مظاهرة احتجاجية في بوينس آيرس، الأرجنتين، في 12 يونيو 2025، ضد زيارة الرئيس ميلي إلى إسرائيل وتضامناً مع فلسطين، مطالبة بإنهاء الحرب في غزة. (وكالة الصحافة الفرنسية)

لماذا يقف اليسار الجديد في أمريكا اللاتينية في طليعة التضامن مع فلسطين

على خلاف النزعة المناهضة للإمبريالية في خلال الحرب الباردة، يستند الدعم الحالي للقضية الفلسطينية إلى تاريخ أحدث من التواطؤ الإسرائيلي في قمع الدولة وممارسات العنف في أمريكا اللاتينية.

9 سبتمبر، 2025
إريك فيرامونتيس

في خضمّ الكارثة الإنسانية المستمرّة في غزّة، برزت حكومات عدّة في أمريكا اللاتينية، مثل بليز، وبوليفيا، والبرازيل، وكولومبيا، وكوبا، وهندوراس، ونيكاراغوا وتشيلي، كأبرز الداعمين لنضال الشعب الفلسطيني وأشدّ المنتقدين للسياسات الإسرائيلية. واستجابةً لما يُعدّه بعضهم حملة إبادة جماعية في غزّة، قطعت هذه الحكومات علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، وعلّقت التجارة الثنائية أو قيّدتها، وروّجت لمبادرات متعدّدة الأطراف تهدف إلى تخفيف معاناة الفلسطينيين، وأدانت مؤخّراً خطط حكومة نتنياهو لـ«احتلال» مدينة غزّة. و من منظور عالمي، باتت أمريكا اللاتينية موطناً لبعض أشد المعارضين معارضةً  للاستعمار والتجريد من الأرض والتهجير وعمليات القتل الجماعي الجارية في فلسطين، ما وضع المنطقة في طليعة التضامن العالمي مع القضية الفلسطينية.

 

في البداية، قد لا يكون موقف دول مثل كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا مفاجئاً، إذ تحوّلت فلسطين في خلال الحرب الباردة إلى أحد الرموز المرجعية لموقف الحركات اليسارية المناهض للإمبريالية. وبما أنّ هذه الدول محكومة اليوم بأنظمة يسارية، إلى جانب بوليفيا وكولومبيا والمكسيك وتشيلي، فمن المغري النظر إلى الانتقادات الحالية لإسرائيل على أنّها مجرّد امتداد جديد للمناهضة اللاتينية التقليدية للإمبريالية، التي لطالما رأت في النضال الفلسطيني جزءاً أصيلاً من مشروع تحرّر العالم الثالث.

 

وتعزّز بعض الحالات الخاصة هذا التصوّر. على سبيل المثال، في مارس 2024، قاد الرئيس الكوبي ميغيل دياز كانيل مظاهرة عامّة دعماً لفلسطين في هافانا. وجرت المظاهرة في «منبر خوسيه مارتي لمناهضة الإمبريالية»، الذي سُمّي تيمناً بمحرّر كوبا في القرن التاسع عشر، وشُيّد في خلال النزاع مع الولايات المتّحدة على حضانة الطفل إيليان غونزاليس ذي الست سنوات في العام 2000. ووسط لوحات تذكارية تكرّم كارل ماركس ومالكوم إكس ومارتن لوثر كينغ الابن، ارتدى دياز كانيل الكوفية الفلسطينية وقميصاً يحمل صورة تشي غيفارا الشهيرة.

 

ومثل كوبا، تُؤطَّر مظاهر التضامن مع فلسطين في دول مثل نيكاراغوا وفنزويلا ضمن السياق الأوسع للنضالات المناهضة للإمبريالية. ويُعدّ تبسيطاً مخلاً اختزال نقد اليسار اللاتيني الحالي لإسرائيل باعتباره مجرّد استمرار لنزعة الحرب الباردة المناهضة للإمبريالية. فقد أعادت التحوّلات السياسية الأخيرة، التي دفعتها الحركات الاجتماعية المطالبة بالعدالة عن الجرائم التي ارتكبتها الدول في الماضي، صياغة طريقة انخراط بعض الحكومات على الصعيد الدولي. ففي عدد من الدول، وصل اليسار إلى السلطة للمرّة الأولى؛ وفي دول أخرى عاد مع أجندات جديدة تتمحور حول كشف الحقيقة وتحقيق العدالة عن الانتهاكات السابقة. وغالباً ما تواجه هذه الجهود إرث القمع المرتبط بموجة الشعبوية العقابية التي أعقبت أحداث 11 سبتمبر، حين وظّفت الحكومات خطاب «الحرب على الإرهاب» لتبرير الحملات العسكرية القمعية ضد المعارضين والسكان عموماً. وكما شدّدت الباحثة المكسيكية سيلفانا رابينوفيتش، استهدف القمع في أمريكا اللاتينية على نحو غير متناسب السكان الأصليين، الذين تعرضوا لعنف استعماري مزمن مثل الفلسطينيين.

