بينما تكثّف إسرائيل هجومها الوحشي على قطاع غزّة باجتياحٍ بري، تأتي ورقة سياسات سُرِّبت مؤخراً عن وزارة الاستخبارات الإسرائيلية لتضيف دليلاً إلى الأدلة المُتزايدة على أن هدفها النهائي هو التهجير القسري والدائم لسكّان غزّة المحاصرين إلى شبه جزيرة سيناء المصرية المجاورة. وفي ما يرقى فعلياً إلى خطّة متعمّدة للتطهير العرقي، حدّدت الوثيقة مخططاً من ثلاث نقاط لنقل سكّان غزة إلى مدينة من خيام سوف تنصب في سيناء، وإنشاء ممرّ إنساني، ومن ثمّ بناء مدن دائمة فيها ومنطقة أمنية لمنع سكّان غزة من العودة.
تفيد التقارير أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حثّ الزعماء الأوروبيين على الضغط على مصر لقبول اللاجئين من غزّة، على الرغم من أن القوى الرئيسة في أوروبا رفضت الفكرة باعتبارها غير واقعية. كذلك رفض الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي هذه الخطط ووصفها بأنها «تصفية للقضية الفلسطينية على حساب دول المنطقة». وزار رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، سيناء بعد يومٍ واحدٍ من تسريب الوثيقة، حيث شدّد على أن مصر «مستعدّة لبذل ملايين الأرواح كي لا يقترب أحد من ذرّة رمل في سيناء».
بالنسبة إلى الفلسطينيين، أثارت هذه الاقتراحات مخاوف من «نكبة ثانية»، لأن التهجير القسري الحالي سيطال نحو 750 ألف فلسطيني، وهو ما يوازي عدد المهجّرين على يد الميليشيات الصهيونية في خلال حرب العام 1948. إن سكّان غزّة، والعديد منهم لاجئون من النكبة أو أحفاد لهم، يدركون أنه بمجرّد مغادرة أراضيهم فمن المحتمل ألا يُسمح لهم بالعودة إليها أبداً.
من جهتها، رفضت مصر بشدّة أي انتهاكات لسيادتها، وشدّد السيسي على أنه لن يتم التسامح مع نقل سكّان غزة إلى شمال سيناء. وأثار الترحيل الوشيك للفلسطينيين من غزّة إلى سيناء حنق الرأي العام المصري الغاضب بالأساس من الهجوم الإسرائيلي العنيف على القطاع المحاصر. وقد خرج الكثيرون إلى الشوارع في مختلف المدن الكبرى وعند معبر رفح المتاخم لغزّة وهم يردّدون شعارات مثل «أرضنا ليست للبيع».
ولكن مع تسارع تدهور الأزمة الإنسانية في غزّة، فمن المرجح أن تتزايد الضغوط على مصر لفتح حدودها. فضلاً عن ذلك، تواجه مصر واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية منذ عقود في ظل مديونية وطنية ضخمة، وهو ما قد يشكّل نقطة ضغط أخرى في الجهود الرامية إلى ضمّ مصر إلى الخطط الإسرائيلية في غزة.
سوابق تاريخية
إن فكرة توطين الفلسطينيين في سيناء ليست جديدة. ففي العام 1950، اقترحت الأمم المتّحدة توطين آلاف الفلسطينيين من غزّة في شبه جزيرة سيناء. وقد واجهت هذه الخطّة مقاومة واسعة من اللاجئين أنفسهم وتم التخلّي عنها في نهاية المطاف. وبعد خمس سنوات، أطلقت الولايات المتّحدة وبريطانيا عملية ألفا، التي تهدف إلى إعادة توطين حوالى 500 ألف فلسطيني في سوريا ولبنان والأردن والعراق وسيناء في مصر. وفي المقابل، تعهّدت الولايات المتّحدة بدعم مصر عسكرياً ومالياً من أجل بناء سدّ أسوان، ولكن الرئيس جمال عبد الناصر لجأ في النهاية إلى السوفيات لتمويل المشروع.
وفي العام 2018، بينما كانت إدارة ترامب تعدّ اقتراحها لحلّ الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، ضغطت الولايات المتّحدة وإسرائيل على مصر لتخصيص أراضٍ في شمال سيناء لسكّان غزة للعمل فيها وربّما استيطانها.
