تستضيف روسيا في 22 أكتوبر قمّة مجموعة بريكس+ السنويّة التي توسّعت بانضمام أعضاء جُدد وبطموحات جديدة. تترأس روسيا هذا العام تكتّلاً بات يُمثّل 45,5 في المئة من سكان العالم -متخطّياً مجموعة السبع بأربعة أضعاف- مع ناتج محلّي إجمالي مشترك قدره 28,5 تريليون دولار و25 في المئة من الصادرات العالمية.
ومن المتوقّع أن تتوسّع المجموعة أكثر فأكثر، بعد أن أعربت 40 دولةً على الأقلّ عن اهتمامها بالانضمام إلى التكتّل بدءاً من العام 2024. صحيحٌ أنّ القلق ينتاب الغرب إزاء تحدٍّ محتمل لسيطرته، إلّا أنّ الواقع أكثر تعقيداً. إن مجموعة البريكس+ ليست كتلة متراصة مناهضاً للغرب بقدر ما هو انعكاس لرغبة الجنوب العالمي في عالمٍ متعدّد الأقطاب -حيث يحظى بتأثيرٍ أكبر في صياغة المعايير العالميّة.
غير أنّ التوتّرات داخل المجموعة ملازمة لتنوّعها واختلاف الأنظمة السياسية لأعضائها وأولوّياتهم الاقتصادية المتنافسة في بعض الأحيان. على سبيل المثال، تسعى الصين وروسيا وجنوب أفريقيا وإيران إلى المنافسة الجيوسياسيّة بغية تحدّي الهيمنة المؤسّسية الغربيّة، بينما يأمل أعضاء آخرون من البريكس مثل البرازيل والهند والمملكة العربيّة السعوديّة والإمارات العربيّة المتّحدة بأن تساهم المجموعة في تنويع علاقاتهم لكن من دون الانحراف بشكلٍ جذري عن انخراطهم العريق مع الغرب.
لكن حتى الأعضاء في الجنوب العالمي المقرّبين من الغرب ينفرون من السياسات الغربيّة الأخيرة على غرار دعم حملة الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في غزة وحربها على لبنان. وبما أنّ نفوذ هذه القوى المتوسّطة يسمح لها بشكلٍ متزايد بالتأثير في الأجندة الدوليّة، قد يتّضح أنّ إغراء تقييد الهيمنة الغربية يشكّل قوة موحّدة فعّالة أمام مجموعة البريكس+ رغم الاختلافات بين أعضائها. والسؤال المطروح هنا ليس ما إذا كانت المجموعة تجسّد كتلةً معادية للغرب بطبيعتها، بل ما إذا كانت أفعال الغرب نفسها ستجعلها كذلك.
صعود البريكس+: عالمٌ متعدّد الأقطاب في طور التكوين
رغم بعض الشكوك المبكرة، تحدّت مجموعة البريكس التوقّعات المنخفضة وأصبحت قوّة بارزة في الشؤون العالميّة. وتسلّط أجندتها المتوسّعة، التي تشمل مسائل تتراوح من النزاعات التجاريّة والاستقرار الإقليمي إلى تعزيز الروابط الدبلوماسيّة، الضوء على طموحها المتزايد للاضطلاع بدورٍ أبرز في الحوكمة العالميّة.
بلغ عدد الالتزامات المدرجة على قائمة البريكس في قمة جوهانسبرغ للعام 2023 94 التزاماً مقابل 16 في قمّتها الأولى في العام 2009. وفي إطار السعي إلى تعزيز تماسك مجموعة البريكس+ ونفوذها، تُسهّل المجموعة تبادل الأفكار والخبرات بين صانعي القرار والباحثين والأكاديميين عبر دولها الأعضاء. ويترافق هذا الحوار المتعدّد المستويات مع اجتماعات وزاريّة رفيعة المستوى تُعقد بانتظام وتشمل مجموعة من القطاعات الحيويّة مثل الدفاع والصحة والتغيّر المناخي.
ليس وحيدة كما يبدو
بالإضافة إلى ذلك، تشكّل مجموعة البريكس+ ضمانةً دبلوماسيّة وثقلاً موازياً للضغط الغربي على أعضائها. وخير مثال على ذلك استخدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الإستراتيجي للبريكس. ففي أعقاب ضمّ شبه جزيرة القرم في العام 2014 وغزو أوكرانيا في العام 2022، لجأ بوتين إلى منصّة البريكس لتجنّب الانتقادات ولإثبات استمرار الدعم الدولي لروسيا. وبالتالي، وفّرت مجموعة البريكس لبوتين منصّة لإظهار أنّ روسيا بعيدة كل البعد عن كونها “دولة منبوذة” كما يُصوّرها الغرب.
وحتى عندما فرض الاتّحاد الأوروبي عقوبات على صادرات روسيا النفطيّة في العام 2022، تحدّى أعضاء البريكس المحاولات الغربيّة الرامية إلى عزل روسيا عبر إبداء التزامهم بالمحافظة على روابط دبلوماسيّة واقتصاديّة متينة مع موسكو. وفي ظلّ استيعاب الصين والهند معظم صادرات روسيا من النفط الخام، برزت البرازيل كمستورد أساسي للمنتجات المكرّرة، لا سيّما الديزل وزيت الوقود. وقد ارتفعت واردات البرازيل من الديزل الروسي بنسبة 4600 في المئة في العام 2023 في ظلّ ازدياد عمليّات شراء النفط الخام بنسبة 400 في المئة.