 

وبسبب دورها البارز في أجهزة الأمن ومجال التعاون العسكري في أمريكا اللاتينية في خلال تلك الفترة، يُنظر إلى إسرائيل بوتيرة متنامية باعتبارها متواطئة وشريكة في ماضي المنطقة القمعي. ويغذّي هذا الارتباط التاريخي تضامن اليسار الجديد في أمريكا اللاتينية مع فلسطين، حيث تُدرج القضية الفلسطينية ضمن نضال أوسع ضد قمع الدولة والخطاب الأمني المؤدلج عنصرياً الذي يعيش عليه.

 

تمثّل المكسيك إحدى هذه الحالات. فمنذ العام 2006، عندما أطلق الرئيس فيليبي كالديرون ما سُمّي بـ«الحرب على المخدّرات»، شهدت البلاد موجة من الاعتقالات غير القانونية والقتل والاخفاء القسري والتعذيب، وقد نفّذت كل هذه الأعمال باسم مكافحة عصابات المخدّرات. وفي هذا السياق، زوّدت إسرائيل الحكومات المكسيكية المتعاقبة بتقنيات قمعية، أبرزها برنامج التجسس الإلكتروني “بيغاسوس”، كما أصبحت ملاذاً لمسؤولين سابقين متّهمين بالتوّرط في هذا الإرث القمعي. وأبرز مثال على ذلك رئيس وكالة التحقيقات الجنائية السابق، توماس زيرون دي لوسيو، الذي يواجه تهماً بالتعذيب أثناء التحقيقات في قضية اختفاء 43 طالباً قسرياً في العام 2014.

 

وعلى الرغم من أنّ عودة الحكم اليساري إلى المكسيك في العام 2018 بقيادة أندريس مانويل لوبيز أوبرادور، لم ينجم عنها تغييراً فورياً في السياسة الخارجية تجاه إسرائيل، حتى في ظلّ ضغوط شعبية كبيرة لدعم القضية الفلسطينية سبقت السابع من أكتوبر 2023، فقد حدث تحوّل ملحوظ في العام 2024 مع وصول كلوديا شينباوم، خليفة لوبيز أوبرادور، إلى السلطة. فقد سارعت شينباوم إلى توجيه انتقادات صريحة للسياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، وانضمّت المكسيك إلى دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية في غزّة.

 

وبالمثل، شهدت تشيلي، التي تحتضن أكبر جالية فلسطينية خارج العالم العربي، احتجاجات شعبية واسعة في العام 2019، تحدّت جهاز الدولة القمعي المتجذر في الديكتاتورية المدعومة من الولايات المتّحدة في عهد أوغستو بينوشيه. وتلت تلك الاحتجاجات الانتخابات الرئاسية في العام 2021 التي فاز بها السياسي اليساري الشاب غابرييل بوريك، وقد مثلّ فوزه محاولةً لفتح فصل جديد في تاريخ البلاد.

 

وامتدّ خطاب بوريك عن التجديد السياسي إلى السياسة الخارجية لتشيلي، بما في ذلك علاقتها بإسرائيل التي تُعدّ إحدى أبرز موردي الأسلحة إلى المجلس العسكري التشيلي بين عامي 1973 و1990. ففي العام 2024، وبعد إدانة الإبادة الجماعية في غزّة، انضمت تشيلي إلى دعوى جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية. كما سحبت حكومتها الملحقين العسكريين من سفارتها في تل أبيب، ومنعت الشركات الإسرائيلية من المشاركة في معرض دفاعي كبير في العاصمة سانتياغو، وأعلنت دعمها لفرض حظر على السلاح, في تحوّل جذري لنهج تشيلي تجاه إسرائيل.

 

وشهدت بوليفيا تحوّلاً مشابهاً بعد الانقلاب العسكري المدعوم من جانين آنييز ضدّ الرئيس إيفو موراليس وحزبه «الحركة نحو الاشتراكية» في أواخر العام 2019. فبعد فترة وجيزة، استأنفت آنييز العلاقات التي قطعها موراليس مع في العام 2009، ردّاً على عملية «الرصاص المصبوب» في غزّة، وسعت إلى الاستعانة بإسرائيل في تدريب وحدات الشرطة على مكافحة الإرهاب، مستخدمةً جهاز الدولة الأمني لقمع المعارضة واستهداف مسؤولي الحزب السابقين. وكما كتبت الصحافية بيلين فرنانديز، لم يكن الانقلاب لصالح اليمين البوليفي فحسب، بل كان «لصالح إسرائيل أيضاً».

