نوتنغهامشاير، المملكة المتحدة، ١٢ فبراير ٢٠٢٥ (Shutterstock)

سياسات ترامب الاقتصادية والرسوم الجمركية والفرار العالمي من الولايات المتّحدة

اقتصادات الدول الخليجية ودول آسيوية تسعى للتحوّط من مخاطر الهيمنة الأمريكية

4 مايو، 2025
ناصر السعيدي

أدّى صعود سياسات ترامب الاقتصادية إلى تصعيد حادّ في التوتّرات التجارية العالمية وزيادة حالة عدم اليقين الاقتصادي وتقلّبات الأسواق المالية. 

 

وليس من المبالغة القول إنّ الرسوم الجمركية والسياسات المتقلّبة التي تنتهجها الإدارة الأمريكية تهدّد بتفكيك «النظام القائم على القواعد» الذي أرسته الولايات المتّحدة والدول الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، ما يضعف مصداقية أمريكا العالمية ويقوّض هيمنتها الجيوسياسية. 

 

يتجاوز مفهوم سياسات ترامب الاقتصادية حدود الرسوم الجمركية والحروب التجارية، ليشمل معارك التكنولوجيا والرقائق الإلكترونية، فضلاً عن تبنّي سياسات حمائية أوسع تُخضِع المصالح الاقتصادية لاعتبارات الأمن القومي، متجاهلة المنطق المالي ومبدأ الميزة النسبية وآليّات الأسواق الحرّة. 

 

تعكس مقاربة الرئيس دونالد ترامب حنيناً إلى حقبة مضت كان فيها التصنيع ركيزة للقوّة الاقتصادية. 

 

في المقابل، ترتكز القوّة الاقتصادية الأمريكية اليوم على الخدمات القائمة على التكنولوجيا، إذ تسجّل الولايات المتّحدة فائضاً تجارياً كبيراً في الخدمات يُقدّر بنحو 293 مليار دولار، فضلاً عن عوائد من حقوق الملكية الفكرية. 

 

وفي اقتصاد عالمي معولم، لم يعد الموقع الجغرافي العامل الحاسم، بل المشاركة في سلاسل التوريد العالمية والقدرة على مواكبة تعقيدات المنتجات المتزايدة. 

 

غير أنّ الجهود الأمريكية لفكّ الارتباط مع الصين، إلى جانب تنامي الحواجز الجمركية وغير الجمركية مع الاتحاد الأوروبي وكندا والمكسيك وغيرها، تشير إلى إعادة هيكلة محتملة لسلاسل التوريد العالمية. 

 

وعليه، ينبغي أن تركّز السياسات الاقتصادية على إعادة تشكيل مشهد التجارة والتمويل والتكنولوجيا عالمياً. 

 

وقد دفعت الرسوم الجمركية المتبادلة والردود الانتقامية وحالة عدم اليقين في السياسات التجارية، بصندوق النقد الدولي إلى خفض توقّعاته للنموّ العالمي بشكل حادّ، إذ تمّ تقليص التوقّعات بنحو 0,5 نقطة مئوية إلى 2,8 في المئة لهذا العام. 

 

أمّا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فقد خفّض الصندوق توقّعات النموّ إلى 2,6 في المئة فقط، بتراجع قدره 0,9 نقطة مئوية، مع توقّعات بأن ينمو الاقتصاد السعودي بنسبة 3 في المئة بدلاً من 3,3 في المئة، والاقتصاد الإماراتي بنسبة 4 في المئة. 

 

وعلى الرغم من أنّ الأثر المباشر لزيادات الرسوم الجمركية الأمريكية على بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا سيكون محدوداً، فإنّ نحو 22 مليار دولار من الصادرات غير النفطية باتت مهدّدة. ومن المتوقّع أن يتأثّر كلّ من لبنان والبحرين ومصر والأردن والمغرب وتونس بشكل ملحوظ في هذه الزيادات الجمركية الجديدة. 

 

وتنبع التأثيرات غير المباشرة من عوامل متعدّدة، وهي تراجع الطلب على النفط وزيادة إنتاج «أوبك+»، ما قد يؤدّي إلى انخفاض الأسعار ويضرّ بالدول المصدّرة للنفط. وإلى جانب الضغوط الناجمة عن تراجع قيمة الدولار وتجميد عمليات الاكتتاب العام وسط تقلّبات الأسواق وارتفاع تكاليف التمويل، في وقت تشكّل فيه مدفوعات الفائدة المرتفعة تحدّياً للدول المثقلة بالديون، مثل البحرين والمغرب والأردن وتونس ومصر. 

