في أعقاب زيارة بالغة الأهمية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى العراق، وقّع العراق وتركيا وقطر والإمارات العربية المتّحدة اتفاقية مبدئية للتعاون في مشروع طريق التنمية البالغة قيمته 17 مليار دولار، والذي يضع تصوّرات لطرق نقل وبنية تحتية في المنطقة ستحوّل البنية التحتية في العراق إلى مركز عبور يربط آسيا وأوروبا على طول 1200 كيلومتر تقريباً. و قد يمهّد ذلك الطريق لنمو اقتصاد العراق والمنطقة ككلّ، وربّما ينافس قناة السويس كطريق يختصر وقت السفر بين آسيا وأوروبا.
وفيما تكثر العقبات أمام تنفيذ المشروع، تبشِّر الاتفاقية بعصر جديد من التعاون الإقليمي القائم على المصالح الاقتصادية المتبادلة، وقد يؤدّي نجاحه إلى تخفيف التوترات والصراعات الجيوسياسية في المنطقة. بيد أنّ الأدوار التي ستؤدّيها الدول الموقّعة على المشروع غير واضحة، وكذلك سبل تمويله، واستجابة الدول الإقليمية المُستبعدة مثل إيران والمملكة العربية السعودية. في هذه المقالة، يبحث الزملاء في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية في العوامل التي أدّت إلى إبرام اتفاقية مشروع طريق التنمية ويقيّمون العقبات التي تعترض تنفيذها.
تحديات العراق في تحقيق مشروع طريق التنمية
خطّة العراق لتنفيذ مشروع طريق التنمية مرحّب بها وتشتدّ الحاجة إليها في بلد عصفت به لعقود حروب أهلية وصراعات عرقية ودينية وتوتّرات جيوسياسية. وقد تكون هذه المبادرة ركيزة أساسية للازدهار اقتصاد العراق، وتستحق الدعم والاستثمار. ولكن قد يستغرق الأمر سنوات قبل أن يتمكّن العراق من تحقيق المشروع. وهذه ليست المرّة الأولى التي يحاول فيها العراق تنفيذ مشروع ضخم في البنية التحتية، إذ اقترح مشروعاً مماثلاً في العام 2011 يضع تصوّرات لتغييرات رئيسة في البنية التحتية للنقل، بما فيها أنظمة السكك الحديدية ومترو الأنفاق، لكنّه فشل في إحراز تقدّم بسبب البيئة السياسية المحلّية المتقلّبة والاضطرابات العنيفة. ويعاني العراق كذلك فساداً مستشرياً، وإخلال مؤسساتي، كما وأنّه يفتقر إلى القدرات التقنية اللازمة لتنفيذ مشاريع مُماثلة.
يبرز نطاق الاقتراح الأخير وحجمه الطموح بسبب اعتماده الكبير على تعاون جيران العراق ودعمهم. وبالنتيجة، يبرز عدد من الديناميات الجيوسياسية والمحلّية التي يجب معالجتها حتى يحظى المشروع بفرصته. على الصعيد الداخلي، لا يزال العراق في مهبّ عودة الصراع وعلى بعد خطوةٍ من حرب أهلية. وحتى أغسطس 2022، شهدت البلاد اضطرابات أهلية كبرى في أعقاب مناوشات عنيفة بين أنصار مقتدى الصدر وقوّات الحشد الشعبي المدعومة من إيران. وهذه الاضطرابات ليست إلّا إحدى الصراعات التي قد تشعل حرباً أهلية في المستقبل القريب.
