كشفت عملية طوفان الأقصى المعقّدة والفتّاكة التي شنّتها حركة حماس في عمق الأراضي الإسرائيليّة عن فشلٍ ذريعٍ لأجهزة الدفاع والأمن والاستخبارات في إسرائيل. فقد أخفق جهاز الأمن العام (شين بيت) والمخابرات العسكريّة الإسرائيليّة والموساد عن رصد عمليات التخطيط والتدريب والإمداد الممهّدة لهذا الهجوم المعقّد براً وبحراً وجوّاً.
ولكن الفشل لم يقتصر على إسرائيل، بل تعدّاه إلى جارتها مصر، التي تدير شبكات استخباريّة بشريّة في غزّة، والتي فشلت هي الأخرى في رصد الخطة – على الرغم من أن المخابرات المصرية أبلغت، بحسب تقارير، الحكومة الإسرائيلية بأنّ عملية من نوع ما كانت وشيكة ولكن تمّ تجاهلها.
يسود الاعتقاد منذ وقت طويل بأنّ إسرائيل تدير عمليّة شاملة لجمع معلومات استخبارية في غزّة والضفة الغربية بالتنسيق مع عناصر من السلطة الفلسطينية بقيادة حركة فتح.
ولكن، كما حدث في يونيو 2007 عندما أطاحت حماس بالسلطة الفلسطينيّة وفرضت سيطرتها على قطاع غزّة، غافلت حماس إسرائيل بفضل نهج السريّة والانضباط الصارمين الذي تتبعه. فقد واجهت إسرائيل تاريخيّاً صعوبة في اختراق حماس من أجل جمع المعلومات الاستخباراتيّة التي كانت لتسهم في احباط عملية طوفان الأقصى. وشكّلت الحركة بالتالي استثناءً مخابراتياً بالنسبة إلى إسرائيل مقارنةً مع الفصائل الفلسطينيّة الأخرى في غزّة. فقبل أن تفرض حماس سيطرتها على الأراضي، كان جهاز أمن السلطة وأجهزتها الاستخباريّة تعمل عن قرب مع إسرائيل، بالأخص جهاز الأمن الوقائي بقيادة محمد دحلان، لأنّها اعتبرت حماس عدوّاً مشتركاً.
من جهة أخرى، لطالما حافظت حماس على الانضباط الصارم داخل صفوفها، بفضل عقيدتها التي أسّست لنوعٍ من الالتزام الذي افتقرت إليه الفصائل الفلسطينيّة الأخرى. كما حافظت على فصلٍ صارم بين مختلف عناصر الحركة، ويتجلّى ذلك بوضوح عند النظر إلى كتائب عزّ الدين القسام، جناحها المسلّح حيث تبنّى قادتها ومدرّبوها وناشطوها وكوادرها نظاماً خلوياً أثبت صموده في وجه محاولات الاختراق أو التخريب على يد العملاء الاستخباراتيين الخارجيين أو غيرهم.
الاستخبارات المحليّة تتفوق على استخبارات إسرائيل
بطبيعة الحال، سيكون من السذاجة أن نفترض أنّ حماس منيعة تماماً عن الإخفاقات الاستخباراتية. فعندما يقع المشتبهون الفلسطينيون في قبضة جهاز شين بيت وغيره من أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، فهم يخضعون لأساليب انتزاع معلومات بالإكراه أدانتها مجموعات حقوق الإنسان باعتبارها ضرباً من ضروب التعذيب.
بيد أنّ حماس، التي تملك أجهزة استخبارات ومكافحة تجسّس خاصة بها، تبدو أكثر مهارة من الفصائل الأخرى في التعامل مع مثل هذه الاعتقالات. فغزّة، كما هو معروف، هي واحدة من أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم. وفي هذا السجن المفتوح الذي يحوي نحو 2،3 مليون فلسطيني محاصر، بالكاد يستطيع المرء أن يعطس، ناهيك عن الوقوع في أيدي قوات الأمن أو المخابرات الإسرائيلية، من دون أن يراه أحد ويبلّغ مسؤولي المنطقة عمّا حدث.
