متظاهرون يلوّحون بالأعلام الليبية ويرفعون لافتات في أثناء تجمّع في ميدان الشهداء بطرابلس، مساء 17 مايو 2025، للمطالبة باستقالة حكومة الوحدة الوطنية. (وكالة الصحافة الفرنسية)

طرابلس: من حرب على الميليشيات إلى صراع بينها

يعكس التصعيد الأخير للعنف في العاصمة الليبية مساراً مألوفاً وخطيراً لبلد أنهكته الحرب، ويؤكّد الحاجة الملحّة والطارئة إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي قبل فوات الآوان.

21 مايو، 2025
عماد الدين بادي

في العاصمة الليبية طرابلس، نادراً ما يحدث التغيير بسلاسة أو من دون اضطرابات. وقد برز ذلك جلياً، مرّة أخرى، في منتصف مايو، حين سرعان ما تحوّل ما بدا وكأنّه انتصار إستراتيجي لرئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة إلى محطة جديدة في مسلسل الأزمات السياسية والعسكرية المتواصلة التي تعصف بالبلاد. 

 

بدأت الحادثة بمقتل عبد الغني الككلي، قائد جهاز دعم الاستقرار التابع للمجلس الرئاسي الليبي، في اشتباكات دارت في قاعدة التكبالي العسكرية بالعاصمة طرابلس. وبحسب التقارير، جاء مقتله في 13 مايو عقب اجتماع مع عدد من كبار المسؤولين الأمنيين في حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة. وعلى الرغم من الدلالات القاتمة لمقتل قائد محسوب على الدولة في اشتباك مع أطراف أخرى مرتبطة بالحكومة نفسها، سارعت إدارة الدبيبة إلى استثمار الحدث وتقديمه كتحرّك جريء ضدّ الميليشيات التي فرضت سيطرتها على ليبيا ومزّقتها منذ الإطاحة بمعمر القذافي في انتفاضة دعمها حلف شمال الأطلسي في العام 2011. 

 

كان الككلي، المعروف بـلقب «غنيوة»، يتحرّك منذ سنوات في منطقة رمادية ما بين السلطة الرسمية والنفوذ غير الرسمي، مستمدّاً قوّته من دعم السلطة التنفيذية نفسها التي تخلّت عنه اليوم. وعلى الرغم من أنّ دوافع قتله بدت أقرب إلى صراع فصائلي منها إلى إستراتيجية مدروسة، قدّمت حكومة الوحدة الوطنية الحدث كنقطة تحوّل في مسار استعادة الدولة سيطرتها الأمنية، على الأقل في غرب ليبيا حيث تبقى سيطرتها شكلية. 

 

لكن سرعان ما قوّضت تحرّكات الحكومة اللاحقة هذه السردية. وبدلاً من تعزيز الاستقرار في العاصمة، صعّدت حكومة الدبيبة حملتها، مستهدفة مجموعات مسلّحة نافذة أخرى، من بينها «قوّة الردع الخاصّة» ذات التوجّه السلفي والمرتبطة بالمجلس الرئاسي، بالإضافة إلى فصائل حليفة لها. وفي الوقت نفسه، أصدر الدبيبة مراسيم تنفيذية عزّزت نفوذ المقرّبين منه داخل مؤسّسات حيوية، ما غذّى الانطباع بإقصاء الفصائل القادمة من خارج طرابلس، ودفع «قوّة الردع الخاصّة» إلى التعبئة العسكرية. وردّاً على ذلك، فعّلت القوّة قاعدتها الشعبية في حيّ سوق الجمعة الكثيف السكّان، وسعت إلى الحصول على دعم عسكري من فصائل أخرى مهمّشة بسبب تركّز السلطة المتزايد في يد الدبيبة، بما في ذلك مجموعات من الزاوية وتاجوراء في أطراف طرابلس والبلدات التي تقطنها الأقلية الأمازيغية. 

 

وهكذا، انزلقت عملية استهداف أحد القادة إلى صراع متعدّد الجبهات، شاركت فيه ميليشيات أخرى، وشهد استخداماً للمسيّرات واشتباكات في الشوارع. وفي ظل غياب أي إستراتيجية متماسكة توجّه تحرّكات الدولة، انحدرت طرابلس إلى أسوأ موجة عنف تشهدها منذ سنوات. 