ومن الناحية الجيوسياسية، وسّع العراق انخراطه في حرب ايران وإسرائيل والولايات المتّحدة، والتي اشتدّت منذ التصعيد الإقليمي الذي أعقب أحداث 7 أكتوبر. العراق ليس طرفاً مُحايداً في المواجهة بين إيران وإسرائيل، ولا بين طهران وواشنطن. والواقع أنّه يشكّل ركيزة أساسية لما يسمّى «محور المقاومة» في إيران، ومعبراً للهجمات بالصواريخ والمسيّرات الإيرانية في المنطقة. فضلاً عن ذلك، شنّت قوّات الحشد الشعبي، وهي جزء من الحكومة والدولة، ضربات مباشرة ضدّ القوات الأمريكية ونفّذت هجمات بالمسيّرات ضدّ المملكة العربية السعودية. وفي شمال العراق، استهدفت القواعدَ والقوّات التركية وتحالفت مع حزب العمّال الكردستاني. ونظراً لدور تركيا كشريك رائد، سيكون من الصعب أن يتقدّم مشروع طريق التنمية فيما تقبع بغداد تحت نفوذ قوّات الحشد الشعبي، التي بدورها تدعم حزب العمّال الكردستاني. وعلى الرغم من أنّ العراق حظر حزب العمّال الكردستاني رسمياً، لكنّه يحظى لليوم بمخصّصات ضمن الموازنة العراقية من خلال الشركات التابعة له في شمال العراق. كما وأنّ الاتجاهات المحلّية والجيوسياسية التي تبرز أهمّية علاقات العراق مع المنطقة تجعل مشروع طريق التنمية طموحاً في أحسن الأحوال، لكنّه يعطي افتراض حسن النية نظراً للدعم الذي تعهّدت به قطر والإمارات العربية المتحدة. وكما هو الحال مع دول أخرى في المنطقة، ربّما يتبنّى كلا البلدين أسلوب “الانتظار والترقب” في ما يتعلّق بالمشروع طريق التنمية ومحاولات العراق لإنجازه.
انضمام الإمارات لطريق التنمية ما بين التحالفات والمصالح الاستراتيجية
يعبِّر قرار الإمارات العربية المتّحدة بالانضمام إلى مشروع طريق التنمية مع العراق وتركيا وقطر عن توجّه نحو التعدّدية، إذ تعمل الدول على صياغة تحالفات دبلوماسية سريعة ومرنة لتحقيق مصالحها. ويتنامى هذا النهج في ظل صعود النظام الدولي المُتعدّد الأقطاب، تتولّى فيه دولة الإمارات العربية المتّحدة دوراً رائداً في التعامل مع مجموعة صغيرة من الشركاء تجمعهم أهداف مشتركة بدلاً من توافق أيديولوجي. وفي هذا السياق، يبرز التلاقي بين الاعتبارات الإستراتيجية والمصالح الاقتصادية التي حفّزت مشاركة أبو ظبي.
أولاً، مع احتدام الحرب في غزّة، زاد قلق الإمارات العربية المتّحدة من جدوى الممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، الذي اعتُبِر بديلاً عن مبادرة الحزام والطريق الصينية. ومن الاعتبارات الأخرى لأبو ظبي هو إحجام الدول العربية الرئيسة مثل المملكة العربية السعودية والأردن عن الانخراط في اتفاقيات اقتصادية تضمّ إسرائيل. ثانياً، تسلّط استثمارات الإمارات العربية المتّحدة في العراق الضوء على اهتمامها الراسخ بمشاريع البنية التحتية الإستراتيجية، وخصوصاً من خلال مشاركة مجموعة موانئ أبوظبي في تطوير ميناء الفاو الكبير. وثالثاً، يتماشى تمويل الإمارات العربية المتّحدة المُتزايد لإعادة إعمار العراق والاستثمار في قطاع الطاقة مع الجهود الأوسع لموازنة نفوذ إيران في المنطقة، ما يعكس توافقاً إستراتيجياً مع دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى. على سبيل المثال، اتّفقت أبو ظبي والرياض على استثمار 6 مليارات دولار في العراق في يوليو 2023، وفي العام 2021 التزمت الإمارات العربية المتّحدة بمبلغ 3 مليارات دولار لدعم إعادة إعمار الموصل بعد هزيمة داعش.
تعاون تركيا و العراق لتحقيق الطموحات الإقليمية
كانت زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأخيرة إلى العراق مرحليّة للعلاقات بين البلدين، حيث أُبرمَ عدد من الاتفاقيات تشمل قطاعات المياه والنقل والطاقة والتجارة والدفاع. وفي صلب هذه الاتفاقيات مشروع طريق التنمية العراقي، وهو خطّة لطريق نقل تنافسي بدأته تركيا والعراق. وبالتعاون مع قطر والإمارات العربية المتّحدة، سيربط هذا الخطّ الدول الخليجية وأوروبا عبر ميناء الفاو الكبير في العراق، باستخدام البنية التحتية للسكك الحديدية والطرق في تركيا.