أمّا اليوم، فلم يعد لدى الغزاويين الكثير ليخسروه بعد أكثر من 17 عاماً من الحصار الإسرائيلي البرّي والبحري والجوّي، الذي أدار المجتمع الدولي له ظهره. حتى أنّ معرفة حماس الدقيقة بكلّ موقع حراسة إسرائيلي وقاعدة عسكرية ومستوطنة وحاجز متاخم للأراضي في غزة، لا يعود إلى قدرة استخبارية، بل لأن كلّ من يعيش قرب السياج الفاصل يرى يومياً الأراضي التي تواصل إسرائيل حرمانهم منها. هكذا علمت الحركة بتفاصيل الطريق المقابل وأماكن الكاميرات التي تُشغَّل عن بعد ونقاط المراقبة، فكثيرون في غزّة يعرفونها عن ظهر قلب، ولا يحتاجون لا إلى طهران ولا إلى حرسها الثوري لجمع مثل هذه المعلومات الاستخباراتيّة.
زد على ذلك أنّ نقاط التفتيش والمعابر في غزة تخضع لسيطرة حماس منذ يونيو 2007، فلا تحتاج الحركة إلى تقنيات متطوّرة لمعرفة ما يحدث، كما أنّها دأبت على تحويل المخبرين إلى عملاء مزدوجين يعملون لصالحها في ضربة أخرى لإسرائيل وأجهزتها الاستخباراتيّة.
وإسرائيل تعرف ذلك، وهي تدرك جيّداً النهج الذي يتبّعه قادة حماس وكوادرها في إدارة مستويات العنف عن دقة ودراية، من دون أن يقعوا في الأخطاء الاستخباراتية أو التخبّط الناجم عن تقصير أو نقاط ضعف بنيوية مثل تلك التي وقعت فيها الفصائل المسلّحة التابعة لفتح أو قوّات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية في قطاع غزّة.
حتى أنّ إسرائيل نفسها كانت تعوّل في السابق على هذا النهج العسكري والسياسي الذي اعتمده قادة حماس لكي “تضبط” وتحافظ على الالتزام باتفاقيات وقف إطلاق النار التي كانت توقف مؤقتاً استهداف المستوطنات الجنوبية وما بعدها بالصواريخ. بالتالي، كان ذلك جزءاً من اتفاق الضرورة الذي جعل من العنف أحد وسائل إدارة الصراع. مع ذلك، لم يسهم مثل هذا الانضباط قطّ في فتح أفق الوساطات لإجراء مفاوضات جديّة بين إسرائيل والفلسطينيين للتوصّل إلى حلّ حقيقي للصراع.
فشل إستراتيجي
على مدى السنوات القليلة الماضية، حوّلت إسرائيل انتباهها عن الفلسطينيين الذين تخضعهم لاحتلالها وركّزت على بناء تحالفات إقليميّة للتصدّي لإيران. فاعتمدت على أجهزة السلطة الفلسطينيّة للحصول على المعلومات الاستخباراتيّة على الرغم من أنّ هذه الأجهزة كانت أُقصيَت فعلياً عن الدوائر المحليّة لتشارك المعلومات الاستخباراتيّة، إلى جانب اعتمادها على مصر والأردن وغيرها. في غضون ذلك، واصلت إسرائيل تطبيق سياساتها القمعيّة ضدّ الفلسطينيين وسدّت أذنيها عن مظالمهم وتطلّعاتهم السياسيّة القديمة. وقد تسبّبت هذه الإخفاقات الأمنية والسياسية بأسوأ هجوم على أراضيها منذ عقود، شكّل زلزالاً ربما لن تتعافى سمعة أجهزة الاستخبارات الإسرائيليّة المهيبة من تردّداته أبداً.