يسير الناس حاملين أكياس الدقيق التي تسلموها بعد دخول شاحنات محملة بالمساعدات الإنسانية إلى شمال غزة في 27 يوليو/تموز 2025 قادمة من معبر زيكيم الحدودي. (وكالة الصحافة الفرنسية)

ركائز إسرائيل الأربعة لتجويع غزة جماعياً

تدّعي إسرائيل أّنّها تمنع المساعدات عن حركة حماس، لكنّها في الواقع تُهندس التجويع الجماعي في غزّة من خلال الحصار والعنف بالوكالة والانهيار المؤسّسي والخداع القاتل.

28 يوليو، 2025
محمد شحادة

مرّت أربعة أشهر منذ أن أنهت إسرائيل، من جانب واحد، اتفاق وقف إطلاق النار مع حركة حماس، وفرضت حصاراً خانقاً على قطاع غزّة، مانعةً دخول معظم المواد الغذائية والمياه النظيفة والأدوية والإمدادات الأساسية الأخرى. ما أسفر عن نتائج كارثية.

 

في يوم 19 يوليو وحده، سُجّلت وفاة 18 شخصاً بسبب الجوع، بينما قدّر برنامج الأغذية العالمي أنّ ثلث سكان غزّة يقضون أياماً عدّة من دون طعام، فيما تُبلِّغ المستشفيات عن توافد أعداد كبيرة من الفلسطينيين بعد وقوعهم في الشوارع نتيجة سوء التغذية الحادّ. أمّا الجماهير اليائسة الباحثة عن الطعام، فتُقصف وتُقنص وتُستهدف بالقذائف في مواقع توزيع المساعدات التي تديرها شركات خاصّة برعاية إسرائيلية، في مشاهد وصفتها وكالة الأمم المتّحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) بأنها «مصائد موت سادية».

 

تشنّ إسرائيل حرب تجويع تحت ذريعة، جرى دحضها مراراً، وهي منع وصول المساعدات إلى حماس، ولكن هذه الذريعة تعني أيضاً أنها تجوّع عمداً جنودها الأسرى لدى الحركة. ومع ذلك، من الواضح أنّ سياسة الحرمان التي تتبعها إسرائيل لا تتعلْق بحماس بقدر ما تخدم أهداف الإبادة الجماعية في غزة، عبر إستراتيجية رباعية تشمل منع دخول الإمدادات المتوفرة وتسهيل الجريمة المنظّمة وإشاعة الفوضى وانهيار القانون واستخدام توزيع المساعدات وسيلة لحصر السكان والسيطرة عليهم والتغطية على واقع التجويع.

 

 

العرقلة التعسفية للمساعدات

تقوم الركيزة الأولى في إستراتيجية إسرائيل لهندسة المجاعة في غزّة على منع دخول أكبر قدر ممكن من المساعدات إلى القطاع.

 

في 18 يوليو، أعلنت وكالة الأونروا، وهي واحدة من المنظّمات الكثيرة التي تقدّم المساعدات، أنّ لديها ما يكفي من الغذاء لإطعام كلّ شخص في غزّة لأكثر من ثلاثة أشهر، لكن تلك الإمدادات مكدّسة على الجانب المصري من الحدود بانتظار الحصول على إذن إسرائيلي لدخول القطاع.

 

في الوقت الحالي، لا يدخل إلى غزّة سوى 28 شاحنة إمدادات يومياً في المتوسط. وللمقارنة، في خلال فترة وقف إطلاق النار بين يناير ومارس، سمحت إسرائيل بدخول 600 شاحنة يومياً، ما يُظهر قدرتها على التعامل مع كمّيات تفوق بكثير ما تسمح به حالياً. وبالتالي، يُعدّ الامتناع عن ذلك قراراً متعمّداً لتحويل المساعدات الشحيحة إلى سلاح حرب.

 

تستخدم القوات الإسرائيلية آليّات متعدّدة لتقييد دخول المساعدات، من بينها فرض تعليمات تعسفية وغير معلنة ومتغيّرة باستمرار لما يُسمح بعبوره، ثمّ تفتيش كلّ شاحنة بدقّة، وإعادة قوافل كاملة إن وُجد فيها غرض محظور واحد. وقد شملت هذه الممنوعات خياماً بلون غير مرغوب فيه ومقلّمات أظافر وعكّازات وأطقم نظافة وفواكه تحتوي على بذور ومعدّات طبية وحتى حليب الأطفال.

