في مطلع هذا العام، عاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الخليج حاملاً معه جملة من القضايا المعهودة: الصفقات والدفاع والبيانات. وفي خلال أربعة أيام، زار المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتّحدة وقطر، وحصل على تعهّدات استثمارية تتجاوز تريليوني دولار، وأعلن عن اتفاقيات واسعة النطاق في مجالات الذكاء الاصطناعي، وبنية الوقود الأحفوري التحتية، والدفاع. غير أنّ قضية واحدة غابت غياباً لافتاً عن جدول الأعمال، وهي التعاون في مواجهة تغيّر المناخ.
لم يكن هذا الغياب عرضياً، بل شكّل تحوّلاً متعمّداً بعيداً عن الدبلوماسية المناخية التي تبنّتها إدارة بايدن، نحو نموذج تعامل قائم على المعاملات ويعطي الأولوية للمكاسب الاقتصادية والإستراتيجية قصيرة المدى، انسجاماً مع أجندة ترامب «للهيمنة على الطاقة». غير أنّ هذا النهج، في منطقة تزداد عرضة للمخاطر البيئية الشديدة، يكرّس اتساع الفجوة مع الدول الخليجية التي باتت تبني هويتها الإستراتيجية على أساس ريادتها المناخية. لقد ركّزت جولة ترامب الخليجية على المكاسب الآنية، لكنها تركت سؤالاً بلا إجابة: كيف تنسجم هذه الدبلوماسية الجديدة مع أهداف المنطقة لاستدامة طويلة المدى؟
من الهشاشة الخليجية إلى الريادة
وفي مفارقة لافتة، تأتي خطابات ترامب المناهضة للعمل المناخي في وقت تتبوأ فيه دول الشرق الأوسط، ولا سيّما الدول الخليجية، مكانة الريادة العالمية في الحراك المناخي. فقد استضافت الإمارات العربية المتّحدة مؤتمر الأطراف (COP28) في العام 2023، وضخّت استثمارات ضخمة في الطاقة النووية والهيدروجين الأخضر ومصادر الطاقة المتجدّدة، وأصبحت أول دولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تعلن هدفاً وطنياً للوصول إلى الحياد الكربوني بحلول العام 2050. وقد اختُتمت قمّة مؤتمر الأطراف 28 (COP28) بدعوة إلى «التحوّل بعيداً عن الوقود الأحفوري»، وهو ما عُدّ إنجازاً تاريخياً في مسيرة العمل المناخي العالمي، على الرغم ممّا أثاره من انتقادات لعدم كفايته.
وتتضمّن رؤية المملكة العربية السعودية 2030 أهدافاً واسعة في الاستدامة، ما يوضح نيّتها قيادة العمل المناخي إقليمياً ودولياً. كما التزمت المملكة بالوصول إلى الحياد الكربوني بحلول العام 2060. أمّا قطر، فقد دفعت قدماً بمبادرات التمويل المناخي وإستراتيجيات التكيّف، خصوصاً في مجال أمن المياه والقدرة الحضرية على الصمود، وحدّثت مساهماتها المحدّدة وطنياً، متعهّدةً بخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة 25 في المئة بحلول العام 2030. فضلاً عن ذلك، انضمّت قطر إلى التعهّد العالمي بشأن الميثان، وهو مبادرة لخفض انبعاثات الغازات الدفيئة القوية الأخرى، مستندةً إلى مكانتها كعضو مؤسّس في «منتدى الدول المنتجة بصافي انبعاثات صفرية». كما استضافت قطر مؤتمر الأطراف 18 (COP18) في العام 2012، ليكون أول قمّة مناخية أممية تُعقد في الخليج، في إشارة إلى رغبة المنطقة المتنامية في تأدية دور فعّال في صياغة الدبلوماسية المناخية الدولية.
هذه الجهود ليست مجرّد مساعٍ لتحسين السمعة، بل تعكس إدراكاً إستراتيجياً بأنّ الصمود المناخي مسألة وجودية. إذ يهدّد ارتفاع درجات الحرارة، وشحّ المياه، والظواهر المناخية المتطرّفة، كلّ من البنى التحتية وأنظمة الغذاء والاستقرار الاقتصادي. فضلاً عن أنّ الريادة المناخية أصبحت أداة قوّة ناعمة في المنطقة. ومن خلال استضافة مؤتمرات المناخ، وإطلاق صناديق خضراء، والانخراط في دبلوماسية مناخية متعدّدة الأطراف، تعيد الدول الخليجية تشكيل أدوارها القيادية الإقليمية والدولية ضمن مشهد الطاقة الجديد.