بذور التغيير الاقتصادية في البريكس
تبرز نقطةُ خلاف رئيسيّة بالنسبة إلى مجموعة البريكس وهي بنية التصويت غير العادلة داخل صندوق النقد الدولي حيث يبدو الخلل صارخاً. صحيحٌ أنّ دول البريكس+ تمثّل 25 في المئة من الناتج الإجمالي العالمي، إلّا أنّها لا تملك سوى 18,4 في المئة من قوة التصويت مقابل 19,1 في المئة من قوة التصويت المشتركة لألمانيا وفرنسا والمملكة المتّحدة وإيطاليا وإسبانيا. وهذا يحدّ من تأثير البريكس في القرارات الرئيسيّة. وتجسّد الصين هذا التفاوت كونها تملك 6,4 في المئة فقط من قوة التصويت في صندوق النقد الدولي رغم أنّها ثاني أكبر اقتصاد في العالم. وهذا لا يعتبر شيئاً نسبياً بالمقارنة مع نسبة 4,7 في المئة المشتركة التي تملكها دول بنلوكس -بلجيكا وهولندا و لوكسمبورغ- ما يسلّط الضوء على الخلل الكبير في كيفية توزيع قوة التصويت داخل هذه المؤسّسة المهمة.
بدأت مجموعة البريكس+ تشقّ طريقها بنفسها بعد أن شعرت بالاستياء من بطء الإصلاحات داخل المؤسّسات القائمة. وبهدف تخفيف اعتماده على صندوق النقد الدولي، أنشأ ترتيب احتياطي الطوارئ (CRA)، وهو آلية تزوّد الدول الأعضاء بشبكة أمان ماليّة لمعالجة الصعوبات القصيرة الأجل في ميزان المدفوعات. كما يجري تطوير عملة مشتركة وقد اتُّخذت خطوات أوليّة، وإن كانت متواضعة، للحدّ من الاعتماد على الدولار. وفي إطار هذا الجهد، يتمثّل إنجازٌ كبير بالاتّفاق بين دول البريكس+ على زيادة استخدام عملاتها في التجارة، وربما تمهيد الطريق لزيادة استخدام الأنظمة الماليّة البديلة على غرار نظام الدفع بين البنوك عبر الحدود أو “سيبس” (CIPS)، الذي يشكّل بديل الصين عن نظام “سويفت” (SWIFT) الذي تهيمن عليه الولايات المتّحدة.
ويمثّل هذا الاتّفاق خطوةً باتجاه تحدّي سيطرة الدولار الأمريكي على التجارة الدوليّة. بيد أنّ تحقيق هذا الهدف سيتطلّب جهداً مستداماً وخطوات إضافيّة لإيجاد بدائل متينة للأنظمة القائمة التي يُسيطر عليها الغرب.
علاوة على ذلك، أنشأت مجموعة البريكس البنك الجديد للتنمية (NDB) في العام 2015. خلافاً للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، اللذين يقودهما عادة الأمريكيون والأوروبيون على التوالي، يتميّز البنك الجديد للتنمية، ومقرّه شانغهاي، بتناوب الرئاسة ونيابة الرئاسة بين أعضائها المؤسسين.
ويُركّز البنك الجديد للتنمية، الذي يبلغ رأسماله 50 مليار دولار، على تعبئة الموارد للبنى التحتيّة ومشاريع التنمية المستدامة في الاقتصادات الناشئة. صحيح أنّ مساهمات البنك متواضعة حالياً مقارنة مع مبلغ 91 مليار دولار الذي صرفه البنك الدولي في العام 2023، إلّا أنّها تستمرّ في النمو. فقد وافق البنك الجديد للتنمية منذ العام 2019 على تمويل قدره 32,8 مليار دولار لـ 96 مشروعاً موزّعاً على أعضائه المؤسسين الخمسة، بما في ذلك قروض مقومة بعملات غير الدولار. ويعمل البنك الجديد للتنمية تدريجياً على توسيع نطاقه ونفوذه. وقد رحّب البنك بانضمام أعضاء جُدد هم بنغلاديش ومصر والإمارات العربيّة المتّحدة في العام 2021. وتبقى أوروغواي “عضواً محتملاً”، فيما وافق البنك على عضوية الجزائر في العام 2024. غير أنّ قرار البنك بوقف مشاريع جديدة في روسيا للمحافظة على عملياته وسمعته يُسلّط الضوء على القيود التي يواجهها في تحدّي النظام المالي السائد الذي يسيطر عليه الغرب.
باختصار، صحيحٌ أنّ الاختلافات الاقتصادية والسياسية قائمة بين دول بريكس+، إلّا أنّ استياءها المشترك إزاء تصرّفات الغرب وجاذبية نظامٍ عالمي أكثر توازناً قد يفوقان هذه الاختلافات لتشكيل قوة موحِّدة. علاوة على ذلك، لا شكّ في أنّ طريقة استجابة الغرب لصعود مجموعة البريكس+ على الساحة العالميّة ستؤدّي بلا شكّ دوراً جوهرياً في تشكيل مسار هذه الكتلة الناشئة.
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ المؤلّف حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.