفت القيادات العسكرية والسياسية الإيرانية، والعلماء النوويين وعائلاتهم، قبل أنّ تتصاعد إلى هجوم شامل ومباشر على المنشآت النووية ومؤسّسات الدولة مثل القوات المسلّحة، ومراكز الشرطة، وهيئة الإذاعة الرسمية، والسجون، وبنى الطاقة التحتية الحيوية، والجامعات، والمستشفيات، وخدمات الرعاية الاجتماعية.

 

ولكن إلى جانب تدمير  البنية التحتية الحيوية، فإنّ الركيزة الأساسية في مساعي إسرائيل لإضعاف الدولة وتفكيك تماسكها كانت نفسية الطابع، بل مفرطة في ذلك. فقد سعت إلى غرس انطباع طاغٍ لدى الإيرانيين بقدرة إسرائيل المُطلقة وتفوّقها من جهة، وعجزهم التام من جهة أخرى.

 

على سبيل المثال، ومن أجل إثارة الخوف والذعر والنزوح على نطاق واسع، أصدرت إسرائيل أوامر إخلاء لعشرات آلاف المواطنين الإيرانيين تحثّهم على مغادرة أحيائهم تحسباً لشنّ غارات جوّية وشيكة. كما شنّت هجمات إلكترونية عطّلت صرف رواتب الموظّفين الإيرانيين المنتظرين لأجورهم الشهرية ما أشاع حالة من القلق الاقتصادي العارم. وكان الهدف من ذلك تحويل مشاعر اليأس والسخط والخوف الكامنة، التي تأجّجت حديثاً، إلى معارضة نشطة، ويفضّل أن تكون عنيفة، ضدّ قادة الدولة ورموزها ومؤسّساتها، وهو ما لم يتحقّق في نهاية المطاف.

 

أمّا المسار الثاني، الذي كان يفترض أن يُبنى مباشرة على نجاح المسار الأول، فكان يهدف إلى إشراك واشنطن في مواجهة عسكرية مباشرة وشاملة وطويلة الأمد مع طهران، بشكل لا رجعة فيه. فمن دون هذا التصعيد، كانت حملة إسرائيل مهدّدة بأن تُذكر كمجرّد غارة مذهلة لا أكثر، بدلاً من أن تُعدّ حرباً حاسمةً ومفصليةً شبيهة بحرب الأيام الستة في العام 1967. ولضمان تورّط عسكري أمريكي مباشر، كان على إسرائيل أن تُنتج انطباعاً بأنّ الحرب قابلة للحسم عبر دفعة عسكرية أمريكية سريعة، منخفضة المخاطر، وعالية العائد، تكمل الانهيار الداخلي الذي أطلقه المسار الأول. عندها فقط، كان من الممكن أن يفكّر ترامب، المتحفّظ إزاء التورّط في مستنقعات عسكرية طويلة ومكلفة ترفضها قاعدته السياسية، في إشراك القوات الأمريكية داخل إيران.

 

وبالفعل، بدت إسرائيل في المراحل الأولى من هجومها الطموح قريبة على نحو مذهل من تحقيق هذا الهدف المنشود في المراحل الأولى من هجومها الطموح. فعمق اختراقها الاستخباراتي، والقضاء المنهجي على كبار القادة العسكريين والعلماء النوويين الإيرانيين، وضرباتها الجوّية المدمّرة على المنشآت النووية، وشلّ الدفاعات الجوّية الإيرانية، فضلاً عن صعوبة طهران الواضحة في تنفيذ ردّ سريع وفعّال، كلّ ذلك دفع واشنطن المترقّبة إلى التساؤل عمّا إذا كانت إيران على شفا الانهيار الكامل. وكما أظهرت الضربات الجوّية الأمريكية اللاحقة على المنشآت النووية الإيرانية في نهاية الحرب، فقد نجحت إسرائيل في نهاية المطاف في تصعيد دور واشنطن من داعم سخي إلى مقاتل يشارك مباشرة في العمليات العسكرية داخل الأراضي الإيرانية.

