في ظلّ التطوّراتُ المفاجئة والدرامية في شمال سوريا، التي بدأت في ضواحي إدلب والقرى المحيطة بحلب وبلغت ذروتها بسقوط ثاني أكبر مدينة في سوريا في أيدي الثوّار، وجدت تركيا التي تُعتبر على نطاق واسع أقرب حليف إلى الفصائل المعارضة المسلّحة، نفسها تحت أضواء لم تسعَ إليها بشكل فعلي ولم تتجنّبها تماماً.
كانت السرعة والسهولة التي تحرّك بها المقاتلون بقيادة هيئة تحرير الشام، من معقلهم في إدلب للسيطرة على حلب ثمّ التقدّم نحو مدينة حماة في غضون ثلاثة أيام فقط، أمراً غير عادي. ولم تكن هذه التطوّرات مجرّد نجاح تكتيكي، بل وجّهت ضربة قوية للبنية التحتية الاقتصادية واللوجستية لنظام الرئيس السوري بشّار الأسد. ويُعتبر الطريق السريع M5، الذي أصبح الآن تحت سيطرة هيئة تحرير الشام، شرياناً حيوياً يربط حلب بدمشق وغيرها من المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري، ويشكّل خسارته انتكاسة كبيرة لاقتصاد الأسد الضعيف بالأساس.
تشكّل هذه التطوّرات نقطة تحوّل، فهي تعيد تشكيل ميزان القوى في شمال سوريا وتفتح مرحلة جديدة من الصراع الطويل الذي بدأ في العام 2011. ومع ذلك، تعقّد همينة هيئة تحرير الشام على تركيبة القوات المتمرّدة توقّعات الأطراف التي دعمت تقدّمها ضدّ نظام الأسد.
وتصنّف تركيا ومجلس الأمن التابع للأمم المتّحدة والولايات المتحدة وروسيا هيئة تحرير الشام، المنبثقة بالأساس عن تنظيم القاعدة، كمنظّمة إرهابية، التي حاولت إعادة تشكيل صورتها كجهة فاعلة يمكن للعالم العمل معها، لا سيما من خلال قطع روابطها مع الشبكات الجهادية العابرة للحدود، وتنفيذ إصلاحات داخلية، وتقييد أنشطة المسلّحين الأجانب في شمال غرب سوريا. ومع ذلك، تحوم أسئلة بشأن قدرتها على حكم المناطق التي سيطرت عليها وإدارتها من دون تنفير السكّان المحلّيين.
تتمتّع هيئة تحرير الشام مكانة فريدة كمجموعة غير متحالفة رسمياً مع أي طرف، ولكنها تشكّل مصدر قلق للجميع. وعلى الرغم من أنّها لا تدين بالولاء المباشر للدولة التركية، إلّا أنّها تعتمد عليها في تسهيل تدفّق الموارد والمساعدات الإنسانية إلى محافظة إدلب.
فضّلت أنقرة التزام الصمت بشأن مدى انخراطها في الهجوم، ولو أنّها قد تكون على دراية مُسبقة بسبب تورّط الجيش الوطني السوري الذي يعمل تحت رعايتها. ومن المحتمل أنّ أنقرة لم تتوقّع أن يهزم المتمردّون النظام، ولكن التقدّم العسكري المستمرّ للمجموعات المسلّحة قد خدم مصالحها.
يصعب على أنقرة تفسير هذه العلاقة لشعبها بسبب الصدمات المجتمعية والتاريخية التي خلّفتها الحركات الجهادية، سواء داخل تركيا أو على الصعيد العالمي. مع ذلك، إلى جانب تسهيلها تدفّقات المساعدات، يشمل الترتيب القائم المُخصّصات اللوجستية، وتبادل المعلومات الاستخباراتية عبر نقاط المراقبة التركية، والحفاظ على استقرار المنطقة. يمكن وصف علاقة تركيا وهيئة تحرير الشام بأنّها تقوم على مصالح متوافقة. تتجنّب تركيا التعامل المباشر مع هيئة تحرير الشام إنّما من دون عرقلة أهداف بعضهما البعض. وفي الوقت نفسه، تنسّق هيئة تحرير الشام بشكل مستقلّ مع الحكومات الأجنبية والبعثات الإنسانية التابعة للأمم المتّحدة.
مصالح أنقرة
تنظر حكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى التطوّرات الأخيرة التي غيّرت قواعد اللعبة من خلال العدسات الإقليمية والمحلّية. بالنسبة إلى تركيا، لا تشكّل سوريا مصدر قلق في السياسة الخارجية، لكنّها ترتبط بعمق بالأولويات الداخلية. ومن خلال دعم مجموعات المعارضة، تضغط أنقرة على الأسد وفي الوقت نفسه تعزّز أجندتها المحلّية.
على سبيل المثال، أصبح عدد اللاجئين السوريين الكبير في تركيا يشكّل قنبلة سياسية موقوتة يُضاف إليها تزايد المطالبات الشعبية بإعادتهم إلى بلادهم. بالتالي، تسعى أنقرة إلى إنشاء مناطق آمنة، تضمّ حلب الآن، نظراً لأنّ نحو 42 في المئة من السوريين المقيمين في تركيا ينحدرون من حلب. ولا يتعلّق هذا الجهد بتيسير العودة «الطوعية» للاجئين فحسب، بل يهدف أيضاً إلى معالجة السخط الشعبي المتزايد من وجودهم في تركيا.
