في 13 مايو، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عزمه رفع جميع العقوبات الأمريكية المفروضة على سوريا. جاء هذا الإعلان في خلال زيارته التاريخية إلى المملكة العربية السعودية، وشكّل بارقة أمل للشعب السوري الذي يكافح لإعادة بناء بلاده بعد حرب أهلية مدمّرة استمرت 14 عاماً. وفي 20 مايو، حذت دول الاتحاد الأوروبي حذوه، ورفعت ما تبقّى من عقوبات، بعدما ألغت في فبراير الماضي بعضاً منها عن قطاعات محدّدة مثل الطاقة والنقل.
جاء قرار ترامب تتويجاً لأشهر من الاستعدادات الدبلوماسية الحثيثة التي قادتها المملكة العربية السعودية وقطر وتركيا، إلى جانب الحكومة السورية الانتقالية الناشئة. ويعمل مسؤولو الإدارة الأمريكية حالياً على ترجمة وعد ترامب عبر إصدار إعفاءات من العقوبات في المرحلة الأولى. غير أنّ هذه الإعفاءات مشروطة بالتجديد كل 180 يوماً. وقد تؤدّي حالة عدم اليقين الناتجة عن مستقبل الوضع الاقتصادي إلى التخوف وتجنّب الشركات أو الدول الاستثمار، أو المبالغة في الامتثال تفادياً لانتهاك العقوبات عن غير قصد. ولن تتمكّن سوريا من إحراز تقدّم حقيقي على طريق التعافي الاقتصادي إلا من خلال رفع كامل لجميع العقوبات الدولية.
الثمن الباهظ للصراع
من الصعب تصوّر حجم الدمار والمعاناة التي خلّفتها الحرب الأهلية السورية. عشية اندلاع النزاع في العام 2011، كانت سوريا مصنّفة ضمن الشريحة الدنيا من الدول المتوسطة الدخل، ويبلغ عدد سكانها 23 مليون نسمة، فيما كان نصيب الفرد من الدخل يقارب 3.000 دولار. وفي العام 2009، بلغت نسبة الفقر 16.4 في المئة، فيما لم تتجاوز نسبة الفقر المدقع 2.8 في المئة. وقد عكس ذلك طبيعة الاقتصاد شبه الاشتراكي الخاضع لسيطرة النظام، الذي أبقى السكان في حالة هشاشة دائمة من دون أنّ يغرقهم في الفقر المدقع.
كان ثمن الصراع مروّعاً. فقد وثّق المرصد السوري لحقوق الإنسان مقتل أكثر من 650 ألف شخص منذ اندلاع الحرب في مارس 2011، من بينهم نحو 200 ألف مدني، ومن ضمنهم أكثر من 26 ألف طفل. ويقدّر البنك الدولي أنّ دخل الفرد تراجع إلى نحو ألف دولار بحلول العام 2022. كما قفزت معدلات الفقر إلى نحو 70 في المئة، فيما بات أكثر من شخص من كلّ أربعة أشخاص يعيش في فقر مدقع. أما متوسط الرواتب الحكومية، فبلغ قرابة 25 دولاراً شهرياً، أو أقل من دولار في اليوم، وهو مبلغ بالكاد يكفي لشراء الخبز. وقد فاقمت معدّلات التضخّم المرتفعة من حدّة تراجع الدخل، إلى جانب نقص المساكن والسلع الأساسية، وخفض الدعم على الطاقة والغذاء، وتدهور الخدمات العامة.
ومع ذلك، بلغ عدد العاملين في القطاع العام نحو 1.3 مليون موظف، ما رفع فاتورة الأجور إلى نحو 400 مليون دولار سنوياً. ولسدّ هذا العجز المالي، وتوسيع نفوذ المقرّبين من عائلة الأسد، انقضّ النظام على القطاع الخاص من خلال فرض ضرائب ورسوم مجحفة. كما تعرّض القطاع الخاص لضربة قاسية نتيجة الانهيار المالي في لبنان، الذي شكّل شرياناً مالياً حيوياً لكثير من الشركات السورية، ما دفع الكثير من الشركات إلى الإغلاق وزاد من معدّلات البطالة. أفضت هذه الديناميات إلى حلقة مفرغة، إذ استهدفت الدولة والمحسوبين عليها شرائح متناهية الصغر من القطاع الخاص، وانخرطوا في أنشطة غير مشروعة لتعويض العجز في الإيرادات، بما في ذلك إنتاج المخدّرات وتصديرها.
كما لحق ضرر هائل بالبنية التحتية المادية. وبحلول العام 2018، كان نحو مليون وحدة سكنية قد تضررت أو دُمّرت جراء القتال. وقُدّرت كلفة الدمار في البنية التحتية بنحو 118 مليار دولار بحلول العام 2020. وخرج نحو نصف منشآت التعليم والرعاية الصحية في البلاد من الخدمة، فيما هاجر أو نزح داخلياً أكثر من نصف سكان سوريا. إنّ عودة هؤلاء إلى ديارهم واستعادة حياتهم الطبيعية مرهون بتحسين الوضع الأمني، وإعادة بناء البنية التحتية، وتوفير الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء، ودعم استئناف النشاط الاقتصادي، وخصوصاً عبر مساعدة المزارعين على استعادة الدورة الزراعية.
