يصطف مقاتلون من حزب العمال الكردستاني لوضع أسلحتهم في حفرة خلال حفل في السليمانية، في منطقة كردستان العراق، في 11 يوليو/تموز 2025. (وكالة الصحافة الفرنسية)

محادثات السلام التركية الكردية بين تعقيدات السياسة الداخلية والتحوّلات الإقليمية

تجد تركيا نفسها أمام فرصة ضيّقة لتحقيق السلام، غير أنّ غياب الإصلاحات الجذرية في مجالات الحقوق والحوكمة والحرّيات سيجعل هذا السلام هشّاً وعرضة للانهيار.

7 سبتمبر، 2025
بهار باسر، ريكاردو غاسكو، صاموئيل أبرامي

حين أقدم مقاتلون من حزب العمّال الكردستاني على إحراق أسلحتهم في مراسم أقيمت في مدينة السليمانية العراقية في يوليو الماضي، لم يكن المشهد مجرّد صورة تاريخية، بل شكّل إحدى أبرز الخطوات المتّخذة، حتى الآن، من أجل إنهاء صراع مستعصٍ أودى بحياة أكثر من 40 ألف شخص، وأعاد تشكيل المشهد السياسي التركي، وتجاوز الحدود إلى العراق وسوريا. غير أنّها لم تكن المحاولة الأولى لتحقيق السلام. وسيعتمد نجاح المساعي الأخيرة أو فشلها على مسار الأحداث في ساحتين مختلفتين لكن مترابطتين، وهما السياسة البرلمانية في أنقرة، والمشهد الجيوسياسي المتحوّل في المنطقة. وقد يدفع هذان العاملان معاً العملية إلى الأمام أو يمهّدان لانهيارها.

 

ويبدو أنّ قرار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بإعادة فتح قنوات الحوار مع القوى الكردية، لا ينبع من رؤية إستراتيجية بقدرما هو ضرورة سياسية ملحّة. فقد تراجع موقع حزب العدالة والتنمية الذي يقوده إثر انتكاسات في الانتخابات المحلّية الأخيرة، ومع اقتراب انتهاء المهلة الدستورية لولايته الرئاسية، يسعى أردوغان إلى كسب حلفاء جُدد يتيحون له تمرير تعديلات دستورية قد تمدّد حكمه إلى ما بعد العام 2028، ما يجعل دعم حزب الشعوب للمساواة والديمقراطية الموالي للأكراد عاملاً حاسماً. وللمرة الأولى منذ سنوات، تتقاطع مصالح الحزب الحاكم قصيرة المدى مع مصالح المعارضة الكردية. لكن تبقى هذه التحالفات الظرفية هشّة. فإذا حصل أردوغان على التعديلات الدستورية من دون تقديم تنازلات جوهرية في ما يتعلّق بالحقوق الكردية، قد تنهار العملية برمتها سريعاً. أمّا إذا تحقّقت إصلاحات ملموسة في قضايا جوهرية مثل التعليم باللغة الأم أو المواطنة، فقد يكتسب مسار السلام زخمه الخاص، بصرف النظر عن التطوّرات في العراق وسوريا المجاورين.

 

انطلقت العملية في أكتوبر الماضي، حين دعا دولت بهتشلي، زعيم حزب الحركة القومية وحليف أردوغان القومي ومعارض بارز لمسار السلام السابق، بشكل مفاجئ إلى إيجاد حلّ في خلال خطاب ألقاه في البرلمان التركي. ومنذ ذلك الحين، حاول كلّ من الحركة القومية وحزب الشعوب للمساواة والديمقراطية تهيئة المناخ السياسي والاجتماعي لتمهيد الطريق لإجراء المحادثات، في إشارة إلى أنّ مفاوضات جدّية تجري بالفعل قد تفضي إلى حلّ دائم. وتعطي العملية الجارية الانطباع بوجود محادثات سرّية قد وضع جدول أعمالها، تمهيداً لمرحلة ثانية تشمل لجنة تضمّ ممثلين عن الأحزاب السياسية الكبرى.