ومن المتوقّع أن يساهم المشروع في نمو الاقتصاد التركي، ما يجعلها مركز عبور إقليمي وحلقة وصل أساسية بين أوروبا وآسيا – وهو دور تسعى أنقرة لتحقيقه بلهفة. . وبعد استبعادها من المقترحات المنافسة مثل الممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا المدعوم من الولايات المتحدة، ترى تركيا في مشروع طريق التنمية فرصة لتأكيد نفوذها الإقليمي.
وعلى الرغم من أنّ مشروع طريق التنمية قد أحيا علاقات تركيا مع العراق، لا يزال عدد من المشكلات الحسّاسة قائم ويتعيّن معالجتها، كما تبرز تساؤلات بشأن الاستدامة المالية لهذه المبادرة الطموحة. من وجهة نظر أنقرة، يشكّل حزب العمّال الكردستاني خطراً أمنياً على مشروع طريق التنمية إذ لديه قوّات متمركزة في العراق ويشارك في صراع مسلّح مع الدولة التركية. وقد حثّت تركيا بغداد على تنسيق الإجراءات للتصدّي لوجود حزب العمّال الكردستاني في العراق. ورداً على ذلك، اكتفى العراق بتصنيف حزب العمّال الكردستاني «كمنظّمة محظورة». ومع ذلك، يبدو أنّ أنقرة مستعدّة لتنحية هذه المسألة جانباً لصالح التعاون التنموي في الوقت الحالي.
ونظراً للمخاوف الأمنية المحيطة بالوجود الإقليمي لحزب العمّال الكردستاني والجهود التي تبذلها تركيا لمعالجتها، من الضروري إدراك إمكانات مبادرات التنمية في تعزيز الاستقرار الإقليمي الأوسع. يوفّر التعاون الإقليمي في طريق التنمية لصانعي السياسات الإصلاحيين في أنقرة فرصاً لدفع عملية السلام مع الأكراد بالتوازي مع تعزيز ازدهار تركيا ومكانتها على الساحة العالمية.
مشاريع الربط الكبرى والبنية التحتية
بعيداً من منطقها الاقتصادي، تقوم مشاريع الربط الكبرى على رؤية للنظام الإقليمي والعالمي، لا سيما عند تنفيذ مشاريع مُماثلة أو دعمها من القوى العظمى العالمية. ومن الأمثلة على مشاريع الربط الكبرى، مبادرة الحزام والطريق الصينية والممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا المدعوم من الولايات المتّحدة. والبلدان التي تشملها هذه المشاريع أو تستبعدها، تسلّط الضوء على الرؤية والمنطق الجيوسياسي اللذين تقوم عليهما. على سبيل المثال، من خلال مشاريع الربط والبنية التحتية الكبرى، تخلق مبادرة الحزام والطريق تبعيّة متبادلة بين الصين والدول والمناطق المعنيّة بها، وهي تحتوي في تصميمها على عناصر القوّة الصلبة والقوّة الناعمة. وقد أصبحت مشاريع الربط والبنية التحتية الجيوسياسية الرئيسة في مبادرة الحزام والطريق ساحات حاسمة للتنافس بين القوى العظمى. وعلى هذا النحو، ضغطت الولايات المتّحدة على حلفائها للانسحاب من مبادرة الحزام والطريق، أسوة بإسرائيل في خلال رئاسة دونالد ترامب.
ويهدف كذلك الممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا في جوهره إلى تحقيق عدد من الأهداف البنيوية: تقويض مبادرة الحزام والطريق في الصين؛ وتقليص دور الصين وروسيا الإقليمي؛ وتسهيل المزيد من التعاون بين إسرائيل والدول العربية (وهو عنصر أساسي في رؤية واشنطن للنظام الإقليمي)؛ ودور أكبر للهند في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط، مع استبعاد إيران واحتوائها، وكذلك تركيا بالتبعية. إنّ طبيعة هذا المشروع الإقصائية هي التي أثارت انتقادات شديدة من أنقرة.