 

وتبرز آلية أخرى وهي إلزام الشاحنات بتفريغ حمولتها عند المعابر الإسرائيلية، وإجبار الشاحنات القليلة المتبقية في قطاع غزّة، والتي يجب أنّ تحصل أولاً على تصاريح صعبة المنال، على السير في طرق وعرة ومدمّرة لجمع الحمولة ونقلها إلى داخل القطاع. وفي الواقع، تُشكّل البيروقراطية المُفتعلة ركيزة أساسية في هذه الإستراتيجية، من خلال التأخير الطويل في منح الشاحنات إذن العبور الآمن والمعالجة البطيئة للبضائع ومنع الشاحنات من نقل المساعدات إلى المستودعات ومواقع التوزيع، وصولاً إلى الإغلاقات التعسفية المتكررة للمعابر بالكامل.

 

فضلًاً عن ذلك، تطلق القوّات الإسرائيلية النار بانتظام على قوافل المساعدات، ما يُرهب السائقين ويمنعهم من أداء مهامهم. وقد قتلت إسرائيل ما لا يقل عن 305 من موظّفي الأمم المتّحدة في خلال عشرين شهراً، وهو أكبر عدد يُسجّل في تاريخ المنظّمة. وأخيراً، تقوم الحكومة والجيش الإسرائيلي أحياناً بإبلاغ متطرّفين إسرائيليين عن تحرّكات قوافل المساعدات، وتغضّ الطرف عن قيامهم بعرقلة هذه القوافل وتخريبها.

 

 

تقوية العصابات وتسهيل النهب

بعد كلّ العوائق الإسرائيلية، سرعان ما تواجه القلة القليلة من شاحنات المساعدات التي تنجح في دخول غزّة تكتيكاً آخر خبيثاً لمنع إيصال حمولتها إلى من يحتاجونها. ففي الركيزة الثانية من إستراتيجية إسرائيل، تُجبر القوّات الإسرائيلية السائقين على المرور عبر ما بات يُعرف بـ«وادي النهب»، حيث تعترض عصابات إجرامية طريق القوافل وتسرق إمداداتها. وتتحمّل هذه العصابات، التي سلّحتها إسرائيل وموّلتها ووفّرت لها الحماية، المسؤولية عن الغالبية العظمى من حوادث النهب في غزة. ففي حادثة وقعت في مايو الماضي، اعترض مجرمون منظّمون قافلة إماراتية ونهبوا 23 من أصل 24 شاحنة. وفي يوم واحد من نوفمبر الماضي، نهبت هذه العصابات 97 شاحنة من أصل 109، وكلّ ذلك تحت إشراف عسكري إسرائيلي مباشر.

 

لا تقتصر أزمة النهب المفتعلة على تقليص كمّيات المساعدات التي تصل إلى السكّان، بل تتيح لإسرائيل أيضاً تحميل الفلسطينيين المسؤولية عنها، وخصوصاً حماس. لكن في مايو الماضي، أقرّ الجيش الإسرائيلي داخلياً بأنه وثّق 110 حوادث نهب، لم تكن أيّ منها من تنفيذ حماس. وبعد شهر، اعترفت إسرائيل علناً بأنها دعمت دعماً مباشراً هذه الشبكات الإجرامية المرتبطة بتنظيم «داعش»، وعلى رأسها عصابة «أبو شُباب» سيئة السمعة.