 

لكن عندما أُجريت الانتخابات في بوليفيا في أكتوبر 2020، فاز مرشح «الحركة نحو الاشتراكية» لويس آرسي فوزاً ساحقاً. ومن أوائل قراراته إعادة فرض متطلّبات التأشيرة على المواطنين الإسرائيليين بسبب غياب مبدأ المعاملة بالمثل. وفي أواخر العام 2023، قطعت بوليفيا علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، مدينةً ما وصفته بـ«الهجوم العسكري غير المتكافئ على قطاع غزّة». وبعد عام، انضمّت البلاد أيضاً إلى دعوى جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية. غير أنّه عقب هزيمة «الحركة نحو الاشتراكية» في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في أغسطس 2025، لم يعد مؤكداً ما إذا كانت البلاد ستواصل موقفها الناقد تجاه إسرائيل في المستقبل.

 

وبالنظر إلى التطوّرات الأخيرة في أمريكا اللاتينية والمواقف التي تبنّتها بعض الحكومات حيال إسرائيل/فلسطين، يمكن القول إنّ التحوّل الأبرز جاء من كولومبيا، حيث ترك عنف الدولة آثاراً عميقة على مختلف قطاعات المجتمع. ففي فترة رئاسته (2002–2010)، اعتمد ألفارو أوريبي سياسة «الأمن الديمقراطي»، المستوحاة من «الحرب على الإرهاب» بعد أحداث 11 سبتمبر، لمكافحة الجماعات المتمرّدة المسلّحة في كولومبيا. لكن أدّت هذه السياسة، عملياً، إلى فترة من تصاعد العنف وانتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة، تحت ذريعة استعادة الأمن وإعادة فرض سيطرة الدولة على كامل الأراضي الكولومبية. وقد استفادت أجندة أوريبي الأمنية من الروابط العسكرية الطويلة الأمد مع إسرائيل. على سبيل المثال، سبق أن حصلت كولومبيا على مقاتلات إسرائيلية عدة من طراز كفير، والتي كانت تصينها شركات إسرائيلية  حتى وقت قريب. حتى أنّ بعض المراقبين، سواء من موقع النقد أو التأييد، أطلقوا على كولومبيا اسم «إسرائيل أمريكا اللاتينية».

 

وفي أغسطس 2022، انتخبت كولومبيا أول حكومة يسارية في تاريخها الحديث، بقيادة غوستافو بيترو، الذي تبنّت إدارته موقفاً ناقداً لعنف الدولة في الماضي ومهّدت الطريق لإدانة أوريبي قضائياً. و امتدّت هذا القطيعة مع الماضي إلى السياسة الخارجية، ولا سيّما تجاه الشرق الأوسط. فبعد 7 أكتوبر، رفض بيترو إدانة حماس وانتقد تصريحات إسرائيلية وصفها بالإبادية، ما أدّى إلى انهيار العلاقات الاقتصادية وفي نهاية المطاف إلى قطع العلاقات الدبلوماسية في مايو 2024. كما انضمّت كولومبيا إلى دعوى جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، وفي يناير 2025، أصبحت عضواً مؤسّساً في مجموعة لاهاي، وهي طليعة من الدول الساعية إلى محاسبة إسرائيل على انتهاكاتها للقانون الدولي. وقد استضافت بوغوتا القمة الطارئة الأولى للتحالف في يوليو الماضي.

 

وعلى الرغم من هذه التحوّلات الإقليمية، يبقى أن نرى ما إذا كانت الحكومات اليسارية في أمريكا اللاتينية ستتمكّن من مقاومة إعادة إنتاج أنماط القمع الماضية. غير أنّ ما توضحه الأمثلة السابقة هو أنّ تضامن أمريكا اللاتينية مع فلسطين، ونقدها للإبادة الجماعية المتواصلة في غزّة، لا يمكن اختزاله في مجرّد شعارات شعبوية. بل يعكس ذلك اصطفافاً سياسياً أعمق متجذّراً في نضالات المنطقة نفسها ضد عنف الدولة، والإفلات من العقاب والانتهاكات التي ارتُكبت باسم الأمن، والتي أدّت إسرائيل فيها دوراً محورياً. ولذلك، ترى النضالات من أجل الوصول إلى الحقيقة وتحقيق العدالة في أمريكا اللاتينية أنّ القضية الفلسطينية هي قضيتها أيضاً. وهذا ما يدفع الحكومات، التي وصلت حديثاً إلى السلطة كنتيجة لهذه النضالات، إلى الانخراط العلني في التضامن مع جميع أشكال المقاومة الفلسطينية. إذ لا تعبّر هذه الأواصر عن مجرّد حنين إلى ماضٍ مضى، بل عن هوية عابرة للحدود مع نضالات مشتركة ضد الظلم والقمع، تمنح زخماً لصعود الجنوب العالمي.

 

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

 

القضية:
البلد: فلسطين

المؤلف

أستاذ مساعد، جامعة أنواهاك
إريك فيرامونتيس باحث من أمريكا اللاتينية متخصّص في سياسات الشرق الأوسط، مقيم في المكسيك. شغل سابقاً منصب أستاذ مساعد في جامعة قطر وزميل زائر في مركز بروكينغز الدوحة.