 

أُطلق على العملية اسم «تركيا خالية من الإرهاب»، ما يعيد تقديم القضية على أنّها قضية إرهاب بالدرجة الأولى لا قضية عدم مساواة عرقية. في الماضي، كان هذا الخطاب مثيراً للجدل لأنه يُجرّد حزب العمّال الكردستاني من شرعية مطالبه عبر تصويره محض تنظيم إرهابي. لكن هذه المرة، لم يعترض الجانب الكردي، وأكّد في رسالة موجّهة إلى الرأي العام التركي بأنّ الدولة هي الطرف الأقوى في المفاوضات. وربّما كان هذا خياراً مقصوداً من صانعي القرار الأتراك، يعكس تحوّلاً في الخطاب من الاعتراف بوجود «المسألة الكردية» إلى اختزالها في مجرّد مشكلة إرهاب. ومع ذلك، يبقى الأمل قائماً في أن تتيح المفاوضات معالجة قضايا المواطنة المتساوية وحلّاً مستداماً قائماً على الحقوق يتجاوز مجرّد وقف العنف.

 

في أغسطس 2025، شكّل البرلمان التركي لجنة من 51 عضواً تحت اسم «لجنة التضامن الوطني والأخوّة والديمقراطية» للإشراف على المبادرة، بمشاركة جميع الأحزاب الكبرى باستثناء حزب الخير القومي. وكان قرار حزب الشعب الجمهوري بالانضمام إلى اللجنة حدثاً لافتاً. فعلى الرغم من المخاطرة باستثارة ردّ فعل سلبي من أنصاره القوميين ومن يتذكرون إخفاقات الهدن السابقة، يرى الحزب أنّ الدمقرطة شرط أساسي للوصول إلى تسوية دائمة. ومن خلال تقديم نفسه كصوت الشعب في المفاوضات، يسعى حزب الشعب الجمهوري لدحض الانطباع بأنّ الأمر برمته مجرّد صفقة خلف الكواليس بين العدالة والتنمية وحزب الشعوب للمساواة والديمقراطية، مؤكّداً استعداده لسحب دعمه إذا انحرفت العملية نحو تعديل دستوري. وقد أصدر رئيس بلدية إسطنبول المسجون، أكرم إمام أوغلو، بياناً مؤيّداً للعملية، لكنه شدّد على أنّ أيّ تراجع ديمقراطي قد يقوّضها. ما يوحي بأنّ حزب الشعب الجمهوري يريد دوراً فاعلاً لا مجرّد دور المراقب.

 

عقدت اللجنة حتى الآن ستة اجتماعات، ويمثّل مشهدها الجامع للأحزاب السياسية خروجاً لافتاً عن العملية السابقة التي جرت تحت إشراف برلماني محدود. هذه المرة، قد يمنح الثقل المؤسّسي للبرلمان المحادثات قدراً أكبر من المصداقية. ويُقال إنّ مجرّيات عمل اللجنة تكتنفها سرّية تامّة، مع حجب جميع السجلات حتى العام 2035. وقد يحمي ذلك المفاوضين من الهجمات السياسية، لكنه في الوقت نفسه قد يغذّي الشكوك العامّة في بلد تتسم فيه العلاقات بين أنقرة والحركة الكردية بانعدام ثقة متجذّر. مع ذلك، تسرّبت بعض مضامين اجتماعات اللجنة إلى الرأي العام. وعلى الرغم من دخول البرلمان في عطلة الصيف، ما زال من المقرر عقد اجتماعات إضافية في أغسطس، ومن المتوقّع أن ترفع اللجنة تقاريرها إلى اللجان البرلمانية الفرعية لمناقشتها وإعداد مشروعات قوانين تعرض على الجمعية العامة للتصديق عليها.

 

 

إعطاء الأولوية لبناء السلام

لكي تنجح العملية، يحتاج المفاوضون إلى تبنّي مقاربة قائمة على تحويل الصراع وبناء السلام، بدلاً من الركون إلى الحلول السريعة والمكاسب الآنية على حساب معالجة صراع شديد التعقيد والحساسية. ينبغي أن تتناول العملية أوجه اللامساواة البنيوية، وقضايا نزع السلاح، وإعادة الدمج، فضلاً عن معالجة أسباب الصراع الجذرية. ولتحقيق ذلك، تحتاج اللجنة إلى شرعية سياسية، ما يجعل مشاركة حزب الشعب الجمهوري أمراً في غاية الأهمية. غير أنّ انخراط الحزب النشط في اللجنة أثار أيضاً حفيظة أنصاره والحزب الحاكم على حدّ سواء.

