عندما أعلن رئيس الجمهورية اللبنانية، جوزاف عون، في أكتوبر الماضي استعداد بلاده للانخراط في مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل، شكّل ذلك قطيعة مع عقود من المحظورات السياسية، وإقراراً ضمنياً بمدى هشاشة موقع لبنان اليوم. لم تأتِ هذه الخطوة استجابة لانفراج دبلوماسي مفاجئ، بل عكست تطوراً أكثر إثارة للقلق: تقاطع ضغوط إقليمية ودولية تضيّق بشكل متسارع هامش الخطأ أمام لبنان. وفي هذا السياق، تبدو المفاوضات محاولة لشراء الوقت، في لحظة يتبدّل فيها المشهد الإستراتيجي المحيط بلبنان، ويتسارع الانزلاق نحو مواجهة أوسع.
داخلياً، أثار إعلان عون نقاشاً يتجاوز مسألة «جواز التفاوض» مع إسرائيل، التي عدّت طويلاً من المحرّمات، ليطال قدرة الدولة على إدارة خياراتها السيادية، في لحظة يُعاد فيها رسم أولويات الفاعلين من طهران إلى دمشق، ومن تل أبيب إلى واشنطن، من دون الاكتراث لهشاشة لبنان. هكذا تحوّل التفاوض إلى أداة لخلق هامش للمناورة قبل أن تصبح الحرب أمراً لا مفرّ منه.
يعمل الرئيس اللبناني في سياق مُركّب تتداخل فيه التطوّرات الميدانية مع الحسابات الإستراتيجية للقوى المؤثرة. في الجنوب، انتقلت إسرائيل من ضربات تكتيكية محدودة إلى عمليات تحمل أهدافاً سياسية واضحة، ترافقها تسريبات إعلامية عن احتمال توسيع عملياتها العسكرية لتحقيق مكاسب قبل التوصّل إلى أي تسوية دبلوماسية.
على الجانب المقابل، لا تبدو إدارة دونالد ترامب متحمّسة لمواجهة شاملة في لبنان. إذ تحتل المصالح الأمريكية الإقليمية موقعاً محورياً في هذا التوجّه. فبعد زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى واشنطن، وتعهّداته العمل على تقليص نفوذ حزب الله، بات لدى إدارة ترامب دافع إضافي لتجنّب حرب قد تُربك مساراً سياسياً تعمل على ترسيخه في المشرق العربي.
هذا التباين بين رغبة إسرائيل في حسم نهائي والمقاربة الأمريكية القائمة على الاحتواء، ترك الدولة اللبنانية بهامش مناورة ضيق وحوّل التفاوض إلى وسيلة أساسية لاكتساب عمق إستراتيجي.
إدارة أزمة أم إنتاج تسوية؟
تشير النقاشات الداخلية في بيروت إلى أن خيار التفاوض طُرح بوصفه آلية لإدارة المخاطر، لا كمدخل لتسوية سياسية شاملة. فمع تقلّص الخيارات وارتفاع كلفة البدائل العسكرية والسياسية، تبدو الدولة اللبنانية أقرب إلى محاولة «إدارة الأزمة» في بيئة يصعب التنبؤ بمساراتها. ويعزّز هذا المسار غموض الأهداف الإسرائيلية، بين اتجاه يدفع نحو عمليات محدودة لإعادة ضبط الإيقاع الميداني، وآخر يرى أن عملاً أوسع داخل لبنان قد يشكّل فرصة لتغيير قواعد الاشتباك أو ربط الجبهة الشمالية بالمواجهة مع إيران.
وقد دفع هذا الغموض صانعو القرار في لبنان إلى مقاربة أكثر براغماتية للتفاوض، تركّز على تحديد الأطراف المعنية، وتركيبة وفد التفاوض، وكيفية الحفاظ على سقف تفاوضي يمنع الانزلاق نحو مسارات سياسية لا قدرة للدولة على تحمّل تبعاتها. وبهذا المعنى، تشكّل المفاوضات محاولة لإعادة هندسة آليات إدارة النزاع، نتيجة إدراك بأن الأدوات التقليدية لم تعد قادرة على احتواء التصعيد.
وفي هذا السياق، يكتسب تعيين السفير السابق سيمون كرم رئيساً للوفد اللبناني في لجنة مراقبة وقف إطلاق النار دلالة سياسية تتجاوز البعد التقني. يعكس الاختيار توجّهاً واضحاً نحو تثبيت الطابع المدني – الدبلوماسي لإدارة هذا المسار، وتحصين التفاوض من الديناميات العسكرية المباشرة. يسعى لبنان إلى الحؤول دون تحوّل «الآلية» إلى أداة ضغط ميداني أو منصة لفرض وقائع سياسية غير محسوبة.
كما يوجّه هذا التعيين رسالة مزدوجة، إلى الخارج بأن لبنان يسعى إلى إدارة النزاع عبر قنوات سياسية مضبوطة، وإلى الداخل بأن الدولة تحاول الإمساك بمسار التفاوض من دون الذهاب إلى تسوية شاملة أو التورّط في تنازلات تتجاوز قدرتها على التحمّل.
