نحن نعيش في خضم حرب باردة ثانية. ويتكشّف عالمٌ مُتعدّد الأقطاب تتبنّى فيه الحكومات سياسات تؤدّي إلى زيادة التشرذم الاقتصادي والمالي. وتتعرّض التجارة والاستثمار الأجنبي المباشر والتدفّقات المالية باضطراد لقيود تنظيمية وقانونية.
لقد تضاعفت القيود التجارية العالمية التي تُفرض سنوياً ثلاث مرّات تقريباً منذ فترة ما قبل الجائحة، لتصل إلى نحو 3,000 قيد في العام الماضي، وفقاً لصندوق النقد الدولي.
والنتيجة هي إعادة هيكلة شبكات سلاسل التوريد العالمية. إنّ القرارات السياسية التي تقوم على علاقات التوريد والتصنيع والتبادل التجاري بين الدول الحليفة، أو نقل الشركات إلى دول قريبة، أو توريد الخدمات إلى دول أخرى، تعني ضمناً زيادة الانقسام الجيوسياسي وتراجع العولمة.
وبينما تباطأت سرعة العولمة بعد الأزمة المالية في العام 2008، شكّلت سياسة «فك الارتباط مع الصين» التي انتهجتها إدارة ترامب الدافع الرئيسي لتراجعها. أعيدت تسميتها لاحقاً بـ«إزالة مخاطر الصين»، ووُصفت في واشنطن بأنّها سياسة تهدف إلى منع صعود بكين كقوة تكنولوجية عالمية.
توسّعت هذه الحرب التكنولوجية التي بدأت مع فرض قيود على الوصول إلى الرقائق عالية الأداء. والآن فُرضت حواجز على التجارة والاستثمار الأجنبي المباشر والتدفقات المالية.
لقد وسّعت الحرب الروسية الأوكرانية والصراع في غزة والآثار غير المباشرة المترتّبة عنهما التشرذم الجغرافي الاقتصادي السياسي، ما أدّى إلى اندلاع حرب باردة ثانية.
كتلتان، لكن الحلفاء لا يتفقون دائماً
تبرز كتلتان رئيسيتان: الولايات المتحدة وحلفاؤها من جهة، والصين وروسيا وحلفاؤهما من جهة أخرى. وتندرج البلدان الأخرى ضمن مجموعة متعدّدة الأوجه والمصالح.
وحتى داخل الكتلتين، يزداد التشرذم السياسي والتباين في المصالح، وخصوصاً بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وتُثمر المواجهة الجيواستراتيجية زيادة في الإنفاق العسكري على حساب التنمية الاقتصادية والاستثمار.
وقد تؤدّي الأخطاء الإستراتيجية وسوء التقدير والتطورات إلى تسخين الحرب الباردة.
تُهيمن سرديات الأمن القومي بشكل متزايد على قرارات السياسة الاقتصادية. وتُستخدَم التجارة كسلاح، فيما يتأثّر الاستثمار (الوافد والخارج) والتمويل وأنظمة الدفع. تنطوي مصالح الأمن القومي على إعادة هندسة وإعادة تصميم سلاسل توريد الغذاء والطاقة والتكنولوجيا نحو المزيد من الاعتماد على الذات.
وقد أدّى منطق الأمن القومي أيضاً إلى استخدام الدولار الأمريكي كسلاح، حيث فُرضت قيود على استخدامه في المدفوعات الدولية، وتجميد الأصول الأجنبية «غير الصديقة» أو «العدوة».
وهذا يهدّد المدفوعات الدولية القائمة على الدولار والبنية المالية التي بنيت على مدى العقود الماضية بالتحرّر المالي العالمي.
ويؤدّي المنطق نفسه إلى استخدام الوصول إلى التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي ونشرهما كسلاح، ما يوسّع الفجوة التكنولوجية العالمية ويقلّل الإنتاجية والنمو العام.
وبحسب الصندوق النقد الدولي، قد تتسبّب الحرب الباردة الجديدة بخسارة هائلة بنسبة 7 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي العالمي، نتيجة تراجع كفاءة سلاسل التوريد العالمية، وسياسات الاكتفاء الذاتي المُنغلقة التي تتخفّى في شكل إعادة توطين الشركات وفرض قيود على الوصول إلى الموارد التكنولوجية والحيوية مثل الأتربة النادرة.
دول مجلس التعاون الخليجي كـ «قوى وسطى» ناشئة
بالنسبة إلى دول مجلس التعاون الخليجي، ينطوي هذا السيناريو المشؤوم على جانب إيجابي. فهو يوفّر فرصة جيواستراتيجية، تسمح لها بأن تبرز كقوى وسطى بين الكتلتين العالميتين.
لقد بنت دول مجلس التعاون الخليجي قوّتها الناعمة من خلال تنظيم واستضافة فعاليات دولية وانتهاج الوساطة الدبلوماسية بنجاح. وخطوتها التالية هي بناء قوة اقتصادية ومالية.
ثلاثة عوامل إستراتيجية تشكّل الركائز الأساسية التي ستمكّن الدول الخليجية من الاستفادة من هذا التشرذم.
يتمثّل العامل الأول في الموقع الجغرافي لدول مجلس التعاون الخليجي التي تقع بين أفريقيا وآسيا، بالإضافة إلى تركيبتها السكّانية الواعدة.
ثانياً، تتميّز دول مجلس التعاون الخليجي بكونها قوى قديمة وجديدة في مجال الطاقة.
أمّا العامل الثالث، فيتمثّل في أنّ التنويع الاقتصادي لدول مجلس التعاون الخليجي، إلى جانب الاستثمارات في تسهيل التجارة والخدمات اللوجستية والنقل والبنية التحتية، يعني أنّ الدول الستة مندمجة في سلاسل توريد عالمية.
تحتاج دول مجلس التعاون الخليجي إلى تطوير أدوات اقتصادية ومالية وتعزيزها لتمكّنها من أن تصبح قوى وسطى فعّالة. والأولوية هي لتعجيل تكاملها الاقتصادي والمالي، بدءاً بالبنية التحتية الأساسية من أجل تحقيق وفورات في الحجم وزيادة الكفاءة.
يشكّل التكامل الاقتصادي والمالي لدول مجلس التعاون الخليجي ركيزةً أساسية لإصلاح السوق المشتركة وتطبيقها، ما يسمح لها بالتفاوض ككتلة اقتصادية متمكّنة.
وبالفعل، تشارك دول مجلس التعاون الخليجي في كتل دولية، على غرار مجموعة البريكس+ والممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، بالإضافة إلى عدد من الصفقات التجارية بما فيها اتفاق محتمل مع الصين في العام 2024 واتّفاقيات شراكة اقتصادية شاملة متعدّدة.
وشدّد مؤتمر الأطراف 28 على أنّ تغيّر المناخ سيطرح تحدّيات جيواستراتيجية في العقود المقبلة. وتمتلك دول مجلس التعاون الخليجي التقنيات والموارد المالية اللازمة للقيام باستثمارات إقليمية وعالمية في مجال التكيّف مع المناخ، وبناء البنية التحتية وتحديثها لجعلها قادرة على التكيّف مع تغير المناخ.
تدعم هذه الأدوات سياسات «العولمة الإقليمية» المتطوّرة لدول مجلس التعاون الخليجي، والتي ستؤدّي إلى التكامل الاقتصادي المتنامي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والدول الأفريقية. ومن شأن هذه العولمة الإقليمية أن تقلّل من مخاطر الحرب الباردة الجديدة.