عندما شنّت إسرائيل والولايات المتّحدة حملة قصف ضدّ البرنامج النووي الإيراني في يونيو الماضي، التزمت القوى الموالية لإيران التي أمضت سنوات في بناء نفوذها وترساناتها في العراق المجاور صمتاً لافتاً. وعلى الرغم من قرارها البقاء خارج ما سُمّي بـ«حرب الاثني عشر يوماً»، ما زالت المجموعات الموالية لإيران تتمتّع بنفوذ واسع في بغداد، وتتعايش في الوقت نفسه مع القواعد والقوّات الأمريكية.
لطالما أجبرت هذه الضغوط المتعارضة القادة العراقيين على السير بين الألغام. إذ يمثّل العراق، الذي يُنظر إليه غالباً باعتباره «الرئة التي تتنفس منها إيران»، منطقة نفوذ إستراتيجية وعقدة محورية في شبكة إيرانية من الوكلاء والحلفاء ممتدّة في المنطقة، وهي شبكة تراجعت قدراتها بشدة منذ 7 أكتوبر 2023. ومع ذلك، لا يزال الصراع بين إيران وإسرائيل بعيد عن الحسم، بل إنّه دخل مرحلة خطيرة غير مسبوقة قد تضع العراق في قلب عاصفة إقليمية.
يكمن جوهر الأزمة الحالية في العلاقة المعقّدة والمتشابكة بين العراق وإيران. إذ يستضيف العراق طيفاً واسعاً من الميليشيات المدعومة من طهران تحت مظلة الحشد الشعبي، بعضها متهم بتنفيذ هجمات على قواعد أمريكية وعلى إسرائيل. وتمثّل هذه الميليشيات ركائز أساسية في شبكة إيران الإقليمية، وقد حرّكتها طهران في الماضي لاستهداف المصالح الغربية وإسرائيل. وفي الوقت نفسه، تواصل الولايات المتّحدة الاحتفاظ بوجود عسكري في العراق، ما يجعل البلاد ساحة اشتعال محتملة إذا ما أقدمت تلك الميليشيات على استهداف الأمريكيين.
يمثّل الحشد الشعبي امتداداً للجمهورية الإسلامية داخل العراق، فهو قناة عسكرية وأيديولوجية تمكّن طهران من ممارسة الضغط العسكري على خصومها داخل العراق والمنطقة، فضلاً عن استخدام مؤسّسات الدولة العراقية للالتفاف على العقوبات الأمريكية. وعلى الرغم من أنّ هذه الفصائل مُعترف بها رسمياً من الناحية الشكلية، فإنّها تعمل خارج سلسلة القيادة الرسمية للقوّات المسلّحة العراقية، وتخضع مباشرة لإيران. ويضاف إلى ذلك سجلها الموثّق في مهاجمة القوّات الأمريكية.
منذ 7 أكتوبر 2023، تلقّت مكانة النظام الإيراني الإقليمية والداخلية ضربة قاسية، إذ سقط نظام حليفه الأسد في سوريا بيد المعارضة، وتعرّض حزب الله في لبنان لانتكاسة شديدة. وعلى الرغم من ارتباط الحشد الشعبي في العراق عاطفياً وإستراتيجياً بالانخراط في أيّ مواجهة تخوضها إيران ضدّ إسرائيل والولايات المتّحدة، يكشف ردّه المحدود نسبياً على التصعيد الأخير، ولا سيّما من جانب أكثر فصائله تشدداً وارتباطاً بإيران، أنّ هذه المجموعات لا ترغب في اختبار الزخم العسكري الإسرائيلي الحالي أو فضح نقاط ضعفها.
لا شكّ أنّ تورّطاً مماثلاً قد يكون كارثياً على العراق. تضع إدارة ترامب الحشد الشعبي نصب عينيها، ومثل إدارة بايدن، لا تتردّد في استهداف هذه الميليشيات. وقد فعلت ذلك مراراً، خصوصاً على طول الحدود مع سوريا. وبالمثل، لم تنفّذ إسرائيل حملة شاملة داخل العراق، ولو أنّها في الماضي قصفت أهدافاً داخل الأراضي العراقية. وفي حال اندلاع مواجهة جديدة، فقد تستجلب مشاركة الحشد الشعبي ردّاً أوسع من الولايات المتّحدة وإسرائيل، فضلاً عن تعميق سياسة ترامب المتجدّدة لـ«الضغط الأقصى» على إيران داخل العراق نفسه.
لقد أظهرت إدارة ترامب قدراً ضئيلاً من التسامح مع النفوذ الإيراني في العراق، كما ظهر في قرارها إنهاء الإعفاء الذي يتيح لبغداد استيراد الكهرباء من إيران، ما دفع العراق إلى انتقال طاقوي مؤلم وغير مهيّأ. كما اتهمت الإدارة بنك الرافدين المملوك للدولة العراقية بتمرير مدفوعات للحوثيين في اليمن، المصنّفين مجموعة إرهابية من قِبل الولايات المتّحدة، وفرضت عقوبات على عدد من المصارف العراقية المتورّطة في تمكين إيران من الالتفاف على العقوبات الأمريكية. وردّاً على ذلك، هدّدت بفرض عقوبات على الدولة العراقية ككلّ، وهو ما ستكون له عواقب مدمّرة على العراق وتداعيات وجودية على الدولة نفسها.