 

ومن المرجّح أنّ تثقل هذه الضغوط كاهل القطاعات المعتمدة على التجارة، مثل النقل واللوجستيات 

 

 

إستراتيجيات التحصين 

 

بالنسبة إلى الاقتصادات الآسيوية والعربية، وخصوصاً تلك التي تقودها دول مجلس التعاون الخليجي، ينبغي أنّ تتركّز السياسات الاقتصادية على إعادة تشكيل مشهد التجارة والتمويل والتكنولوجيا العالمي، بما يعكس أولويات نظام متعدّد الأقطاب لا يتمحور حول الولايات المتّحدة. 

 

تكمن الركيزة الأولى لهذا النظام الجديد في تطوير اتفاقيات تجارية إقليمية وثنائية عميقة ومتبادلة، لا تقتصر على تبادل السلع لتشمل مجالات أوسع من السياسات الاقتصادية. 

 

أمّا بالنسبة إلى مجلس التعاون الخليجي، فتتمثّل أولوياته الإستراتيجية العاجلة في التوصّل إلى اتفاق تجاري مع كتلة منطقة التجارة الحرّة لرابطة دول جنوب شرق آسيا، وإتمام اتفاقية التجارة الحرّة مع الصين، التي طال أمد التفاوض بشأنها. 

 

وتتمثّل المهمّة الثانية في تطوير الأسواق المالية وتعميقها وربطها في ما بينها. فبحلول نهاية العام 2024، شكّلت الولايات المتّحدة ما يقارب نصف القيمة السوقية لأسواق الأسهم العالمية، فيما بلغ حجم أسواقها المالية نحو 200 في المئة من ناتجها المحلّي الإجمالي، بالمقارنة مع 50 في المئة فقط للصين. 

 

وتعني هيمنة الأسواق الأمريكية أنّ الصدمات المالية التي قد تنشأ فيها، كما حدث في الأزمة المالية العالمية، تُحدث تردّدات في أنحاء العالم كافة، ما يبرز الحاجة الملحّة أمام دول مثل دول مجلس التعاون الخليجي لتقليص انكشافها على هذه الأسواق والتحوّط من مخاطرها. 

 

يجب دمج الأسواق المالية الخليجية المصدّرة لرؤوس الأموال، لا سيّما أنّ حجمها الكبير يسمح بربطها بفعّالية مع مراكز مالية آسيوية مثل سنغافورة وهونغ كونغ وشنغهاي. ومن شأن هذا التكامل أنّ يحوّل الدول الخليجية إلى لاعب عالمي في تمويل التحوّل في مجال الطاقة والذكاء الاصطناعي والروبوتات والتكنولوجيا الحيوية والأتمتة. 

 

وتتمثّل الخطوة الثالثة في تقليص اعتماد أنظمة المدفوعات الإقليمية على الدولار الأمريكي، في ظلّ تصاعد استخدامه كأداة ضغط في الحروب الاقتصادية. 

 

وبحسب شبكة سويفت العالمية، استحوذ الدولار على حوالي 50 في المئة من معاملات الدفع العالمية حتى يناير 2025، في مقابل 22 في المئة لليورو و4 في المئة لليوان الصيني. وترتفع هذه الهيمنة في مجال تمويل التجارة، إذ تصل حصة الدولار إلى 83 في المئة مقابل 6 في المئة لليوان و5 في المئة لليورو فقط. 

 

مع ذلك، يتّجه المستقبل نحو العملات الرقمية. ومع استمرار تحوّل سلاسل الإمداد العالمية نحو آسيا والصين، من المرجّح أنّ يشكّل اليوان، وخصوصاً اليوان الرقمي، أساساً لتمويل حصّة متزايدة من التجارة غير المقومة بالدولار. 

 

غير أنّ تحوّل اليوان إلى عملة احتياطية عالمية مشروط بتسريع الصين تطوير أسواق ديون محلّية واسعة وعميقة وسائلة. 

 

وتبقى قابلية التحويل الكاملة لليوان محطّة مفصلية لا بدّ منها كي يصبح بديلاً طويل الأمد قابلاً للاستمرار أمام الدولار الأمريكي.  

 

في غضون ذلك، تساهم الحروب التجارية والتكنولوجية التي تغذّيها سياسات ترامب الاقتصادية في تسريع التوجّه شرقاً، وتدفع بدول مجلس التعاون الخليجي والاقتصادات المرتبطة بها إلى تكثيف جهودها للتحصّن من الانكشاف المفرط على الولايات المتّحدة 

 

نُشرت هذه المقالة في الأصل على Arabian Gulf Business Insight وهذه ترجمتها.
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ المؤلّف حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: السياسة الأمريكية الخارجية
البلد: الإمارات العربية المتحدة، الكويت، المملكة العربية السعودية، عُمان، قطر

المؤلف

رئيس شركة ناصر السعيدي وشركاه، وزير سابق للاقتصاد والتجارة والصناعة في لبنان