أمّا جولة ترامب الخليجية في العام 2025، فقد صُمّمت لتحقيق أقصى قدر من المكاسب الإعلامية والسياسية في الداخل الأمريكي. ففي الرياض، استُقبل ترامب بحفاوة ملكية فاخرة وأكّد متانة علاقته بولي العهد محمد بن سلمان. وفي أبوظبي، تجوّل في مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي وأشاد بالابتكار الإماراتي. وفي الدوحة، احتفى بجهود الوساطة القطرية وأعلن عن صفقات في مجالي الطيران والدفاع. لكن عبر المحطات الثلاث، غاب موضوع العمل المناخي عن التصريحات العلنية والاتفاقيات الثنائية.
وبدلاً من ذلك، انصبّ التركيز على العرض الاقتصادي المذهل. فقد تعهّدت المملكة العربية السعودية باستثمارات بقيمة 600 مليار دولار في الولايات المتّحدة، تشمل قطاعات الدفاع والطاقة والمعادن الحيوية. وأعلنت الإمارات العربية المتّحدة عن التزام بقيمة 1,4 تريليون دولار في بنية تحتية للذكاء الاصطناعي وشراكات تكنولوجية. وكشفت قطر عن طلبية تاريخية لطائرات بوينغ بقيمة 96 مليار دولار ضمن صفقة الطيران، إلى جانب صفقات دفاعية. وقد وُصفت هذه الصفقات بأنّها اختراقات في الدبلوماسية الاقتصادية، ما يضع الخليج في قلب السياسة الخارجية لترامب في خلال ولايته الثانية.
كان غياب التعاون المناخي متوقعاً، وهو غياب يعكس اتساع الفجوة بين الدبلوماسية الأمريكية وأولويات الدول الخليجية. وجاء ذلك على النقيض من زيارة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن إلى مؤتمر الأطراف 27 (COP27) في مصر، وتمثيل نائبة الرئيس حينها كامالا هاريس لواشنطن في مؤتمر الأطراف 28 (COP28)، وهو ما عكس التزاماً بخفض الكربون والتمويل المناخي والانخراط متعدّد الأطراف. وقد أبرزت تلك الزيارات أهمّية التماهي مع الأطر المناخية العالمية وطموحات الخليج في العمل المناخي. أمّا جولة ترامب، فقد جسّدت تحوّلاً واضحاً نحو شراكات تقودها الاستثمارات والدفاع والوقود الأحفوري والتكنولوجيا، متجاوزةً التحالفات التقليدية والالتزامات المناخية التي باتت تراها الدول الخليجية أكثر فأكثر جزءاً مركزياً من رؤاها ومستقبلها الإستراتيجي.
الجمود المناخي مقابل المواءمة الإستراتيجية
في يناير 2025، انسحب ترامب من اتفاقية باريس للمناخ للمرة الثانية، منهياً فجأةً مشاركة الولايات المتّحدة في الدبلوماسية المناخية العالمية. وجاء ذلك بعد أن انضمّت إدارة بايدن مجدّداً إلى الاتفاق في العام 2021 (عقب انسحاب ترامب في ولايته الأولى)، وأقرّت تشريعات بارزة مثل قانون خفض التضخم وقانون الاستثمار في البنية التحتية والوظائف، ما وضع الولايات المتّحدة في موقع الريادة المناخية عالمياً.
بالنسبة إلى الدول الخليجية، يمثّل تراجع واشنطن عن التعاون المناخي إشارة إلى خلل في التوافق مع أولوياتها المتطوّرة. إذ تنخرط هذه الدول انخراطاً متزايداً مع أوروبا، والصين، والمؤسّسات متعدّدة الأطراف في مجالات التمويل المناخي، والأمن الغذائي، والتكنولوجيا الخضراء. وتوفّر شراكة الطاقة النظيفة بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي، إلى جانب الاستثمارات الخضراء الصينية ضمن مبادرة الحزام والطريق، بدائل عن الانخراط الأمريكي.
