يشتدّ التوتّر في البحر الأحمر. في الأسابيع الأخيرة، كثّفت الولايات المتّحدة جهودها لكبح الهجمات التي يشنّها الحوثيون لتعطيل الشحن البحري الذي يُعتقَد أنّه مُرتبط بإسرائيل، انتقاماً منها على تدمير قطاع غزّة شبه الكامل. ورداً على ذلك، حشدت الولايات المتّحدة تحالف “حارس الازدهار” المؤلّف من قوة حماية بحرية متعدّدة الجنسيات لمهاجمة أهداف حوثيّة، بما فيها داخل اليمن. ممّا لا شكّ فيه أنّ حرية الملاحة في ممرّ مائي تجاري حيوي مثل البحر الأحمر تستحقّ الاهتمام، إلّا أنّ الردّ الذي قادته الولايات المتّحدة أدّى إلى تفاقم الأمور وبيَّن دوافعها غير المعلنة.
ضرورة معالجة أزمة البحر الأحمر و حماية الشحن البحري
لا جدال حول ضرورة معالجة أزمة البحر الأحمر، فالحوادث الأمنية في الممرّ البحري قد تؤثّر بشكل خطير في نقل السلع بين اقتصادات العالم الكبرى، ومن ضمنها الدول المُصدِّرة للنفط في مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي والولايات المتّحدة والصين. ووفق الإحصائيات، أكثر من 20 ألف سفينة تمرّ عبر البحر الأحمر سنوياً، بما يعادل 14 في المئة من مجمل حجم الشحن العالمي. من هنا، تشكّل هذه الأزمة تحدّياً خطيراً للأمن البحري الدولي. وبينما يزعم الحوثيون استهداف السفن المُرتبطة بإسرائيل فحسب – ومؤخراً أضيفت السفن الأمريكية والبريطانية رداً على هجمات التحالف– إلّا أنّ تأثيرها واسع، وقد ظهر بتعليق الشركات التجارية غير المرتبطة بهذه البلدان الملاحة عبر البحر الأحمر.
إنّ اهتمام الولايات المتّحدة بحرّية الملاحة ليس بالأمر المفاجىءً، إذ وضعتها على رأس أولوياتها في إستراتيجيتها العالمية لسنوات عديدة. لكن الموقف الأمريكي الحالي من عمليات الحوثيين في البحر الأحمر ليس مُقنعاً. فهذه الأزمة هي بطبيعتها امتداد للفظائع التي تُرتكب في غزة. والحل المناسب لهذه المعضلة هو العمل على تحقيق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، أو على الأقل بذل الجهود لتهدئة التوتّرات. وهذا ليس هدفاً صعب المنال.
فعندما تأخذ إدارة بايدن خطوات توسّع أزمة البحر الأحمر وتطيلها في الوقت الذي تتجاهل فيه المأساة في فلسطين، يصبح من المنطقي القول إنّ دوافعها تتجاوز الأمن البحري.
دافع الولايات المتحدة الأول: تخفيف الضغوط الدولية
يتمثّل الدافع الأول، على الأرجح، بتغيير اتّجاه الضغوط الدولية والمحلّية المُتصاعدة إزاء تعامل بايدن مع القضية الفلسطينية. وعلى الرغم من جهد الولايات المتّحدة الحثيث للدفاع عن خطابها ودعمها غير الإنساني لعمليّات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، تعجز عن التوفيق بين هذا الدعم ومطالباتها القديمة بحماية حقوق الإنسان. بعبارة أخرى، يظهر دعم بايدن غير المشروط للأعمال العسكرية الإسرائيلية نفاق الولايات المتّحدة في ما يتعلّق بقضايا حقوق الإنسان.
في خلال الأشهر القليلة الماضية، وجدت الولايات المتّحدة نفسها معزولة بالكامل في الأمم المتّحدة والمؤسّسات الدولية بسبب سياستها تجاه إسرائيل وفلسطين. وفي حين تتظاهر إسرائيل بعدم انزعاجها من هذه الانتقادات، لا تستطيع الولايات المتّحدة تحمّل التصرّف بالمثل، نظراً لسعيها للحفاظ على الدور الذي نصّبته لنفسها في القيادة العالمية والإقليمية. في الواقع، تشير الزيارات الأربعة التي قام بها وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى الشرق الأوسط منذ 7 أكتوبر الماضي، إلى أنّ الولايات المتّحدة حسّاسة تجاه ضغوط المجتمع الدولي.
إنّ خلق السرديّات وصياغة أجندات جديدة هو تكتيك شائع تستخدمه الجهات الدولية الرئيسة لدفع إستراتيجياتها إلى الأمام. ومن الواضح أنّ الولايات المتّحدة تستخدم أزمة البحر الأحمر كوسيلة للهروب من الضغوط العالمية الناتجة عن موقفها من حرب غزة.
