خُتِم شهر سبتمبر الماضي بمأساة طالت العديد من عائلات مدينة جرجيس الساحلية الصغيرة في جنوبي تونس. فُقد حوالي 18 شاباً خلال محاولتهم الوصول إلى أوروبا، مُعتقدين أنّ قارباً صغيراً سيوصلهم إلى أرض مليئة بالفرص. لكن مثل كثيرين قبلهم، لم يصلوا أبداً إلى وجهتهم، ولم يعودوا إلى ديارهم، بل انتشل الصيّادون عدداً من جثثهم العائمة بعد أن تجاهلت الجهات الحكومية المختلفة دعوات أسرهم لإطلاق دوريات البحث والإنقاذ. أثارت هذه الفاجعة توتراً واحتجاجات في جرجيس ضدّ حكومة وطنيّة مُختلّة تفشل باستمرار في تلبية المطالب الأساسية للشعب وتدفع بالشباب نحو رهانات يائسة في البحر.
مأزق سياسي
لم تكن جرجيس ساحة الاحتجاجات الوحيدة في خلال الفترة الماضية. في 15 أكتوبر الحالي، شهدت العاصمة تونس إحدى أكبر التظاهرات مؤخّرا نظّمها إثنان من أحزاب المعارضة الرئيسية. تجمّع الآلاف للتنديد بخطوات الرئيس قيس سعيّد لتعزيز سلطته فيما تمرّ البلاد بأزمة اقتصادية يتخلّلها نقصٌ في الوقود والغذاء. في يوليو 2021، أي بعد مرور نحو عامين على تولّي سعيّد منصبه، علّق أعمال البرلمان وأقال الحكومة في خطوة وصفها النقّاد بـ “الانقلاب“، لكنّ الكثير من التونسيين أيّدوا هذه الخطوة كونها أتت بعد فترة طويلة من الإحباط الذي سبّبه فشل النخب السياسية في تأمين الاستقرار الاقتصادي والسياسي في البلاد. ووفقاً لاستطلاعٍ للرأي شهري أُجرِي في أغسطس 2021، أيّد أكثر من 94 في المئة من المُستطلعين إجراءات سعيّد، وأعرب 82 في المئة عن ثقتهم بالرئيس بالمقارنة مع 30 في المئة فقط في شهر يوليو الذي سبق الانقلاب. أيضاً، أعرب 87 في المئة من المشاركين في الاستطلاع نفسه عن عدم ثقتهم برئيس البرلمان وزعيم حزب النهضة الإسلامي راشد الغنوشي. وعلى الرغم من الدعم الكبير الذي يناله سعيّد إلّا أنّ الثقة العامّة بحكومته تتقوّض وسط تصوّر بوجود فساد مستشرٍ (راجع الرسم البياني أدناه).
رسم بياني: ما مدى ثقتك بالحكومة؟
المصدر: الباروميتر العربي – الدورة الخامسة (أكتوبر – ديسمبر 2018)، والدورة السادسة، الجزء الثالث (مارس – أبريل 2021).
https://www.arabbarometer.org/survey-data/data-analysis-tool/
استغلّ سعيّد الانقلاب وغياب البرلمان لاحتكار السلطة، فيما كلّف لجنة بإعداد مسودّة لدستور جديد. وأُجرِي استفتاء عام على الدستور في يوليو الماضي، ونال تأييد أكثر من 96 في المئة من أصوات المشاركين الذين لم يتجاوز عددهم– ثلث الناخبين. يشير ضعف المشاركة العامة إلى حالة عارمة من الإحباط واللامبالاة العارمة تجاه مسار السياسة التونسية. وعلى الرغم من الانتخابات البرلمانيّة المزعم إجراؤها في 17 ديسمبر المقبل، إلّا أنّ التساؤل حول نزاهة الانتخابات لا يزال طاغياً، ومن المتوقّع إدخال تعديلات لم يُعلن عنها بعد على قانون الانتخاب. بعد مرور أكثر من عشر سنوات على ثورة 2011، يبدو واضحاً أن البيئة السياسية المُضطربة والتراجع عن المسار الديمقراطي يساهمان في تفاقم اليأس لدى الناس.
فوضى اقتصادية
مع استمرار التحدّيات السياسية في تونس، تواجه البلاد أيضاً عدداً من التحدّيات الاقتصادية الهيكليّة التي عمّقتها جائحة فيروس كورونا المستجدّ والقيود المرافقة لها. وفقاً للدورة السابعة من استطلاعات الباروميتر العربي التي أُجرِيت بين شهري أكتوبر ونوفمبر 2021، اعتبرت النسبة الأكبر من المستجيبين (39 في المئة) أن الوضع الاقتصادي هو المشكلة الكبرى التي تواجهها البلاد، يليها الفساد بنسبة 28 في المئة.
