وسط زوبعة الأوامر التنفيذية والتحوّلات السياسية الكبرى الصادرة عن البيت الأبيض، يهدّد قرار الرئيس دونالد ترامب بتجميد عمليات الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، التي تدير معظم المساعدات الخارجية الأمريكية، بتداعيات قد يكون صداها محسوساً في شتى أنحاء العالم. وإذا استمرّ تنفيذ القرار، فقد يترتّب عليه تأثيرات سلبية على الكثير من البرامج في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، من ضمنها مشاريع تركّز على تعزيز الاستقرار الاقتصادي وتطوير البنية التحتية والزراعة وتقوية المجتمع المدني.
ويأتي وقف المساعدات الأمريكية الخارجية في وقتٍ بالغ الأهمية بالنسبة إلى علاقات الولايات المتّحدة مع العالم العربي. فبعد عقدين على الغزو الأمريكي للعراق، شهدت صورة الولايات المتّحدة تحسّناً ملحوظاً لدى الرأي العام العربي مقارنة بما كانت عليه في العام 2003. وبحلول أوائل العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، كشفت استطلاعات «الباروميتر العربي» أنّ ما بين 40 إلى 50 في المئة من المواطنين في معظم الدول، ينظرون إلى الولايات المتّحدة بنظرة إيجابية. غير أنّ هذا التحسّن بدأ يتلاشى في الأشهر السبعة عشر التي تلت السابع من أكتوبر 2023. وبالنظر إلى دور المساعدات الخارجية الأمريكية في تحسين صورة الولايات المتحدة في الخارج، فقد يؤدّي قرار ترامب بوقفها إلى تفاقم التدهور، ما يجعل استعادة سمعتها أكثر صعوبة.
بعد أحداث السابع من أكتوبر، تعهّد الرئيس السابق جو بايدن بتقديم «دعم حديدي» لإسرائيل، شمل تزويدها بمعظم المعدّات العسكرية اللازمة لاستكمال حربها على غزّة، ما أدّى إلى تحوّل سريع في الرأي العام في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ضدّ الولايات المتّحدة. ففي تونس، على سبيل المثال، تراجعت نسبة التأييد للولايات المتّحدة بنحو 30 نقطة في خلال الأيام العشرين الأولى بعد الأحداث. وفي دول أخرى في المنطقة، شهدت معدّلات التأييد انخفاضات بنسب كبيرة.
فضلاً عن ذلك، لم تقتصر التداعيات على المواقف العامّة فحسب. فقد كشفت استطلاعات «الباروميتر العربي» أنّ الشركات الأمريكية باتت أقل تفضيلاً كشريك في مشاريع البنية التحتية في معظم البلدان العربية، بالمقارنة مع الفترة التي سبقت السابع من أكتوبر. وفي الكثير من الدول، أفاد المواطنون أنّ الصين تتفوّق على الولايات المتّحدة في مجال حماية الحقوق والحرّيات أو في الحفاظ على الأمن الإقليمي.
المعقل الأخير
على الرغم من التحوّل الواسع في النظرة السلبية تجاه الولايات المتّحدة، برز استثناء واضح في نتائج «الباروميتر العربي»، وهو المساعدات الخارجية الأمريكية. فعند سؤال المستطلعين عن دور هذه المساعدات في تعزيز ثلاثة مجالات: التعليم، وحقوق المرأة، والمجتمع المدني، عبّرت غالبية المشاركين في جميع البلاد، باستثناء بلد واحد، عن مواقف إيجابية تجاهها. في الواقع، سجّلت الدول بمعظمها زيادة في الاعتقاد بفعالية المساعدات الأمريكية في هذه المجالات. على سبيل المثال، بين عامي 2022 و2024، ارتفعت نسبة الإقرار بفعاليتها بأكثر من 10 نقاط في المغرب، وبما لا يقلّ عن 5 نقاط في موريتانيا، وبما لا يقلّ عن 4 نقاط في الأردن. وعلى الرغم من التراجع الحادّ في النظرة الإيجابية تجاه الولايات المتّحدة عموماً، اعتبر الناس أنّ المساعدات الأمريكية فعّالة في بعض جوانب حياتهم.