وعلى نحو مماثل، يتركّز وجود تركيا وأنشطتها في شمال سوريا على مواجهة الطموحات الإقليمية الكردية، وهي قضية تتداخل مع التمرّد الكردي في تركيا. والواقع أنّ أنقرة تنظر إلى الأراضي السورية الشاسعة التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتّحدة وبقيادة الأكراد، كواجهة للاتحاد الديمقراطي السوري ووحدات حماية الشعب، الفروع السورية لحزب العمّال الكردستاني المسلّح التي تصرّ تركيا على هزيمتها.
صبر تركيا بدأ ينفد
يشير موقف أنقرة أيضاً إلى الإحباط الناتج عن جمود النظام السوري. لسنوات، دعت تركيا إلى حوار هادف مع النظام السوري لحلّ الصراع. ومع ذلك، تعتبر أنقرة مطالب الأسد، مثل الانسحاب الكامل للقوات التركية وإنهاء دعم المعارضة، غير واقعية. وعلى الرغم من التزام تركيا بهذه المطالب، فهي تعتبر أنّ وضع النظام الاقتصادي والعسكري هشّ، لا سيما بعد استنزاف حلفائه الحيويين إيران وروسيا وإضعافهما. ويبدو أنّ رفض الأسد التعامل مع تركيا بشكل جاد، على الرغم من مبادرات أنقرة المُتكرّرة، ينبع من مبالغة في تقدير قوّته.
تعدّ خسارة حلب ضربة قوية لإيران. لقد كرّست طهران جهداً كبيراً لبقاء الأسد في السلطة، إذ نشرت حزب الله في سوريا، وأعادت تشكيل التركيبة السكانية، وبنت ممرّاً برّياً يربط سوريا والعراق بلبنان. وسيشكّل قطع هذا الممرّ كارثة إستراتيجية لإيران ويزيد من عزلتها في المنطقة. وعلى عكس ما جرى في العام 2016، عندما تمكّنت إيران من حشد الميليشيات من العراق وأماكن أخرى لدعم النظام السوري، يبدو أنّ وضع طهران المتوتّر أصلاً يجعل من الصعب عليها تكرار هذا الرد اليوم.
سارع وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إلى أنقرة بعد يومين من سقوط حلب. وجاءت هذه الزيارة مباشرة بعد مشاورات في دمشق. وأكّد على أهمّية التعاون بين طهران وأنقرة لضمان الاستقرار والأمن في المنطقة، على الرغم من دعمهما لأطراف متعارضة. وفي أعقاب هذه المحادثات الدبلوماسية، اتّهم المسؤولون الإيرانيون تركيا بدعم «الإرهابيين»، وهو ما تعتبره أنقرة وغيرها أمراً مثيراً للسخرية. ومن المرجّح أنّ إيران طلبت من أنقرة، في اجتماعات مغلقة، أن تستخدم نفوذها على هيئة تحرير الشام لوقف تقدّمها في سوريا. ولكن لا يوجد سبب للاعتقاد بأنّ أنقرة ستستجيب لهذا الطلب، أو أنّها قادرة على التأثير في مثل هذه القرارات.
وتكشف عملية حلب أيضاً عن هشاشة النظام الإقليمي السائد. يواجه الاحتضان العربي الحذر للأسد، مدفوعاً برغبة في الاستقرار، تحدّيات جديدة. وقد تُعطِّل الإجراءات التركية جهود التطبيع، وتُجبر الدول العربية على إعادة تقييم مواقفها.
وفي الوقت نفسه، لم تلُم الدول الغربية – على الرغم من حذرها من صعود هيئة تحرير الشام ونفوذ تركيا – أنقرة علناً، لا بل تبدو راضية عن النتيجة في حلب. ومع ذلك، من السابق لأوانه اعتبار ما يحصل انتصاراً لتركيا. وفي حالات أخرى، أدّت قرارات السياسة الخارجية التركية الحازمة إلى ردود فعل غير متوقّعة، مثل تنفيذ سياسة الباب المفتوح للاجئين السوريين للدخول عبر حدودها في مراحل مُبكرة من الحرب الأهلية السورية. والجدير بالذكر أنّه في أعقاب السيطرة على حلب، حاولت هيئة تحرير الشام مناشدة المجتمع الدولي والتعبير عن استعدادها لنقل حكم حلب إلى هيئة انتقالية، وسحب المجموعات المسلّحة من المناطق المدنية لتسهيل الإدارة المدنية، فضلاً عن احترام التنوّع الطائفي. قد تتطوّر علاقة تركيا وهيئة تحرير الشام إذا اكتسبت المجموعة قبولاً أوسع داخل المجتمع الدولي.
وبالنظر إلى المستقبل، يتوقّف مسار الصراع على عوامل متعدّدة. ويظل دور روسيا بمثابة بطاقة جامحة مهمّة. ولكن هل ستتمسك موسكو بوجودها في سوريا، أم ستتنازل عن مساحة أكبر لتركيا وقوى المعارضة؟ ويتعيّن على إيران أيضاً أن تقرّر ما إذا كانت ستعطي الأولوية لسوريا أو ستركّز على مناطق أخرى مثل لبنان والعراق.
وفي النهاية، تجسّد السيطرة على حلب سمة مميّزة للصراع السوري، حيث التوازن الهشّ يجعل المكاسب غير مؤكّدة، وتتأثّر بتفاعلات غير متوقّعة بين القوى المحلّية والإقليمية والدولية. في الوقت الحالي، تتقدّم المعارضة ويتراجع الأسد، بينما يعيد الجميع حساباته. وإذا كان هدف تركيا تذكير المنطقة بنفوذها، فيمكن القول إنّ المهمّة قد أُنجِزت. لكن السؤال يبقى: إلى متى؟ بالنسبة إلى جميع الأطراف، سحدّد نتيجة هذا الهجوم الفصل التالي من الصراع السوري من دون أي ضمانات للاستقرار.
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ المؤلّفَين حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.