صدمة ترامب ستقود إلى فكّ ارتباط عالمي 

أطلقت الرسوم الجمركية «المتبادلة» التي فرضها الرئيس دونالد ترامب حرباً تجارية عالمية وأدّت إلى انهيار الأسواق المالية. إذ تُعدّ الصين هدف ترامب الرئيس المُعلن في مسعاه لاستعادة التجارة «العادلة». غير أنّ سياسة الرسوم الجمركية الجديدة ستترك آثاراً بعيدة المدى، لا سيّما على اقتصادات دول الجنوب العالمي وعلاقاتها بدول الشمال العالمي.    سيؤدّي التوازن العالمي الجديد… Continue reading صدمة ترامب ستقود إلى فكّ ارتباط عالمي 

15 يونيو، 2025
رباح أرزقي، طارق محمد يوسف

أطلقت الرسوم الجمركية «المتبادلة» التي فرضها الرئيس دونالد ترامب حرباً تجارية عالمية وأدّت إلى انهيار الأسواق المالية. إذ تُعدّ الصين هدف ترامب الرئيس المُعلن في مسعاه لاستعادة التجارة «العادلة». غير أنّ سياسة الرسوم الجمركية الجديدة ستترك آثاراً بعيدة المدى، لا سيّما على اقتصادات دول الجنوب العالمي وعلاقاتها بدول الشمال العالمي. 

 

سيؤدّي التوازن العالمي الجديد في مجالي التجارة والاستثمار الناجم عن صدمة ترامب إلى حالة من فكّ الارتباط بين دول الشمال والجنوب العالميين. ولا شكّ في أنّ هذا الفكّ ستكون له آثار سلبية صافية على الاقتصاد العالمي على المدى الطويل. 

 

أمّا على المدى القصير، فستواجه اقتصادات دول الجنوب العالمي انخفاضاً مستمراً في أسعار السلع الأساسية وتضخماً متفشياً وأزمات مالية. وبالنسبة إلى مصدّري السلع الأساسية مثل البرازيل وتشيلي، ستتضمّن الآثار أيضاً تراجعاً في أنشطة الحفر والاستخراج، خصوصاً في المواقع التي تكون فيها كلفة الاستخراج مرتفعة. أمّا مصدرو السلع المصنّعة مثل الهند والمكسيك، فستجبرهم صدمة ترامب على تحمّل أعباء الرسوم الجمركية المتزايدة والتعامل مع اضطرابات سلاسل التوريد، وهو ما قد يتحوّل إلى تهديد وجودي. وفي نهاية المطاف، سيواجه الجميع عودة التضخّم العالمي وسيتحمّله المستهلكون والمنتجون من خلال ارتفاع أسعار السلع الوسيطة والنهائية على حدّ سواء. 

 

وعلى نطاق أوسع وبأثر دائم، سيؤدّي الغموض المتزايد بشأن الرسوم الجمركية إلى تسريع تفكّك سلاسل التوريد العالمية، ما سيزيد الفجوة بين دول الشمال والجنوب العالميين. وستجبر الرسوم الجمركية الشركات متعدّدة الجنسيات على الإنتاج بالقرب من أسواق الاستهلاك التي تتركّز أساساً في دول الشمال العالمي. ومن المفارقات أنّ إعادة توطين الإنتاج في دول الشمال العالمي ستؤدّي إلى ارتفاع تكلفة الإنتاج وتزيد وتيرة التضخّم، وهو ما سينعكس سلباً على المستهلكين في تلك الدول. 

 

وسيترتب على تبنّي سياسات صناعية جديدة لتحفيز إعادة توطين الإنتاج تكاليف باهظة وجهوداً مضنية. وبالنسبة إلى حكومات دول الشمال العالمي، ستؤدّي مثل هذه السياسات إلى اتساع العجز المالي وزيادة مستويات الديون. كما ستكون المكاسب الاقتصادية المرتبطة بالسياسة الصناعية محدودة إذا ما طُبقت على عجل وبشكل غير مدروس بدافع الشعور بالحاجة الملحّة. 

 

ومن غير المرجّح أن يظلّ حجم التجارة والاستثمار مزدهر بين دول الشمال العالمي في ظلّ عالم مفكّك اقتصادياً. لكن ماذا عن آفاق التجارة والاستثمار بين دول الجنوب العالمي؟ لا شكّ في أنّ الصين أصبحت الشريك التجاري الرئيس لمعظم دول الجنوب العالمي ولغيرها من المناطق، متجاوزة الولايات المتّحدة وأوروبا. وقد يُعدّ ذلك مكسباً للجنوب. كما قد يظهر «رابحون» في المنطقة نتيجة إعادة تشكيل سلاسل التوريد العالمية. فعلى سبيل المثال، ستستفيد البرازيل من ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وستصدّر المزيد من السلع إلى الصين، التي كانت تستوردها تقليدياً من الولايات المتّحدة. أمّا الهند، التي طالما تأخّرت في مجال التصنيع، فقد تتحوّل إلى مركز جديد لتصنيع الأجهزة، بما في ذلك الهواتف الذكية. 