في الواقع، تشير التقديرات إلى أن الدَّيْن العام سيتجاوز 82 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2022، بالمقارنة مع 68 في المئة في 2019، والذي يُخصّص لتمويل عجزٍ مُكبِّل في الموازنة العامّة مدفوعاً بفاتورة أجور القطاع العام المرتفعة ونظام دعم الغذاء والوقود غير المستهدف. وعلى الرغم من الدعوات المستمرّة من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لإجراء إصلاحات اقتصادية لخفض الإنفاق العام، تجنّبت جميع الحكومات المُتعاقبة هذه الخطوة لتفادي إثارة احتجاجات شعبية مُتكرّرة ينظّمها الاتحاد العام التونسي للشغل ويتّسع نطاق انتشارها. في الوقت نفسه، يعاني القطاع الخاص عوائقاً هيكليّة وبيروقراطيةً مُفرطة تحول دون إطلاق مشاريع جديدة والاستثمار في الصناعات الابتكارية والتنافسية.
مع تمدّد القطاع العام فوق طاقته وعدم فعالية القطاع الخاص، أصبح سوق العمل غير قادر على استيعاب جميع الباحثين عن عمل. وبالتالي معدّلات البطالة باستمرار أعلى بكثير من المتوسّطات الإقليمية والعالمية، لا سيما بين الشباب (38 في المئة في عام 2021) والنساء (24 في المئة)، من دون استثناء ذوي المستويات التعليمية العالية الذين لم يكونوا بمنأى عن البطالة أيضاً، وهو ما يشير إلى مشاكل إضافية في سوق العمل من ضمنها فجوة المهارات بين العرض والطلب. ومع ذلك، يُضطر الكثير ممن لا يتمتّعون برفاهية البقاء من دون عمل إلى الانضمام إلى قطاع غير رسميّ هشّ وغير مستقر ويفتقر إلى تدابير حماية العمّال، وتشير التقديرات الأخيرة إلى أن 54 في المئة من السكّان العاملين هم بالفعل في القطاع غير الرّسمي.
يكفي السير في مختلف شوارع بلدات ومدن تونس لملاحظة الهشاشة واليأس المنتشرين بين غالبية السكّان العاجزين حتى عن تلبية احتياجاتهم الأساسية. نصف المستطلعين في الدورة السادسة من الباروميتر العربي قالوا إنّ الطعام نفد منهم في ربيع اً2021 ولم يملكوا المال لشراء المزيد. وحالياً يزداد الوضع خطورة لأن البلاد تعاني نقصاً شديداً في الكثير من السلع المدعومة من ضمنها الوقود والسكر والزيوت النباتية، ما دفع صندوق النقد الدولي إلى التعهّد بقرض أولي بقيمة 1.9 مليار دولار لتخفيف هذه الأزمة.
يتزايد تشاؤم التونسيين مع عدم توقّع حصول أي تحسّن في المستقبل القريب، ويرى نصف المشاركين في استطلاع أُجريَ في سبتمبر الماضي أن البلاد تسير في الاتجاه الخاطئ بالمقارنة مع 23.5 في المئة فقط بعد انقلاب يوليو 2021 مباشرة. ويبيّن الاستطلاع أنّ النساء والشباب والفئات المنخفضة الدخل، أي شرائح المجتمع الأكثر ضعفاً، بين الأكثر تشاؤماً. وبالتّالي، يتخلّى المزيد من التونسيين عن البلاد ويفكّرون في الهجرة، إذ قال 45 في المئة إنهم سيغادرون البلاد في العام 2021 بالمقارنة مع 33 في المئة في العام 2018. ويعدُّ الشباب الأكثر استعداداً للهجرة بنسبة 65 في المئة في العام 2021 بالمقارنة مع 55 في المئة في العام 2018. لذلك، من غير المستغرب أن يكون 45 في المئة ممّن يفكّرون في المغادرة مستعدّين لأن يهاجروا بطريقة غير شرعية. في الواقع، أفاد الحرس الوطني التونسي عن إيقاف أكثر من 7 آلاف مهاجراً تونسياً غير نظاميين حاولوا الوصول إلى إيطاليا في خلال الأشهر الثمانية الأولى من هذا العام، في حين سُجّل أكثر من 500 شخص في عداد المفقودين منذ يناير 2022. ومن الواضح أن المأساة التي حلّت بجرجيس في سبتمبر الماضي ليست الوحيدة، وستتكرّر في أماكن أخرى في تونس إذا لم تبذل الحكومة أي جهود جادّة لمعالجة الوضع الاقتصادي المتردّي في البلاد.
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفيها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.