 

وبحلول 14 مايو، حين تمكّن قادة المجموعات المسلّحة وعدد من الزعماء المحلّيين من التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، كانت السردية الرسمية قد تبدّدت. فقد رسّخ فشل الحكومة في تأمين العاصمة وحماية المدنيين الانطباعَ بأنّ ما جرى لم يكن تفكيكاً لسلطة الميليشيات، بل مجرّد إعادة توزيع للنفوذ. وبدا أنّ العملية لم هدف سوى إلى استبدال شبكة ولاءات بأخرى، فيما بدت خطابات الإصلاح جوفاء، وتلاشت معها صورة الدولة وهي تحاول استعادة سلطتها. 

 

وبحلول يوم الجمعة، جاءت الاستجابة من الشارع. فقد خرج محتجّون إلى ميدان الشهداء وسط طرابلس، للتعبير عن غضبهم من الفساد والمطالبة بإقالة حكومة الوحدة الوطنية. غير أنّ هذه الاحتجاجات كان لها وجهان: فمن جهة، جسّدت صوتاً مدنياً صادقاً لمجموعات أنهكها العنف وخذلتها سنوات من فشل الحكم؛ ومن جهة أخرى، استغلّت فصائل سياسية ومسلّحة هذا السخط الشعبي، وتسلّلت إلى صفوف المحتجين لزعزعة حكم الدبيبة. وهكذا تلاشت الحدود الفاصلة بين التعبئة الشعبية المشروعة والتوظيف الفصائلي المُمنهج. وبينما سعت حكومة الوحدة الوطنية وخصومها إلى تقديم روايات متضادة تُصوّر الاحتجاجات بالأبيض أو الأسود ، كانت الحقيقة تتبدّى في طيف رمادي معقّد 

 

 

هل يمكن لحكومة الوحدة الوطنية أن تصمد؟ 

 

في ظلّ هذه الأجواء المتوتّرة، قدّم عدد من كبار المسؤولين في الدولة استقالاتهم معلنين دعمهم للمحتجّين. ولم تكن هذه التحرّكات مجرّد قرارات فردية نابعة من ضمير شخصي حيّ، بل جزءاً من حملة منسّقة تقودها فصائل ارتبطت في السابق بحكومة الوحدة الوطنية، وتسعى اليوم إلى تفكيكها من الداخل. ومن خلال تنظيم استقالات مسؤولين كانوا تحت مظلّتها سابقاً، تُسرّع هذه الفصائل وتيرة تفكّك حكومة الدبيبة. 

 

يوم السبت، حاول الدبيبة استعادة زمام السردية واحتواء التداعيات السياسية، فعقد اجتماعاً مع زعماء من مختلف مناطق طرابلس ومصراتة، وألقى كلمة دافع فيها عن أهداف حملته العسكرية. وبينما لقيت رسالته صدى إيجابياً لدى البعض، من غير المرجّح أن تُصعّد الكثير من المجموعات المسلّحة المرتبطة بحكومة الوحدة الوطنية الموقف أكثر لصالحه. تدرك غالبية الفصائل أنّ التصعيد قد يوجّه غضب الشارع نحوها، ولذلك تضع الحفاظ على نفوذها ومواقعها الجغرافية فوق أي ولاء لرئيس الحكومة. وبهذا، تنكمش قاعدة دعم الدبيبة، لا عبر انشقاقات علنية، بل عبر تآكل الدعم من أطراف لم تعد مستعدّة للمخاطرة بمواقعها من أجل بقائه. 

 

يوم الأحد، عادت الحواجز إلى شوارع العاصمة، وعلّقت مصارف تابعة للسلطة المتمركزة في شرق البلاد تعاملاتها مع مؤسّسات طرابلس المالية. لم تكن هذه الخطوات حيادية، بل مثّلت محاولات مدروسة ومدفوعة سياسياً لإحداث فوضى. ومن خلال استهداف الحياة اليومية والاستقرار الاقتصادي، سعى خصوم الدبيبة إلى استغلال الاضطرابات وتعميق الانطباع بفشل حكومته. وما بدأ كاحتجاج مدني أصبح أداة مكشوفة في صراع على السلطة، منح الدبيبة فرصة غير متوقّعة للنجاة. 