 

 

سوء قراءة إيران

 

للوهلة الأولى، قد تبدو حرب إسرائيل على إيران قصّة نجاح بارزة، إذ تمكّنت من تحقيق اختراقات استخباراتية غير مسبوقة، وتطوير قدرات عملياتية عميقة داخل الأراضي الإيرانية، من خلال القضاء المنهجي على كبار القادة العسكريين والعلماء النوويين، وتنفيذ عمليات تخريبية في مختلف أنحاء البلاد. وقد شُلّت الدفاعات الجوّية الإيرانية وقدرة طهران على الردّ في الساعات الأولى من الحرب، فيما تعرّض برنامجها النووي لأضرار جسيمة. وربّما الأهم من ذلك، أنّ إسرائيل نجحت في تهيئة الظروف التي مكّنت الولايات المتّحدة من تنفيذ أول قصف علني واسع النطاق ضدّ إيران. مع ذلك، وعلى الرغم من هذه الإنجازات التكتيكية اللافتة، فإنّ الحرب قد تكون في نهاية المطاف قد زرعت بذور إخفاقها الإستراتيجي.

 

إحدى الركائز المدمّرة إستراتيجياً في الحرب كانت قناعة راسخة، وإن بدت ساذجةً، بأنّ ملايين الإيرانيين، في خضمّ حربٍ شاملة على بلدهم، سيُقدّمون تظلّماتهم الداخلية على بقاء دولتهم، فيتحوّلون طوعاً إلى أدواتٍ لتفكيك وطنهم. وكما كان متوقعاً، لم يهرع الإيرانيون جماعياً لتحقيق الرؤية الإستراتيجية الإسرائيلية لبلدهم. بل ما حدث فعلاً هو تصاعد موجة واسعة من التضامن الشعبي الوطني، أشعلها الهجوم الإسرائيلي المباشر على ركائز الهوية الوطنية والبنية التحتية المدنية وعلى إحساس الناس بالأمن. وقد شكّلت هذه الطاقة الوطنية الجماعية حجر الزاوية، إن لم تكن حجر الزاوية الأهمّ، في صمود إيران الوطني في خلال الحرب، وهو الصمود الذي أدّى، إلى جانب الضربات الصاروخية الباليستية الدقيقة التي نفذتها إيران، دوراً محورياً في تعطيل آلة الحرب الإسرائيلية المصمَّمة بعناية.

 

وما زال من غير الواضح  ما إذا كانت هذه الموجة الجارفة من الوحدة الوطنية ستُترجم إلى إصلاحاتٍ ديمقراطية دائمة داخل إيران. لكن ما هو أكثر تأكيداً أنّ قادة إيران، في حال اندلاع جولةٍ جديدةٍ من المواجهة العسكرية مع إسرائيل في المستقبل القريب، سيكونون قادرين على استثمار خزّانٍ ضخمٍ من الصمود الوطني كشف عنه ،بمفارقة ساخرة، الإسرائيليون أنفسهم.

 

وعلى المدى البعيد أيضاً، مهّدت الحرب الطريق لتحوّلٍ جذري في الوعي الأمني الإيراني. فقد كانت الصّدمة الوطنية التي خلّفتها حرب الثمانينات بين إيران والعراق لعقود الحدث التاريخي الأبرز المسؤول عن صياغة العقيدة الأمنية الإيرانية وتبريرها، على الرغم من أنّ مدى استمرار تأثيرها، لا سيّما بين الأجيال الشابّة التي لم تعش تلك الحرب إلّا عبر الذاكرة الجماعية، ظلّ صعب القياس. ومع ذلك، فإنّ التجربة الجماعية الحيّة لمشاهدة حرب أخرى تُشنّ داخل حدود إيران على أيدي جيوشٍ قويةٍ أعادت جعل الدفاع الوطني مسألة وجودية ملموسة في المخيال الشعبي. فقد رأى الإيرانيون العاديون، كثيرٌ منهم وُلِد بعد عقود من حرب صدّام حسين، بأعينهم مدى سهولة اختراق إسرائيل لدفاعات بلادهم الجوّية، لكنهم شهدوا أيضاً كيف كانت الصواريخ الباليستية الإيرانية حاسمةً في كبح جماح الحملة الإسرائيلية وتغيير مسار الحرب لصالح إيران. وكانت النتيجة المتوقّعة ارتفاعاً ملحوظاً في التأييد الشعبي لتعزيز الدفاعات الجوّية الإيرانية، وتحديث أسطولها الجوّي المتهالك، وتوسيع برنامجها الصاروخي الذي لطالما حظي بدعمٍ واسع بين الإيرانيين العاديين.