 

رأى بعض ممثلي حزب الشعب الجمهوري أنّ مشاركة الحزب في اللجنة توحي بأنّه وافق على «التفاوض مع الإرهابيين». في المقابل، شدّد نوّاب من الحزب على أنّ مشاركتهم تُغضب حزب العدالة والتنمية الذي يسعى لاحتكار العملية، ما أسفر عن تصاعد الهجمات على بلديات خاضعة لسيطرة حزب الشعب الجمهوري، وتكاثر الاتهامات ضد سياسييه منذ يوليو الماضي. وبينما تواصل اللجنة اجتماعاتها بانتظام، ينخرط الحزب الحاكم وحزب الشعب الجمهوري في تبادل الضربات السياسية، التي بلغت حدّ فضح الثاني عن صفقة فساد ضخمة مرتبطة بعضو من حزب العدالة والتنمية. وفي الوقت نفسه، لا يزال السياسي الكردي البارز ذو التوجهات اليسارية، صلاح الدين دميرتاش، رهن الاعتقال بتهم دعم حزب العمّال الكردستاني، على الرغم من الشائعات التي تتحدّث عن قرب الإفراج عنه.

 

كانت الجلستان الرابعة والخامسة للجنة بالغتا الأهمية على نحو خاص. إذ أتيحت للأعضاء فرصة الاستماع إلى وجهات نظر مختلفة من الطرفين، شملت قدامى المحاربين، والضحايا، والمنظّمات الحقوقية. وفي خلال الاجتماع الرابع، حضر خطاب الدولة التركية الرسمي بشأن الصراع بقوة. أمّا في الاجتماع الخامس، فقد قُطِعت مداخلة لإحدى المشاركات الكرديات وأُجبِرت على الانتقال إلى التحدث باللغة التركية منتصف مداخلتها، وهو مؤشر واضح على الحاجة الملحّة إلى فهم أعمق للمصالحة من الجانب التركي. إنّ كسر محرّمات مماثلة ضروري للمضي قدماً في مسار قد يحقّق سلاماً مستداماً. وقد أثارت هذه الحادثة ردود فعل غاضبة من منظّمات حقوقية قاعدية وناشطين أكراد، كما سلّطت الضوء على الطبيعة غير المتكافئة للعملية التفاوضية، على الرغم من الالتزام الخطابي المعلن من كلا الطرفين.

 

وعليه، وعلى الرغم من بعض الخطوات الإيجابية، يبقى السؤال مطروحاً: إلى أيّ مدى يمكن أن تنجح مفاوضات السلام في بيئة تتسم بتراجع ديمقراطي متواصل منذ أكثر من عقد، حيث يُسجن أعضاء من المعارضة، ويُقصى ممثلون منتخبون عبر تسييس القضاء، فيما تتجذّر الخصومة بين الحزب الحاكم والمعارضة أكثر من أيّ وقت مضى؟ هل يمكن تنحية هذه القضايا جانباً حين يجلس أعضاء اللجنة للتفاوض؟ تتطلّب محادثات السلام شرعية سياسية وثقة متبادلة بين مختلف الفاعلين على طاولة الحوار.

 

لكن تبدو البيئة السياسية الراهنة في تركيا مرشّحة لتقويض هذه المتطلّبات. فقد تزيد حسابات الأحزاب الانتخابية وأجنداتها قصيرة المدى الاستقطاب، وتغذّي تسييس المؤسّسات، ما يجعل من الصعب على المفاوضين ترك السياسة خارج قاعة التفاوض.

 

 

ضغوط القوى الخارجية

على الرغم من هيمنة السياسة الداخلية على مسار السلام الراهن، تبقى المسألة الكردية وثيقة الارتباط بالتطوّرات الإقليمية الأوسع. ففي سوريا، تسعى مفاوضات برعاية أمريكية وفرنسية إلى دمج مقاتلي قوّات سوريا الديمقراطية ذات الغالبية الكردية في الجيش الوطني الجديد بعد سقوط الأسد، وهي خطوة تخشى أنقرة أن تشجّع المطالب الكردية داخل تركيا، حتى لو ساهمت في تخفيف المخاوف الأمنية على حدودها. أمّا في العراق، فقد يساهم موقف حكومة إقليم كردستان تجاه كل من حزب العمّال الكردستاني والأكراد السوريين في توحيد السياسة الكردية عبر الحدود أو تفتيتها. وفي الوقت نفسه، تدفع الاضطرابات الإقليمية المتنامية، من صراع إسرائيل مع حماس وإيران إلى تغيّر أنماط انتشار القوات الأمريكية، إلى تعزيز دوافع تركيا لتأمين الاستقرار الداخلي. فمن شأن سلام مستدام تحرير موارد للانخراط الدبلوماسي وتعزيز الدور الإقليمي لأنقرة، في حين يُنذر الفشل بمزيد من التورّط في دوّامة تقلّبات المنطقة.