وأحدث هذه المبادرات التي تجمع بين مشاريع الربط الكبرى والنظام هو مشروع طريق التنمية في العراق الذي وافقت تركيا على دعمه. ويختلف هذا المشروع بكونه على مستوى الإقليم، إذ يجمع بين العراق وقطر والإمارات العربية المتّحدة لربط الخليج بأوروبا عبر تركيا. وعليه، فهو مشروع ربط كبير منفصلاً عن الطموحات الإقليمية للقوى الخارجية. وفي حين يعدّ هذا المشروع أكثر تنافسية من الممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا بتوفيره طريقاً برّياً أقصر بين الخليج وأوروبا، لا تزال المبادرة الجديدة تواجه بعضاً من التحدّيات التي واجهتها مشاريع الربط الأخرى. على سبيل المثال لا الحصر، قد يكون من الصعب تأمين مبلغ 17 مليار دولار. كذلك تشكّل البيئة الأمنية الهشّة في العراق مثالاً آخر، حيث تبسط قوّات من حزب العمّال الكردستاني إلى الميليشيات الموالية لإيران نفوذها وسيطرتها. ونظراً لأنّ إيران طرف مُستبعد، فقد تسعى إلى تقويض المبادرة. ومن غير الواضح أيضاً كيف تنظر أوروبا، باعتبارها الوجهة النهائية، وكذلك الولايات المتّحدة إلى المشروع.
باختصار، يحمل مشروع طريق التنمية إمكانات كبيرة لكونه مشروع إقليمي ونظراً لآثاره على النظام الإقليمي، ولكن التحدّيات تلوح في الأفق.
بديل للممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا ومبادرة الحزام والطريق… لكن من أين التمويل؟
لا بدّ من أن يثير الإعلان عن مشروع طريق التنمية العراقي البالغة قيمته 17 مليار دولار، والذي تشترك فيه تركيا وقطر والإمارات العربية المتّحدة لربط الخليج بأوروبا، بعض التساؤلات، خصوصاً أنّ تركيا – محرّكة المبادرة – تعتمد توازناً جيوسياسياً كحلقة وصل بين الشرق والغرب.
تبرز نقطتان رئيستان: أولاً، يمثّل المشروع اختباراً للمنافسة الجيوسياسية، وتحدّياً نابعاً من خوف تركي من تفويت فرصة الانخراط في طرق سلاسل التوريد العالمية والإقليمية. سعت تركيا إلى دمج جيرانها الذين يشاركونها التفكير نفسه في التعبئة من أجل بناء البنية التحتية والطرق التجارية ردّاً على استبعادها من الممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا الذي تقوده مجموعة العشرين، وافتقارها إلى الحوافز للانخراط في مبادرة الحزام والطريق الصينية بعد أن تلقّت 4 مليارات دولار فقط من بكين. والنقطة الثانية هي العنصر المالي؛ يقترح المشروع المكوّن من ثلاث مراحل بناء خطوط سريعة لسكك الحديد وطرق وموانئ بطول 1200 كيلومتر تربط الإمارات العربية المتّحدة وقطر والعراق وتركيا بأوروبا بحلول العام 2050. لكن في ضوء وضع تركيا المالي الصعب الناجم عن سياستها النقدية غير التقليدية وانعدام الاستقرار المالي، من غير الواضح ما إذا كان يمكن الاعتماد عليها لتسديد حصتها من فاتورة طريق التنمية. وفي غضون ذلك، تبرز شكوك في قدرة عائدات النفط العراقي على تأمين التمويل اللازم وسط الضغوط الناجمة عن تخفيضات الإنتاج التي فرضتها منظّمة أوبك والاضطرابات السياسية التي تشهدها البلاد، في حين لن تموّل الدول الخليجية المشروع إلّا بعد التأكّد من أنّه فرصة استثمارية مجدية.
المشروع هو مسار طويل يتطلّب أهدافاً قصيرة المدى. وكبديل عن الممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا ومبادرة الحزام والطريق، فهو لا يقوم على أسس مالية متينة ويحتاج إلى اختبار جدوى.