 

علاوة على ذلك، كثيراً ما تقوم هذه العصابات بضرب السائقين أو قتلهم أو تشويههم أو احتجازهم كرهائن، بهدف ترهيب غيرهم وثنيهم عن محاولة الوصول إلى المعابر الإسرائيلية لجمع المساعدات، وهو ما يعزّز حملة التجويع. ثمّ تلقي إسرائيل باللوم على وكالات الأمم المتّحدة لفشلها في جمع المساعدات المتراكمة عند المعابر. في مايو الماضي، زعمت القوات الإسرائيلية أنها سمحت بعبور 760 شاحنة مساعدات في خلال 12 يوماً، لكن لم تجمع الشاحنات الآتية من غزّة سوى 238 منها، وبعد ذلك نُهِب نصفها. ما يعني أنّ تسع شاحنات فقط في اليوم وصلت إلى السكّان، أي أقل من 2 في المئة من الحد الأدنى اللازم للبقاء على قيد الحياة، والمقدّر بنحو 500 إلى 600 شاحنة يومياً.

 

 

تفكيك النظام العام والانهيار المجتمعي المُهندَس

حتى الشاحنات التي تنجو من القيود الإسرائيلية و«وادي النهب»، غالباً ما تُهاجم من عشرات الآلاف من الفلسطينيين الجائعين الذين يتشبثون بأي فرصة للحصول على فتات الطعام.

 

لكن هذا المشهد ليس عشوائياً أو عرضياً. تقوم الركيزة الثالثة في نهج إسرائيل على تفكيك النظام وخلق الفوضى المتعمّدة في غزّة. فقد استهدفت استهدافاً منهجياً أجهزة إنفاذ القانون وأطقم الدفاع المدني والموظّفين الحكوميين ولجان الطوارئ، ما أدّى إلى انهيار النظام المدني وانتشار النشاط الإجرامي. ولم تكتفِ العصابات المدعومة من إسرائيل بنهب المساعدات، بل هاجمت أيضاً المستشفيات والمؤسّسات والأسواق ومرافق حيوية أخرى لنشر الفوضى. وحتى في حال تمكّن شخص ما من الحصول على كيس دقيق، كثيراً ما يُوقَف في الشارع من أفراد العصابات ويُسلب ما معه.

 

وكلّما حاول أحدهم ملء هذا الفراغ التنظيمي، يكون هدفاً مباشراً للهجمات الإسرائيلية، إذ قصفت القوات الإسرائيلية مراراً متطوّعين كانوا يسعون إلى تأمين الشاحنات ومنع النهب وتنظيم عملية توزيع المساعدات. وفي حادثة بارزة في يونيو الماضي، تدخّلت بعض العشائر في غزّة غير المرتبطة بحماس لحماية قوافل المساعدات، فما كان من إسرائيل إلّا أن أوقفت إدخال المساعدات على الفور، واستهدفت عدداً من المتطوّعين.

 

 

غطاء إنساني

تتمثّل الركيزة الرابعة، وربّما الأكثر سوداوية، في إنشاء إسرائيل لما يُسمى بـ «مؤسّسة غزة الإنسانية»، وهي شركة ناشئة مؤلّفة من مقاولين خاصين ومرتزقة، تعمّدت من خلالها إزاحة جميع المنظّمات الإنسانية الأخرى العاملة في غزة. ومنذ بدء عملياتها في 26 مايو، اشتهرت مواقعها بمجازر يومية تُرتكب بحق طالبي المساعدة. كما تعرّضت المؤسسة لانتقادات واسعة بسبب فشلها في توفير الغذاء بالحد الأدنى، إذ لا توزّع سوى حمولة 20 شاحنة يومياً كحد أقصى، وتفتح أبوابها فتحاً عشوائياً لمدة لا تتجاوز عشر دقائق في اليوم.

 

الهدف غير المعلن من وراء مؤسّسة غزة الإنسانية هو انتزاع عملية التوزيع من أيدي العاملين المحترفين القادرين فعلاً على تلبية احتياجات السكّان الأساسية، وتسليمها لأطراف تابعة للجيش الإسرائيلي. وبهذا تُحوّل إسرائيل توزيع المساعدات والمجاعة إلى سلاح لتحقيق هدفها، وهو حصر من تبقّى من السكان في مناطق صغيرة متقلّصة تقع تحت السيطرة الإسرائيلية. ولهذا السبب، خفّضت المؤسّسة عدد مراكز التوزيع من 400 إلى أربعة فقط، ما يجعل الوصول إليها شبه مستحيل بالنسبة إلى معظم أهالي غزّة من دون النزوح من أماكن سكنهم.