عودة مُحتملة للحشد الشعبي؟
ولهذا الضغط أيضاً تداعيات سياسية، خصوصاً على رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، الذي يواجه تحدّي إدارة العلاقات المتدهورة مع الولايات المتّحدة، في الوقت الذي يسعى فيه للتصدّي لمنافسيه في الداخل وإرضاء الكتل النافذة الموالية لإيران. وفي هذه الوضعية الحرجة، سيجد السوداني صعوبة في التنصّل من المسؤولية إذا ما أقدم الحشد الشعبي على تقويض المصالح الأمريكية أو استهداف عناصرها.
لقد وُجّهت إلى السوداني اتهامات إمّا بتسهيل صعود المجموعات الموالية لإيران أو التغاضي عن توسّع قبضتها على العراق ومؤسّساته منذ توليه منصبه. ووفق تقارير حديثة، فقد ازدهرت شبكات التهريب، خصوصاً تلك التي تعمل تحت حماية الحشد الشعبي، منذ توليه الحكم، كما لم يَغِب عن نظر واشنطن أنّ السوداني، وبضغط من إيران، عاقب حكومة إقليم كردستان بسبب اصطفافها مع الولايات المتحدة من خلال رفضه السماح بتصدير النفط بشكل مستقل، وفي الوقت نفسه لتمكين الحشد الشعبي اقتصادياً. كذلك تجاهل السوداني التصاعد الكبير في هجمات مسيّرات الحشد الشعبي على إقليم كردستان منذ دخول وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل حيّز التنفيذ في 24 يونيو الماضي. وفي أفضل الأحوال، يُتهم السوداني بالرضوخ لهذه الحملة ولمحاولات الحشد الشعبي إعادة فرض نفسه. وفي أسوئها، يُعدّ السوداني متواطئاً مباشرة.
وتشير تقارير إلى أنّ مسؤولين أمريكيين ضغطوا على بغداد لاستئناف تصدير النفط الكردي عبر خط أنابيب يمرّ بتركيا، في إطار جهودهم لإضعاف اقتصاد إيران الموازي. لكن استمرار الحكومة الاتحادية في التسامح مع أنشطة السوق السوداء يقوّض تلك الأهداف ويقوّي وكلاء طهران. وعلى الصعيد الداخلي، تبدو المخاطر أكبر، خصوصاً في ظلّ الغموض المحيط بمستقبل الحشد الشعبي. فقد كشف الجدل الدائر بشأن احتمال الإطاحة برئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض عن انقسامات عميقة داخل الطبقة السياسية الشيعية الحاكمة. وتسعى بعض الفصائل إلى دمج الحشد الشعبي رسمياً في مؤسّسات الدولة، بما يقلّص قبضة طهران. فيما ترى فصائل أخرى، وخصوصاً المقرّبة من إيران، في هذه الخطوات تهديداً لسلطتها.
وقد يشعل أيّ خطأ في إدارة هذه التوتّرات صراعاً شيعياً داخلياً، وهو ما قد يضعف نفوذ إيران أكثر، ويتيح لواشنطن فرصة لاستعادة حضورها في العراق والاستفادة من تراجع طهران الإقليمي الأوسع. كما يمكن استثمار حملة الضغط التي تقودها إدارة ترامب لربط المساعدات والتعاون في مجال الطاقة والاعتراف الدولي بخطوات ملموسة من بغداد للحدّ من استقلالية الحشد الشعبي، ودمج ميليشياته في صفوف القوّات المسلّحة النظامية، وملاحقة شبكاته وأنشطته غير المشروعة التي تستخدمها إيران للالتفاف على العقوبات.
لكن إذا بدا السوداني ميّالاً أكثر من اللازم نحو واشنطن، فإنّه يخاطر بخسارة دعم المجموعات الشيعية النافذة. وإذا مال أكثر باتجاه طهران، فإنّه يعرّض العراق لإجراءات أمريكية عقابية قد تشمل ضربات عسكرية. إنّ احتواء الحشد الشعبي ليس مهمة سهلة، لكن رئيس الوزراء العراقي مضطر لتقديم دلائل عملية على أنّه لا يقوّي هذه المؤسّسة، كما فعل رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي الذي حظي بإشادة في واشنطن لتحدّيه الميليشيات. وصحيح أنّه لم يُنهِ المشكلة، لكنّه ضيّق مساحة عمل الحشد الشعبي وأضعف قدرته على التمدّد.
يقف العراق اليوم عند مفترق طرق. وعليه، فإنّ مواصلة استرضاء الحشد الشعبي تعني ربط مستقبل العراق بمصير الجمهورية الإسلامية في إيران. بينما يفتح التقارب مع الولايات المتّحدة آفاقاً للنمو الاقتصادي، والاندماج الإقليمي، واكتساب الشرعية الدولية. أمّا إيران، فهي دولة معزولة تسير في مسار انحداري، وقد أبرزت الحرب الأخيرة بوضوح عجزها عن الحصول على دعم من روسيا أو الصين، على الرغم من محاولاتها المتكررة لبناء شراكات إستراتيجية معهما ومع دول الجنوب العالمي. إنّ المستقبل الذي تعرضه إيران على العراق يهدّد بإعادته إلى تسعينات القرن الماضي، حين أنهكته العقوبات الغربية، وعانى آثار الحروب، وذاق الحرمان الواسع.