منذ 7 أكتوبر وعملية «طوفان الأقصى» التي نفّذتها «حماس»، أصبحت فكرة النقل الجماعي للسكّان جزءاً رئيساً من الخطاب العام الإسرائيلي. ووضع مركز أبحاث مقرّب من بنيامين نتنياهو الخطوط العريضة لخطّة مماثلة لخطّة وزارة الاستخبارات، تدعو إلى «نقل جميع سكّان غزة وتوطينهم بشكل نهائي» في سيناء. وأعلن نائب وزير الخارجية السابق داني أيالون عن «وجوب انتقال سكّان غزة إلى صحراء سيناء».
وتفيد التقارير أن واشنطن تستخدم الدَّيْن الخارجي لمصر، الذي يزيد حالياً عن 165 مليار دولار، لدفع القاهرة للسماح للفلسطينيين بالوصول إلى معبر رفح. ويذكّر هذا الوضع باتفاق العام 1991 مع الرئيس السابق حسني مبارك، حينما أعفيت مصر بموجبه من نصف ديونها في مقابل دعمها حرب الخليج. وبالنظر إلى أن الجيش المصري هو حالياً ثاني أكبر متلقٍ للمساعدات الأمريكية بعد إسرائيل، فقد تهدّد إدارة بايدن بحجب المساعدات عنه كشكل آخر من أشكال الضغط على القاهرة.
اعتبارات أمنية
إن نزوح الفلسطينيين من غزّة إلى شبه جزيرة سيناء من شأنه أن يضع مصر أمام تحدّيات أمنية واقتصادية أكثر صعوبة ممّا تواجهه حتى الآن.
لطالما كانت سيناء شوكة في خاصرة الحكومة المصرية، التي واجهت صعوبات في بسط سيطرتها على القبائل البدوية والمجموعات المسلّحة والعصابات والمهربين في المنطقة. ولم تؤدِّ ثورة مصر في العام 2011 إلّا إلى تفاقم الفوضى السائدة في شبه الجزيرة.
منذ العام 2013، نفّذت المجموعات التابعة لتنظيم «داعش»، مثل «أنصار بيت المقدس» و«ولاية سيناء»، سلسلة من الهجمات العنيفة ضدّ القوات المصرية في رفح. ورداً على ذلك، أطلقت مصر حملات عسكرية عدّة، أجبرت الحكومة في كثير من الأحيان على إغلاق المعبر مع غزة كتدبير أمني.
باعتبارها منظّمة مسلّحة تعمل في غزّة، ولها علاقات مع جماعة الإخوان المسلمين، كانت «حماس» دائماً عاملاً أمنياً لمصر، خصوصاً فيما يتعلق بسيناء. وعندما سيطرت «حماس» على غزّة بعد صراع على السلطة مع السلطة الفلسطينية في العام 2007، شاركت مصر في الحصار الذي فرضته إسرائيل على غزّة بعد ذلك. وفي حين كانت العلاقة بين القاهرة و«حماس» متوترة، خصوصاً بعد وصول الرئيس السيسي إلى السلطة في العام 2013، حدث تقارب في العام 2017 عندما استغلّت مصر سيطرتها على القطاع المحاصر لكسب تعاون «حماس» في حملتها لمكافحة التمرد في سيناء.
وعلى الرغم من إعلان القاهرة النصر في «الحرب على الإرهاب» في وقت سابق من هذا العام، والتي دارت رحاها في شبه الجزيرة، إلا أن سيناء لا تزال معقلاً للعنف في ظل ظروف أمنية محفوفة بالمخاطر. والآن، تشعر مصر بالقلق إزاء تدفّق أعداد كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين من غزّة على الوضع الأمني الذي أصبح تحت سيطرتها مؤخراً، لا سيما إذا كان المسلحون الفلسطينيون سيبدأون العمل من الأراضي الخاضعة لسيادة مصر، مثلما فعلوا في الأردن ولبنان في الماضي.