 

قد ينجو رئيس الوزراء لا بفضل حنكته السياسية، بل بسبب ارتباك مناورات خصومه. ومثال على ذلك تحرّك رئيس مجلس النوّاب في الشرق، عقيلة صالح، الذي حاول استغلال اللحظة للدفع نحو استبدال جديد للسلطة التنفيذية. غير أنّ هذه الخطوة لا تعكس تضامناً حقيقياً مع الشعب الليبي، ومن غير المرجّح أنّ تنطلي على الرأي العام. فالسخط الشعبي تجاه مجلس النواب لا يقلّ عن سخطهم تجاه حكومة الوحدة الوطنية، بل ربّما يفوقه. وقد تؤدّي رغبة صالح في استغلال الأزمة إلى إنقاذ الحكومة ذاتها التي يسعى إلى إزاحتها. 

 

 

تكرار الماضي؟ 

 

ما يبعث على القلق في الوضع الراهن هو أنّه يحمل سمات واحدة من أخطر محطّات الماضي الليبي، تلك التي شكّلت نذيراً لصراع أوسع. ففي أواخر العام 2018، أدّى العنف بين المجموعات المسلّحة في غرب ليبيا إلى تفكّك المشهد الأمني في طرابلس، ومهّد الطريق أمام الهجوم الفاشل الذي شنّه القائد العسكري المتمركز في الشرق، خليفة حفتر، على العاصمة في أبريل 2019. واليوم، تعود خطوط الصدع إلى الظهور من جديد، وتتكرّر الانتهازية نفسها، وتتجدّد الأوهام بإمكانية الاستيلاء على السلطة من دون محاسبة، وهي الأوهام التي ما زالت توجّه طموحات المتصارعين على الحكم. 

 

لا تتطلّب هذه اللحظة الخطيرة حواراً فحسب، بل تفترض قطيعة حاسمة مع الصيغة التي فشلت في إنقاذ ليبيا لأكثر من عقد. لقد أتاح تراجع ثقة الجمهور في حكومة الوحدة الوطنية فرصة نادرة لتفكيك البنية السياسية التي عمّقت اختلال النظام الليبي، وأيّ مسار يعيد إنتاج الترتيبات القائمة من خلال مساومات بين مجلس النوّاب في الشرق والمجلس الأعلى للدولة — أحد مراكز القوّة الأخرى في ليبيا — بهدف إجراء تعديل شكلي على حكومة طرابلس، لن يكون بلا جدوى فحسب، بل سيمثّل إهانة لشعب دفع ثمن هذا الجمود باهظاً. 

 

تحتاج ليبيا إلى تفكيك حكومتيها المتنافستين وإنهاء التفويض المطوّل لمجلس النوّاب الذي بات يجسّد الركود والفشل. ويجب أن ترتكز أي عملية انتقالية مستقبلية إلى سلطة مؤقّتة مبسّطة، تضع في صلب أولوياتها تنفيذ إصلاحات اقتصادية وأمنية عميقة. وإذا استمرت الأطراف الدولية في التعامل مع مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة كمحاورين شرعيين، فلن تتسبّب سوى بإعادة إنتاج الأزمة ذاتها التي تدّعي أنّها تسعى إلى حلّها. لم يعد الدعم الخطابي لجهود الوساطة التي تقودها الأمم المتّحدة في ليبيا كافياً. على شركاء ليبيا أنّ يتكاتفوا لتمكين الأمم المتّحدة من كسر الأطر الفاشلة وصياغة خارطة طريق واقعية تستجيب لضرورات اللحظة وتستثمر الفرص التي تتيحها. 

 

في غياب تحوّل جذري يعيد ضبط المسار السياسي والأمني في ليبيا، من المرجّح أن تعود ليبيا إلى تكرار أكثر أنماطها خطورة. فالتاريخ يُظهر بوضوح أنّ بديل التغيير في ليبيا ليس الاستقرار، بل الانزلاق إلى موجات جديدة من التصعيد والفوضى

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفيها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: الحرب الأهلية، الحوكمة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
البلد: ليبيا

المؤلف

زميل أول غير مقيم في برامج الشرق الأوسط في المجلس الأطلسي
عماد الدين بادي هو زميل أول غير مقيم في برامج الشرق الأوسط في المجلس الأطلسي، حيث يقدّم المشورة بشأن السياسات الأمريكية والأوروبية حول شمال أفريقيا ومنطقة الساحل، مع تركيز خاص على الصراع في ليبيا. وهو مستشار بارز ويتمتّع بخبرة تتجاوز العقد في مجالات الحوكمة والجريمة المنظّمة والاستقرار في مرحلة ما بعد الصراعات، بالإضافة إلى الهياكل الأمنية… Continue reading طرابلس: من حرب على الميليشيات إلى صراع بينها