الضغط الإسرائيلي لتعطيل الموقف اللبناني
يبدو أن القيادات العسكرية الإسرائيلية باتت تشعر بقلق متزايد من قدرة حزب الله على استعادة جزء من قدراته العملانية التي استُنزفت، بما يعيد تشكيل بيئة تهديد أعلى كلفة وأكثر تعقيداً. وتفترض هذه المقاربة أن عامل الوقت يعمل ضد إسرائيل، وأن ترك الوضع على حاله سيؤدي لاحقاً إلى تحدّيات أكبر، سواء لجهة تجديد مخزونات السلاح أو استعادة حزب الله جهوزيته العملياتية.
ضمن هذا المنطق، أعادت إسرائيل تفعيل أدوات الضغط، من توجيه إنذارات إلى المدنيين وتنفيذ مناورات وتوغلات برّية، والتهديد بتوسيع العمليات لتشمل منطقة البقاع، وقد توّج ذلك باغتيال القائد العسكري في حزب الله هيثم الطبطبائي في 23 نوفمبر الماضي في الضاحية الجنوبية. لا يستهدف هذا المستوى من الضغط القسري إلى تحسين الموقع التفاوضي لإسرائيل فحسب، بل يهدف إلى سلب لبنان عامل الوقت ومنعه من ترتيب أوراقه لجرّ بيروت إلى التفاوض تحت النار.
في المقابل، تنظر الولايات المتّحدة إلى الجنوب اللبناني كجزء من لوحة أوسع يجري إعادة رسمها في شرق المتوسط. يعكس الحديث الأمريكي المتكرّر عن «آلية واقعية» قناعة بأن أي تسوية لا يمكن فصلها عن ملف الغاز وطرق تصديره، وعن موقع سوريا بعد سقوط نظام الأسد، وعن الدور الذي يؤدّيه حزب الله في الصراع الإقليمي.
في هذا الإطار، جاءت المبادرة المصرية عبر زيارة رئيس المخابرات اللواء حسن رشاد إلى بيروت، في أواخر أكتوبر الماضي. تقدّم القاهرة نفسها كوسيط قادر على التواصل مع مختلف الأطراف، وتوفير غطاء عربي لترتيبات التهدئة وخفض التصعيد. لكن المبادرة أقرب إلى مسعى أمني لاحتواء الانهيار ومنع انفجار شامل وتهيئة الظروف لتسهيل تنفيذ القرار 1701 أو صياغة نسخة موسّعة منه، ولا يبدو أنها تحمل بعداً سياسياً مكتمل الملامح. كما يبقى غير واضح ما إذا كانت مصر تتحرك بتفويض أمريكي كامل أم ضمن هامش توفّره الحاجة إلى الحفاظ على الاستقرار الحدودي.
التحوّل في خطاب حزب الله
على الرغم من البيان الحازم الذي أصدره حزب الله برفض التفاوض، تكشف مواقف قيادته عن تعديل واضح في السردية. يقدّم الخطاب الأخير للشيخ نعيم قاسم تحولاً من مقاربة «الصراع الوجودي» إلى خطاب يركز على «حماية لبنان»، كما يعيد تقديم القرار 1701، الذي عارضه الحزب سابقاً ، باعتباره خط دفاع ضرورياً في مواجهة احتمالات التصعيد.
هذه التبدلات ليست مراجعة أيديولوجية، بل تعبيراً عن إعادة تموضع فرضتها التحوّلات الإقليمية، خصوصاً مع تغيّر البيئة الأمنية في سوريا عقب زيارة الرئيس الشرع إلى واشنطن، وتقلّص هامش حركة حزب الله عبر الحدود. يدرك حزب الله أيضاً أن أي ضربة أمريكية أو إسرائيلية لإيران قد تفتح مرحلة جديدة من المواجهة، ما يدفعه إلى إدارة المخاطر بدل فتح مواجهة يصعب التحكم بمسارها.
تتجه الأسابيع المقبلة نحو ثلاثة مسارات محتملة. بتمثّل المسار الأول بإطلاق مفاوضات غير مباشرة تشارك فيها واشنطن ومصر وفرنسا وتنتهي إلى اتفاق بشأن تنفيذ القرار 1701 وترتيب الوضع جنوب الليطاني، أما المسار الثاني فيقوم على تصعيد تدريجي تستخدم فيه إسرائيل الضغط العسكري لفرض شروط أعلى مما تستطيع الدولة اللبنانية استيعابه في محاولة لإعادة تعريف البيئة الحدودية من طرف واحد. بينما يتمثّل المسار الثالث في انهيار المسار الدبلوماسي وإعادة إدماج لبنان ضمن المواجهة الأوسع مع بإيران، ما يحوّل الجنوب إلى ساحة صراع إقليمي من جديد.
ومهما تكن النتيجة، تُظهر هذه الاحتمالات أن إعلان عون بشأن المفاوضات لم يكن إجراءً روتينياً بل تعبيراً عن إدراك بأن لبنان يدخل مرحلة جديدة من الدفاع عن وجوده. فإمّا تنجح الدولة في بناء إطار سياسي يخفّف المخاطر، وإما تواجه حرباً قد تتجاوز الجنوب إلى مناطق أوسع. وفي كل الأحوال، يبدو التفاوض على ما ينطوي عليه من تعقيد ومخاطر، الخيار الوحيد المتاح أمام لبنان لالتقاط أنفاسه قبل أن يُعاد رسم ميزان القوى الإقليمي بقوة السلاح.