 

وفي ظلّ الفوضى اليومية التي تشهدها هذه المواقع، حيث يتدافع مئات الآلاف من الفلسطينيين للوصول إلى الطعام، تستخدم قوات الأمن التابعة لمؤسّسة غزة الإنسانية والجيش الإسرائيلي الذخيرة الحيّة، والقنابل اليدوية وقذائف الدبابات، ما يضيف طبقة جديدة من الألم والمعاناة لحياة المدنيين الأبرياء الذين يجدون أنفسهم أمام خيارين قاتلين: الموت جوعاً أو الموت بالرصاص. والهدف، مرة أخرى، هو جعل الحياة في غزة لا تُحتمل، لدفع السكّان إلى «الخروج الطوعي» منها في أقرب فرصة، أو الموت قبل أنّ تُتاح لهم تلك الفرصة.

 

كما تؤدّي مؤسّسة غزة الإنسانية وظيفة دعائية زائفة للإيحاء بأنّ المساعدات لا تزال تُوزّع في غزة، من دون أن تصل فعلياً إلى السكان وصولاً منتظماً أو فعّالاً. إنّها خطة تهدف إلى منح إسرائيل غطاءً كافياً لتجنّب «الانهيار الكامل للشرعية الدولية لاستمرار الحرب»، وإبعاد المراقبين الدوليين الموثوقين من المنظمات الإنسانية التي كانت شاهدة عيان على الإبادة الجماعية من الميدان.

 

 

أداة ضغط

تستخدم إسرائيل سياسة التجويع القسري لتحقيق أهداف متعدّدة. وإلى جانب مساهمتها في تفكيك المجتمع الفلسطيني في غزة، تُعدّ هذه السياسة وسيلة للضغط على حركة حماس. وكما تستهدف إسرائيل المدنيين والبنية التحتية في حملاتها الجوّية للضغط على مجموعات مثل حماس وحزب الله، وفق ما يُعرف بـ«عقيدة الضاحية»، فإنها تحجب المساعدات الغذائية عن المدنيين لتحقيق الهدف نفسه. وفي يونيو الماضي، أفاد مسؤول عربي رفيع المستوى بسرية إنّ إسرائيل تستخدم هذه السياسة غير القانونية وغير الأخلاقية «كورقة ضغط في المفاوضات» مع حماس، عارضة السماح بدخول المساعدات في مقابل الإفراج عن الرهائن.

 

لذلك، ليس من قبيل الصدفة أن تختفي جميع العوائق التي صنعتها إسرائيل أمام دخول المساعدات في خلال فترة وقف إطلاق النار في يناير، حين وافقت حماس على إطلاق سراح أسرى إسرائيليين في مقابل إدخال المساعدات. حينها اختفت العصابات فجأة، وتوقّف النهب، ووصل الطعام إلى الناس وصولاً مباشراً ومنظّماً. ومع ذلك، حتى لو أفرجت حماس عن جميع الأسرى المتبقين، فقد تعهّد مسؤولون إسرائيليون بمواصلة حرب الإبادة، بما في ذلك من خلال سياسة التجويع.

 

وبالاستناد إلى هذه الركائز الأربعة، بنت إسرائيل منظومة مجاعة تقوم على الحصار والعنف بالوكالة والانهيار المؤسسي والخداع القاتل المقنّع بواجهة إنسانية. وهذه الركائز ليست مجرّد أعراض جانبية، بل مكوّنات أساسية في نظام مصمَّم لقهر سكان محاصَرين وإذلالهم، ودفعهم إلى الاستسلام أو الفرار أو الموت.

 

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: عدوان إسرائيل على غزة
البلد: فلسطين

المؤلف

زميل زائر في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية
محمد شحادة هو زميل زائر في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية. وهو باحث ومؤلّف ومدافع عن حقوق الإنسان من غزة. إذ يركّز عمله على التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان في غزة والضفة الغربية وعلى نطاق أوسع في منطقتي الشرق الأوسط وأوروبا، مع تركيز خاص على أوضاع المهاجرين واللاجئين والمدنيين في مناطق… Continue reading ركائز إسرائيل الأربعة لتجويع غزة جماعياً