 

تخطّط اللجنة لإجراء مشاورات واسعة النطاق، ويتعيّن عليها تفادي أخطاء الماضي وفتح المجال لمعالجة القضايا المزمنة التي كرّست حالة انعدام الأمن وأعاقت مسيرة الديمقراطية في البلاد. وحتى النزع الجزئي لسلاح حزب العمّال الكردستاني قد يحقّق مكاسب كبيرة، مثل خفض تكاليف الأمن، وجذب الاستثمارات إلى جنوب شرق تركيا، وتحسين العلاقات مع الغرب، وتعزيز الدور الإقليمي، فضلاً عن تحسين صورة البلاد الديمقراطية. غير أنّ غياب الإصلاحات البنيوية في الحقوق والحوكمة والحرّيات قد يجعل السلام شكلياً. أمّا فشل العملية بعد رفع سقف التوقعات، فقد يفاقم مشاعر الإحباط ويقوّض أيّ جهود مستقبلية.

 

لقد أوجد تلاقي الضرورات السياسية الداخلية مع إعادة الاصطفاف الإقليمي فرصة نادرة للسلام. لكن قد تُغلق هذه النافذة سريعاً. فقد قدّمت مراسم السليمانية لمحة عمّا يمكن أن يكون عليه السلام. غير أنّ تحويل تلك الصورة إلى واقع لن يتطلّب شجاعة من القادة فحسب، بل استعداداً لتوسيع دائرة النقاش خارج الغرف المغلقة، سواء في أنقرة أوعلى امتداد المنطقة. وفي الوقت الراهن، يستند مسار السلام التركي إلى عمودين هَشَّين: برلمان يحتاج إلى إثبات أنّه أكثر من مجرّد ختم مطاطي، وإقليم يجب أن يتجنّب سحب البساط من تحته. وإذا انهار أحدهما، قد يتبدّد هذا الظرف النادر بالسرعة نفسها التي ظهر بها.

 

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية:
البلد: تركيا

المؤلّفون

أستاذة العلوم السياسية والعلاقات الدولية في كلية الحكومة والشؤون الدولية بجامعة دورهام
بهار باسر هي أستاذة العلوم السياسية والعلاقات الدولية في كلية الحكومة والشؤون الدولية بجامعة دورهام. وكانت أستاذة مشاركة في مركز الثقة والسلام والعلاقات الاجتماعية في جامعة كوفنتري، حيث قادت “مجموعة بحوث بناء السلام وتحويل الصراعات”. وكانت سابقاً زميلة باحثة ما بعد الدكتوراه في قسم السياسة والدراسات الدولية بجامعة وورويك بين عامي 2012 و2014. وباسر خبيرة… Continue reading محادثات السلام التركية الكردية بين تعقيدات السياسة الداخلية والتحوّلات الإقليمية
محلّل سياسي وباحث دكتوراه في العلاقات الدولية في جامعة بولونيا
ريكاردو غاسكو: منسّق برنامج السياسة الخارجية في معهد IstanPol. محلّل سياسي وباحث دكتوراه في العلاقات الدولية في جامعة بولونيا. يقيم في إسطنبول منذ العام 2019، ويشغل حالياً منصب زميل باحث زائر في «مركز سياسات إسطنبول» (IPC)، حيث يعمل على قضايا السياسة الخارجية التركية. كما سبق له أن شغل زمالة بحثية زائرة في جامعة Sabanci. تركّز… Continue reading محادثات السلام التركية الكردية بين تعقيدات السياسة الداخلية والتحوّلات الإقليمية
باحث زميل في مركز الشؤون الدولية ببرشلونة (CIDOB)
باحث زميل في مركز الشؤون الدولية ببرشلونة (CIDOB). حصل على درجة الدكتوراه من جامعة الكاتوليكا ديل ساكرو كويره (UCSC) في ميلانو، من خلال مشروع بحثي حول صنع القرار في السياسة الخارجية التركية، استند إلى عمل ميداني مكثف أجراه كزميل زائر (2022–2024) في جامعة صابانجي في إسطنبول (تركيا). شغل موقع زميل في برنامج Mercator-IPC في مركز… Continue reading محادثات السلام التركية الكردية بين تعقيدات السياسة الداخلية والتحوّلات الإقليمية