دافع الولايات المتحدة الثاني: إعادة حشد حلفائها الأوروبيين
أمّا دافع واشنطن الثاني، فيتمثّل بإعادة حشد حلفائها ضمن سياق الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وعلى الرغم من جهودها الدبلوماسية المكثّفة، شهدت الأشهر الأخيرة تزايداً ملحوظاً في الانقسامات بين الولايات المتّحدة وحلفائها الأوروبيين من جهة والعرب من جهة أخرى. إذ تشعر الدول العربية خصوصاً، ومن ضمنها مصر والأردن ودول مجلس التعاون الخليجي، باستياء كبير من سياسة الولايات المتّحدة ودعمها غير مشروط للأعمال الوحشية الإسرائيلية في قطاع غزّة. والواقع أنّ الحملة الإسرائيلية لن تخلق أزمات لاجئين في الدول العربية المجاورة فحسب، بل قد تؤدّي إلى إثارة اضطرابات اجتماعية نتيجة إقرار غالبية الجماهير العربية بمشروعية قضية الفلسطينيين.
حتى أوروبا لم تكن مُحصّنة ضدّ الانقسام، حيث برزت اختلافات كبيرة بين سياسات ألمانيا والمملكة المتّحدة وسياسات إسبانيا وبلجيكا، وأيضاً بين الحكومات الداعمة لإسرائيل وشريحة كبيرة من مواطنيها الداعمين للفلسطينيين.
على أية حال، من شأن خلق انقسامات عميقة بين الولايات المتّحدة وشركائها حيال غزة، أن يكون له انعكاسات سلبية على هذه العلاقات على نطاق أوسع. ولذلك، كانت واشنطن بحاجة إلى قضية توحّدها مع حلفائها، فبرزت أزمة البحر الأحمر كخيار قابل للتطبيق. مع ذلك، فشلت محاولات تشكيل تحالف، فلم ينضمّ إليه سوى عدد قليل من الدول، ومن ضمنها دولة عربية واحدة هي دولة البحرين الصغيرة، على الرغم من التأثير الكبير الذي خلّفته الأزمة في الكثير من اقتصادات تلك البلدان.
دافع الولايات المتحدة الثالث: تعزيز سيطرتها على الممرّات البحرية
ثالثاً، تندفع سياسة الولايات المتّحدة في البحر الأحمر بنيّتها تعزيز سيطرتها على الممرّات البحرية، التي تعدّ أولوية قديمة في إستراتيجيتها في الشرق الأوسط. تنصّ الوثيقة الأجد لإستراتيجية الأمن القومي الأمريكي، التي نُشرت في أكتوبر 2022، على أنّ «الولايات المتّحدة لن تسمح للقوى الأجنبية أو الإقليمية بتعريض حرّية الملاحة عبر الممرّات المائية في الشرق الأوسط للخطر، بما في ذلك مضيقَيْ هرمز وباب المندب»، كإشارة إلى الهيمنة البحرية الأمريكية في المنطقة.
تأتي المنافسة الإستراتيجية مع الصين على رأس الأولويات في إستراتيجية الولايات المتّحدة العالمية، على الرغم من محاولات الصين عدم تعريف علاقاتها مع الولايات المتّحدة في إطار «المنافسة». وفي هذا السياق، تعتبر الولايات المتّحدة السيطرة على البحر الأحمر هدفاً إستراتيجياً لأنه الممرّ البحري الرئيس لنقل المنتجات الصينية إلى أوروبا وشمال أفريقيا. والجدير بالذكر أنّ الولايات المتّحدة حاولت إقناع الدول الأوروبية بفكّ الارتباط وإزالة المخاطر عن علاقاتها الاقتصادية مع الصين. لكن بسيطرتها على البحر الأحمر، تستطيع الولايات المتّحدة إضعاف التجارة بين الصين والدول الأوروبية.
وعلى الرغم من أنّ الولايات المتّحدة لا تزال تتمتّع بالوجود العسكري الأكبر في المنطقة، وتتولّى قيادة القوّات البحرية المشتركة، وهي شراكة ضخمة متعدّدة الجنسيات مقرّها في البحرين، يبدو أنّها لم تطمئن يوماً حيال سيطرتها على هذه المياه، ولذلك يمكن تفسير تضخيم أزمة البحر الأحمر بأنّ الولايات المتحدة تستغلّ الفرصة عمداً من أجل تعزيز سيطرتها على ممرّ بحري مهمّ.
الولايات المتحدة تسعى لإضعاف التجارة بين الصين والدول الأوروبية
يمكن للمرء أن يقول إنّ الولايات المتّحدة تتعمّد تخريب الملاحة البحرية من أجل تقويض التجارة بين الصين وشركائها في دول مجلس التعاون الخليجي وأوروبا. وعلى الرغم من أنّ الأعمال العسكرية في البحر الأحمر واليمن قد تفاقم الوضع الأمني، تواصل الولايات المتّحدة تبنّي الأعمال العسكرية باعتبارها المسار الأفضل. لقد أدّى تدهور الوضع الأمني والآثار الناجمة عنه إلى اضطراب أجواء التجارة بين جميع الاقتصادات الكبرى.
باختصار، المشكلة الأمنية في البحر الأحمر سهلة المعالجة. صحيح أنّ الحوثيين يسبِّبون المشاكل، لكن أهدافهم مبنيّة على أساس منطقي. وللأسف لم تختر الولايات المتّحدة طريقة منطقية لحلّ المشكلة، وإنّما طريقاً يزيد الأمور سوءاً، وهو ما يُفسَّر ربّما بتجاوز دوافعها المشكلة المطروحة.