والأهمّ من ذلك، ارتبطت هذه الفعالية المتصوَّرة برغبة في تعزيز العلاقات مع الولايات المتّحدة. ففي المغرب، على سبيل المثال، 68 في المئة من المشاركين الذين قالوا إنّ المساعدات الأمريكية تدعم المبادرات التعليمية إلى حدّ ما، أبدوا رغبتهم في تعزيز العلاقات الاقتصادية مع الولايات المتّحدة، بالمقارنة مع 44 في المئة ممن اعتبروا أنّ هذه المساعدات لها تأثير محدود في تعزيز المبادرات التعليمية. وظهرت فجوة مماثلة في لبنان حيث كان المشاركون الذين يعتقدون بفعالية المساعدات الأمريكية في تعزيز المبادرات التعليمية أكثر ميلاً بنسبة 22 نقطة مئوية لدعم علاقات اقتصادية أوثق مع الولايات المتحدة. وسُجلت فروقات مشابهة في العراق (14 نقطة)، والأردن (11 نقطة)، وموريتانيا (9 نقاط).
والجدير بالذكر أنّ المواطنين العرب لم يكونوا سُذّجاً بشأن الدوافع المرتبطة بالقوّة الناعمة وراء المساعدات الأمريكية. فقد رأى أكثر من نصف المستطلعين في لبنان والعراق وتونس والأردن وموريتانيا أنّ الهدف الأساسي لهذه المساعدات هو تعزيز النفوذ الأمريكي في بلدانهم، وليس دعم التنمية الاقتصادية أو تعزيز الاستقرار الداخلي أو تمكين منظّمات المجتمع المدني أو تحسين حياة المواطنين. وكان المغرب استثناءً من هذا الاتجاه، حيث اعتبر 29 في المئة فقط أنّ الهدف الأساسي من المساعدات هو كسب النفوذ. ومع ذلك، فإنّ طريقة تقديم المساعدات تعكس بُعداً براغماتياً، ولا تضرّ بسمعة الولايات المتّحدة بين المستفيدين منها.
بالإضافة إلى ذلك، كان للمساعدات تأثير إيجابي على صورة الولايات المتّحدة حتى عندما لم تكن موجّهة بالكامل نحو أولويات المواطنون. على سبيل المثال، أظهرت الاستطلاعات أنّ غالبية المستجيبين فضّلوا تخصيص المساعدات للتنمية الاقتصادية، تليها مشاريع البنية التحتية، ثمّ التعليم، بينما كانت الأولوية أقل لبرامج تعزيز حقوق المرأة أو دعم المجتمع المدني. ومع ذلك، فقد ساهمت هذه المساعدات في تحسين صورة الولايات المتّحدة، حتى عندما لم تتوافق مع أولويات التي يراها المستفيدون ضرورية.
تُظهر هذه الحقائق أنّ تجميد المساعدات الأمريكية يُشكل ضرراً أكبر على المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ففي وقت كانت فيه صورة الولايات المتّحدة في المنطقة ضعيفة، شكّلت المساعدات وسيلة واضحة لإدارة ترامب لمواجهة هذا التراجع. ولكن بدلاً من ذلك، من المرجّح أنّ يؤدّي الإيقاف المفاجئ لهذه المساعدات إلى تفاقم التصوّرات السلبية عن الولايات المتّحدة، ما يجعل من الصعب كسب القلوب والعقول. وبالتالي، يتمّ تقويض ركيزة أساسية من ركائز القوّة الناعمة الأمريكية، إلى جانب خسارة برامج رئيسة كانت تعود بالنفع على شعوب المنطقة.