كما أنّ غياب الحوار المناخي يقوّض الثقة. إذ يتوقّع شركاء الدول الخليجية اتساقاً ورؤية طويلة المدى. أمّا الدبلوماسية التي تركّز على الدفاع والوقود الأحفوري حصراً، فقد تحقّق مكاسب قصيرة الأمد، لكنها تفتقر إلى الرؤية البعيدة التي تطالب بها الدول الخليجبة وهي تعيد تعريف نفسها من خلال الاستدامة والعمل المناخي. لقد أعطت جولة ترامب الأولوية للصفقات الاقتصادية، لكنها تركت سؤالاً بلا إجابة: كيف تتماشى هذه الاستثمارات مع الأهداف المناخية الإقليمية؟ ومن دون ضمانات مناخية، قد تؤدّي هذه الاستثمارات إلى تفاقم الضغوط البيئية وتقويض تحوّل الخليج نحو الصمود والابتكار.
حتى في المجالات التي توافقت فيها رؤية الطرفان، مثل الذكاء الاصطناعي وبنية الطاقة التحتية، ظلّ سؤال المناخ حاضراً في الخلفية. فقد وُصف إعلان الإمارات العربية المتّحدة عن بناء أكبر مركز بيانات للذكاء الاصطناعي خارج الولايات المتّحدة بالشراكة مع شركة «أوبن إيه آي» (OpenAI) بأنّه قفزة إستراتيجية. لكن من دون دمج البعد المناخي، تهدّد هذه المشاريع التي تستهلك كميات ضخمة من الطاقة، بتعميق الهشاشة البيئية، بدءاً من مراكز البيانات كثيفة الاستهلاك للمياه، وصولاً إلى الشبكات الكهربائية عالية الانبعاثات الكربونية.
كما أنّ صفقات الطاقة التي ركّزت على التوسّع في الوقود الأحفوري تتناقض مع أهداف المنطقة في خفض الكربون. فبينما تواصل الدول الخليجية تحقيق عوائد من الهيدروكربونات، فإنّها تستثمر أيضاً بكثافة في تقنيات احتجاز الكربون، والطاقة المتجدّدة، والتقنيات الخضراء. وأيّ مقاربة أمريكية تتجاهل هذه الازدواجية تخاطر بفقدان التماهي مع طموحات المنطقة.
وفضلاً عن ذلك، قد تعرقل الفجوة المناخية في الدبلوماسية الأمريكية الابتكار. إذ تستكشف الدول الخليجية حلولاً تكنولوجية مناخية، بدءاً من الزراعة الصحراوية لتعزيز الأمن الغذائي، وصولاً إلى تحلية المياه بالطاقة الشمسية. ومن خلال استبعاد المناخ من إطار التعاون الثنائي، قد تفوّت الولايات المتّحدة فرصاً ثمينة لتطوير تقنيات مشتركة تعالج تحدّيات متبادلة.
لم يعد الخليج متلقياً خاملاً للأجندات المناخية العالمية، بل يسعى إلى القيادة داخلياً وخارجياً. فمن استضافة مؤتمرات المناخ، إلى إطلاق مبادرات خضراء إقليمية وعالمية، تعمل الدول الخليجية على دمج الحوكمة البيئية ضمن هويتها الإستراتيجية. وهذه الطموحات المناخية ليست رمزية فحسب، بل تعكس استجابة محسوبة لمخاطر وجودية ورغبة في قيادة التحوّل في الطاقة.
يسفر عن غياب التعاون المناخي في الدبلوماسية الأمريكية فجوة متنامية في التوافق. ومع ذلك، تمضي الدول الخليجية قدماً في تحوّلات الطاقة، وابتكارات التكنولوجيا المناخية، والتمويل المناخي متعدّد الأطراف، مع دول أكثر انسجاماً مع رؤيتها. ولا يهدّد غياب الانخراط المناخي من واشنطن بتهميش دور الولايات المتّحدة فحسب، بل أيضاً تعقيد جهود الدول الخليجية للحفاظ على زخم أجندات الاستدامة وتماسكها. وقد يكون ردّ فعل هذه الحكومات هو إعادة تقييم شراكاتها، مع إعطاء الأولوية لتلك التي تعزّز أهدافها المناخية واستقلاليتها الإستراتيجية.
في عالم بات ترسم معالمه آثار المناخ والمخاطر والصمود، تصبح الدبلوماسية التي تتجاهل قضايا المناخ ليست مجرّد دبلوماسية ناقصة، بل بالية وعفا عليها الزمن.