 

وعلى الرغم من ذلك، قد تظلّ التداعيات الناجمة عن اضطرابات فكّ الارتباط عبئاً سلبياً صافياً بالنسبة إلى دول مثل البرازيل والهند. كما أنّ الاستهلاك في الشمال العالمي هو المحرّك الأساسي للتجارة والاستثمار في الاقتصادات المعتمدة على التصدير في الجنوب العالمي، سواء في السلع الأساسية أو المصنّعة. لذلك، لن يكون فكّ الارتباط المفاجئ بين الشمال والجنوب العالميين مستداماً، إلّا إذا اتّجهت اقتصادات الجنوب نحو نموذج اقتصادي قائم على الاستهلاك المحلّي للحدّ من اعتمادها على أسواق الاستهلاك الخارجية. وستتطلّب أي إعادة توازن حقيقية في حركة التجارة وقتاً وتغييرات جذرية في أسواق الائتمان المحلّية وسعر الصرف. 

 

المهمّ أنّه لا يمكن فصل النقاش بشأن التجارة عن النقاش بشأن تدفّقات رؤوس الأموال فهما في الواقع وجهان لعملة واحدة. إذ إنّ الميزان التجاري بين دول الشمال والجنوب العالميين يقابله بالضرورة حركة في حساب رأس المال. ويفهم من ذلك أنّ العجز التجاري بين الولايات المتّحدة والصين، على سبيل المثال، يعني أنّ الأولى تقترض من الثانية. وهذه مفارقة لافتة بالنظر إلى التفاوت الكبير في مستويات الدخل بين الدولتين. وترتبط مكانة الدولار الأمريكي كعملة احتياطية بطبيعة سندات الخزانة الأمريكية بوصفها أصولاً آمنة. إذ تحتفظ اقتصادات دول الجنوب العالمي، بما في ذلك الصين، بكميات كبيرة من سندات الخزانة الأمريكية باعتبارها شكلًا من أشكال الاحتياطيات الدولية، ما يسمح لها بالتدخّل في أسواق الصرف الأجنبي متى اقتضت الحاجة. 

 

وقد جادلت إدارة ترامب بأنّ ضعف الدولار سيحدّ من ما تعتبره طلباً مفرطاً على الأصول المقوّمة بالدولار. ويظلّ غياب عملة احتياطية بديلة بمثابة الضمان الأكبر لأنّ أيّ عملية لفكّ الارتباط بين الشمال والجنوب العالميين ستكون كارثية. وتُعدّ التطورات الأخيرة في أسواق الخزانة الأمريكية، حيث ارتفعت العائدات بشكل غير مسبوق نتيجة تصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتّحدة والصين، غير معتادة ومثيرة للقلق الشديد. وعلى الرغم من الحديث المتكرّر عن بديل للدولار من قبل دول «البريكس»، يبدو أنّ تحقّق ذلك مستبعد. إذ يتطلّب ترسيخ عملة احتياطية دولية إزالة القيود على حركة رؤوس الأموال وتطوير أسواق سندات عميقة وذات سيولة عالية في اقتصادات دول مجموعة البريكس. 

 

في هذا السياق، تواجه البنوك المركزية الكبرى في الشمال العالمي معضلة حقيقية: هل تشدّد السياسة النقدية وترفع أسعار الفائدة تحسباً لتفاقم معدّلات التضخّم، على الرغم من تزايد المخاوف من ركود عالمي؟ عادةً ما يؤدّي تشديد السياسة النقدية إلى توقّف مفاجئ في تدفّقات رؤوس الأموال من الجنوب العالمي باتجاه الأصول الآمنة في الشمال، وعلى رأسها الأصول المالية الأمريكية. وهذا بدوره يؤدّي إلى تراجع قيمة العملات المحلّية، وزيادة معدّلات التضخّم، وتفاقم أزمات الديون، نتيجة اختلال بين العملات المحلّية والديون الخارجية في اقتصادات الجنوب العالمي. 

 

وعلى الرغم من أنّ التوتّرات الأخيرة في سوق السندات الأمريكية تشير إلى أنّ المستثمرين باتوا يشكّكون في طبيعة هذه الأصول كملاذ آمن، إذ لا يُبشّر غياب بدائل حقيقية للدولار كعملة احتياطية بالخير، لا للشمال العالمي ولا للجنوب. وستكون عملية فكّ ارتباط قسري بين الشمال والجنوب بمثابة قفزة في المجهول 

 

نُشرت هذه المقالة في الأصل على موقع Barrons.
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ المؤلّف حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: السياسة الأمريكية الخارجية
البلد:

المؤلّفون

زميل أول غير مقيم
رباح أرزقي هو زميل أول غير مقيم في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية، ومدير البحوث في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، وزميل أول في كلّية جون كينيدي للإدارة الحكومية في جامعة هارفارد. وهو أيضاً زميل باحث في منتدى البحوث الاقتصادية في القاهرة.   قبل ذلك، شغِل أرزقي منصب كبير الاقتصاديين ونائب الرئيس في مجمّع الحوكمة… Continue reading صدمة ترامب ستقود إلى فكّ ارتباط عالمي 
مدير وزميل أوّل
طارق يوسف هو زميل أوّل ومدير مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية. وكان قبل ذلك زميلاً أولاً ومدير مركز بروكنجز الدوحة وأيضاً زميلاً غير مقيم في برنامج السياسة الخارجية بمعهد بروكنجز في العاصمة الأمريكية واشنطن. وهو أيضاً زميل بحوث في منتدى البحوث الاقتصادية في القاهرة.   شملت حياته المهنية العالم الأكاديمي ومراكز البحوث في كلية الشؤون… Continue reading صدمة ترامب ستقود إلى فكّ ارتباط عالمي