 

لكن الحرب غيّرت أيضاً الطريقة التي تنظر بها الأمّة إلى التهديدات الأمنية. فللمرّة الأولى منذ عقود، أصبحت إسرائيل والولايات المتّحدة في مرمى انتقادات طيفٍ أوسع بكثير من الإيرانيين العاديين. فبعد سنواتٍ معاناة من أزمات الحكم والشرعية، وجدت النخب الإيرانية نفسها عاجزة عجزاً متنامياً عن إقناع شريحة لا يُستهان بها من الشعب بأنّ إسرائيل والولايات المتّحدة تمثّلان تهديداً وجودياً لأمن البلاد. وإدراكاً لهذه الفجوة، اعتمد خصوم الجمهورية الإسلامية، على مدى عقود، على تمييز مصطنع بين الشعب الإيراني والنظام الإيراني، وهو إطار وجد صدى لدى بعض الإيرانيين الذين كانوا ينظرون إلى الولايات المتّحدة وإسرائيل ككياناتٍ بعيدة، مجرّدة، أو حتى محايدة. غير أنّ الحرب الأخيرة أثبتت أنّ الولايات المتّحدة وإسرائيل تمتلكان القدرة والإرادة لإلحاق الأذى ليس بالنظام المراوغ فحسب، بل أيضاً بالإيرانيين العاديين أنفسهم.

 

وأخيراً، وعلى الرغم من أنّ الحرب نجحت في تهيئة الظروف لضربةٍ عسكريةٍ أمريكيةٍ محدودة ضدّ إيران، فإنّها قد تُضعف، على المدى الطويل، الموقف الإستراتيجي الإسرائيلي تجاه طهران، من خلال تسهيل مسار الأخيرة نحو الغموض النووي. وبالإضافة إلى دفع إيران إلى تقليص تعاونها الحادّ مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ما ترك إسرائيل في ظلام أعمق بشأن أنشطتها النووية، رفعت الضربات، وفقاً للبروفيسور ثيودور بوستول من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، إيران إلى مرتبة «دولةٍ تمتلك أسلحة نووية غير معلنة». إذ إنّ مخزوناتها من اليورانيوم عالي التخصيب، التي لا يعرف موقعها بدقّة سوى السلطات الإيرانية، تجعل البلاد على بُعد خطوةٍ تقنية واحدة من إنتاج مواد صالحةٍ لصنع السلاح النووي، ما يمنحها مزايا إستراتيجية نابعة من حالة الغموض النووي، وهو النهج ذاته الذي اتّبعته إسرائيل لعقود. لكن إذا كانت إيران اليوم بالفعل دولةً تمتلك أسلحةً نوويةً غير مُعلنة، فقد حقّقت هذا الوضع من دون أن تتحمّل التكاليف الدبلوماسية المترتّبة على إجراء تجارب أو إعلانٍ رسمي، على الرغم من أنّ هذا الغموض قد لا يدوم طويلاً إذا ما قرّرت إسرائيل والولايات المتّحدة شنّ حملةٍ مطوّلةٍ وواسعة النطاق لتحديد مواقع المخزونات والمنشآت النووية الإيرانية وتدميرها.

 

للمفارقة، كان هذا المآل نتيجةً لقرار إسرائيل نفسه بشنّ حرب لم تُكملها. وبالنظر إلى إخفاقاتها في يونيو، لا يسع المرء إلّا أن يتساءل عمّا إذا كان الإسرائيليون يعرفون إيران حقّاً كما يظنون. ومع استعداد المنطقة لاحتمال اندلاع جولةٍ جديدةٍ من الحرب بين إسرائيل وإيران، يبقى السؤال الجوهري: هل استخلص القادة الإسرائيليون دروس الجولة الأولى أم أنّهم مقدَّر لهم أن يعيدوا تكرار أخطائها؟

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: العلاقات الإقليمية
البلد: إيران، فلسطين

المؤلف

زميل باحث ما بعد الدكتوراه في معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا
سجّاد صفائي هو زميل باحث ما بعد الدكتوراه في معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا الاجتماعية في ألمانيا. وحصل على درجة الدكتوراه من جامعة مارتن لوثر هاله -فيتنبرغ، حيث ركزت أطروحته على جدلية الهمجية مقابل الحضارة، محلّلاً هذا المفهوم من خلال وجهات النظر التاريخية والاجتماعية والقانونية والفلسفية. ويحمل درجتي البكالوريوس والماجستير في الهندسة الميكانيكية. وتشمل مجالات بحوثه:… Continue reading مع اقتراب تجدّد الحرب بين إيران وإسرائيل، ما الدروس التي يمكن استخلاصها من يونيو؟