علاوة على ذلك، تستضيف مصر حوالى 9 ملايين مهاجر معظمهم من دول أخرى في أفريقيا، ومن ضمنهم ما لا يقل عن 300 ألف لاجئ سوداني نزحوا في العام 2023 نتيجة الحرب الأهلية. وتؤدّي الضغوط الاقتصادية الحالية إلى تعقيد قدرة مصر على استضافة المزيد من اللاجئين، ما سيتطلّب إجراء تقييم شامل لقدرة مصر المالية ومدى استيعاب البنية التحتية لهكذا خطوة. ومع فتح الحدود تدريجياً لعبور عدد محدود من المواطنين الأجانب والفلسطينيين المصابين وشاحنات المساعدات، تتزايد إمكانية فتح الحدود على نطاق أوسع.
مع ذلك، فإن وظيفة المعبر كقناة رئيسة لنقل الإمدادات الأساسية إلى غزّة وتقديم المساعدة الإنسانية تتطلّب الحفاظ على بيئة مستقرّة على طول الحدود. وسوف يكون هذا الأمر صعباً مع احتدام الهجوم الإسرائيلي الذي يزيد من احتمالات وقوع مواجهات عنيفة على الحدود المصرية-الفلسطينية. وفي أواخر أكتوبر الماضي، أصيب جنود مصريون بجروح نتيجة ما قيل إنه هجوم إسرائيلي عرضي على الحدود وفقاً للجيش الإسرائيلي.
تجنّب نكبة ثانية
تتفاقم الأزمة الإنسانية في غزّة، وقد أدّى قرار إسرائيل بقطع إمدادات الغذاء والمياه والكهرباء والوقود إلى خسائر فادحة وسط واحدة من أكثر حملات القصف عدوانية في التاريخ. وتسهّل مصر الجهود الدولية من أجل تقديم المساعدات إلى غزّة من دول مثل تركيا والبحرين، لكن إسرائيل فرضت قيوداً مُشدّدة على دخول الإمدادات، بما في ذلك قصف المعبر الحدودي المصري مرّات عدّة والتهديد بضرب شاحنات المساعدات أيضاً.
وحتى 7 نوفمبر، سُمِح بدخول حوالي 500 شاحنة فقط إلى غزّة منذ بدء القتال، وهو ما يشكّل انخفاضاً حادّاً عن معدّل 500 شاحنة يومية كانت تخدم غزّة في السابق. وبالمعدّل الحالي، تُعدّ الإمدادات غير كافية، خصوصاً بالنظر إلى القيود المفروضة على دخول الوقود الضروري لتشغيل البنية التحتية الحيوية في جميع أنحاء غزّة. وأفاد برنامج الأغذية العالمي أنه من بين 23 مخبزاً يتعامل معها، توقّف 21 مخبزاً عن العمل بسبب نقص الوقود، واضطر أكثر من ثلث المستشفيات في غزة إلى الإغلاق.
ومع تفاقم الوضع، لا شك أن الضغوط سوف تتزايد على مصر لفتح حدودها أمام الفلسطينيين. ولكن نظراً لتجربة دول مثل الأردن ولبنان في استضافة الملايين من اللاجئين الفلسطينيين الذين حرموا من حقّهم في العودة إلى ديارهم، ينبغي للقاهرة أن تستمر في معارضتها الخطط الإسرائيلية الرامية لإجبار الفلسطينيين على الخروج من غزة. وسيتمّ اختبار هذا الموقف من داعمي إسرائيل في الولايات المتّحدة وأوروبا، الذين يرجّح أن يضغطوا على نقاط الضعف المصرية لإجبار القاهرة على الامتثال. مع ذلك، يجب على مصر أن تظل حازمة لمعرفتها النتيجة المحتملة.
وعلى الرغم من صعوبة هذا الموقف، فإن إسرائيل هي التي ترتكب جرائم حرب، بما في ذلك التطهير العرقي المُحتمل، بل وحتى الإبادة الجماعية. وحلُّ ذلك لا يكمن في سيناء. المطلوب الآن هو وقف إطلاق النار والضغط الدولي من أجل السماح بدخول المزيد من المساعدات الإنسانية إلى غزّة كخطوة أولى لوقف الكارثة الإنسانية التي تتكشّف في القطاع.