الطريق الطويل نحو التعافي الاقتصادي
أمام الحكومة الانتقالية في سوريا طريق طويل وشاق. فقد ورثت دولة منهارة، بالكاد قادرة على تأدية وظائفها الرئيسة، ناهيك عن خوض عملية إعادة إعمار البلاد. ومنذ توليها السلطة، اتخذت الحكومة خطوات عدة لإحياء الاقتصاد السوري المحتضر، شملت إدارة النفقات العامة، وزيادة الإيرادات، وتخفيف القيود المفروضة على القطاع الخاص، ومكافحة الفساد والأنشطة غير المشروعة. ومع ذلك، لا تزال سوريا بحاجة ماسة إلى الدعم، سواء من عبر التمويل المباشر أو من خلال رفع القيود التي تفرضها العقوبات.
في فبراير الماضي، أعلنت الحكومة المؤقتة، التي تشكّلت بعد سقوط النظام، عن نيتها رفع رواتب موظّفي القطاع العام بنسبة 400 في المئة، ما من شأنه أنّ يرفع متوسط الأجور الشهرية إلى نحو 100 دولار. وفي حين يقل هذا الأجر عن نصف ما كان عليه قبل اندلاع الحرب، لكنه يتجاوز خط الفقر، وسيساعد موظفي القطاع العام على تأمين دخل ضروري، ما ينعكس بدوره على الدورة الاقتصادية من خلال الإنفاق. وقد كان هذا الرفع ضرورياً للحدّ من الفساد، فمن الصعب إلقاء اللوم على أب يتقاضى أقل من دولار في اليوم إن قَبِل رشوة لإطعام أطفاله.
وقد سعت الحكومة إلى ضبط الإنفاق من خلال تقليص عدد العاملين في القطاع العام بنحو 400 ألف موظف. وشمل ذلك صرف ما يُعرف بـ«العمّال الأشباح»، الذين يتقاضون رواتب من دون أداء أي مهام فعلية. كما اتخذت الحكومة خطوات نحو خصخصة الشركات المملوكة من الدولة، التي كان معظمها يتكبّد خسائر ويضمّ أعداداً مفرطة من الموظّفين. وشملت هذه الإجراءات أيضاً تسريح العاملين «المؤقتين» الذين لم تكن لديهم عقود دائمة، على الرغم من أن الكثير منهم كانوا يؤدون مهام ضرورية. وقد أثارت بعض هذه الإجراءات انتقادات واسعة، لكن الضرورات المالية فرضت نفسها. فخزينة الدولة فارغة، وكان من الصعب رفع الرواتب من دون خفض النفقات في مجالات أخرى.
وفي ما يتعلق بالتعافي الاقتصادي، تضع الحكومة الانتقالية التي عُيّنت في مارس الماضي على رأس أولوياتها إعادة ترسيخ الأمن وضمان توفير الكهرباء. كما تعمل على توسيع هامش مشاركة القطاع الخاص والمجتمع المدني. وهذا أمر أساسي، إذ لا يمكن للحكومة أن تؤمّن بمفردها جميع فرص العمل والخدمات الحيوية المطلوبة. وتتطلّب إعادة بناء الاقتصاد جهداً وطنياً تشارك فيه جميع القطاعات. ومع أن السوريين يتوقون إلى إعادة بناء حياتهم ومصادر رزقهم بأيديهم، إلا أنهم بحاجة إلى الدعم والإغاثة.
رفع العقوبات بالكامل ضرورة ملحّة
تتمثل الأولوية القصوى في رفع ما تبقى من عقوبات دولية مفروضة على سوريا. فمن غير المنطقي أن يُتوقّع من بلد خرج من حرب أهلية مدمّرة أن يعيد بناء نفسه في ظل عقوبات تُقيّد قدرته على النهوض، وتمنع شعبه من الإعمار، أو أصدقاءه من تقديم الدعم. وليس من العدل تحميل الشعب السوري تبعات جرائم نظام الأسد الاستبدادي والوحشي، كما لا يصحّ معاقبة الحكومة الانتقالية على افتراضات بشأن ما قد تفعله أو لا تفعله في المستقبل.
ومن أخطر الجوانب الخفية في منظومة العقوبات هو تأثيرها الرادع، الذي يدفع الدول والشركات إلى التردّد في التعامل، أو المبالغة في الامتثال تفادياً لمخاطر قانونية ناتجة عن خطوط حمراء مبهمة أو إعفاءات مؤقتة. وفي أعقاب إعلان ترامب عن رفع العقوبات، صرّح وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو قائلاً: «إذا أحرزنا تقدّماً كافياً، نرغب في إلغاء القانون، لأنك ستجد صعوبة في جذب مستثمرين إلى بلد قد تعاد فرض العقوبات عليه في خلال ستة أشهر».
كما يتيح رفع العقوبات للدول الصديقة تقديم العون اللازم. وبالفعل، وبالتوازي مع إعلان ترامب، ساهمت كل من المملكة العربية السعودية وقطر في تسوية المتأخرات المستحقّة على سوريا للبنك الدولي، والتي بلغت نحو 15.5 مليون دولار. وقد عرض البلدان تقديم دعم مالي إضافي لتسيير عمل الحكومة وجهود إعادة الإعمار، ولكن بعد حصولهما على الضوء الأخضر من الولايات المتّحدة. وعلى الرغم من أن الموافقة الأمريكية كانت متوقعة وموضع ترحيب، لا تزال العقوبات الأساسية قائمة. إن رفع هذه العقوبات بالكامل هو السبيل الوحيد لمنح الشعب السوري الحرية التي يحتاجها لإعادة بناء حياته.