بعد مرور عقدَين على الجرائم الجماعية التي لم تتحقّق العدالة بشأنها يوماً، تتأرجح عاصمةُ شمال دارفور على حافة الهاوية مجدّداً. الفاشر هي آخر عاصمة بين الولايات الخمسة في إقليم دارفور الشاسع التي لم تسقط بين أيدي قوات الدعم السريع شبه العسكرية في خلال الحرب التي يشهدها السودان. ونظراً لأنّ المدينة عرضةً للمجاعة والهجمات ومحاطةً بقوات الدعم السريع وفيها نحو نصف مليون نازح فرّوا من العنف في أماكن أخرى من دارفور ولم يكن لديهم أي مكان يلجأون إليه، فهي ترمز إلى حرب الاستنزاف في السودان وإلى فشل المجتمع الدولي في حلّها أو التخفيف من حدّتها.
كانت الكارثة تلوح في أفق الفاشر منذ أشهر. في الواقع، تمثّل المدينة جائزة كبرى بالنسبة إلى الطرفين الرئيسيين في حرب السودان المستمرّة منذ عام. فإذا استعادت القوات المسلّحة السودانية السيطرة على المدينة ومُحيطها، ستحصل على منصة لإعادة الاستيلاء على محافظة غرب دارفور الحدودية التي تشكّل نقطة دخول حيوية لتسليم الأسلحة إلى خصمها قوات الدعم السريع – لا سيما من الإمارات العربية المتحدة. وإذا عزّزت قوات الدعم السريع مكاسبها حول الفاشر من خلال الاستيلاء على المدينة نفسها، فستتمكّن من السيطرة على إقليم دارفور برمّته وعلى حدود السودان الغربية، بالإضافة إلى ضمان خطوط إمداد الوقود من القوى التي تسيطر على شرق ليبيا.
لقد شهدت المدينة سلسلةً من الهجمات شنّتها قوات الدعم السريع، بما فيها تدمير مناطق سكنية شاسعة ومناوشات حادّة بين الطرفين وحلفائهما المسلّحين وقصف جوي من قبل القوات المسلّحة السودانية. لكن حتى مؤخراً، لم يصلوا إلى حدّ معركة شاملة للاستيلاء على الفاشر، وذلك لأسباب عسكرية وسياسية. في الواقع، كان الجيش يُسلّح باستمرار جنوده والمجموعات المسلّحة المتحالفة معه من خلال الشحنات المهرّبة إلى المدينة أو الإنزال الجوي. وكانت قوات الدعم السريع تُعيد تدريجياً نشر القوات والمدفعية من جنوب دارفور وغربه إلى المناطق المحيطة بالفاشر، استعداداً لإجراء استعراضٍ كبير.
بعدما حقّقت القوات المسلّحة السودانية انتصارات متعدّدة في الخرطوم في فبراير، أدركت قوات الدعم السريع أنّ القوات المسلّحة كانت تحاول استفزازها من خلال حلفاء في مدينة الفاشر وحولها – لا سيما رئيس حركة جيش تحرير السودان مني مناوي- لشن هجوم على الفاشر. فمن شأن قتالٍ هناك أن يُبعد جنود قوات الدعم السريع عن الخرطوم وولاية الجزيرة المركزية، حيث من المرجّح أن تطلق القوات المسلّحة السودانية حملة متزامنة لاستعادة المنطقة. دفع هذا الإدراك، إلى جانب مقاومةٍ شعبية فعّالة داخل المدينة، بقوات الدعم السريع إلى تأجيل هجومها على الفاشر على الرغم من النجاحات على ساحة المعركة في الولايات الأربعة الأخرى في إقليم دارفور قبيل نهاية العام 2023. وفي تزامنٍ متوقّع مع مناوشات أبريل 2024، شنّت القوات المسلّحة السودانية هجوماً على ولاية الجزيرة.
في الفترة التي سبقت التصعيد الحالي في القتال، بدأت القوات المسلّحة السودانية بتشكيل ائتلافٍ يضمّ الرفيق السابق في قوات الدعم السريع موسى هلال، قادرٍ على خوض معركة أشرس بكثير في المدينة. لهذا الغرض، اعتمدت القوات المسلّحة السودانية على المجموعات المسلّحة التي دعمت الانقلاب العسكري في العام 2021 ضدّ الحكومة الانتقالية بقيادةٍ مدنية آنذاك وأصبحت منذ ذلك الحين جزءاً لا يتجزّأ من شبكة المحسوبية.
وعندما شعرت قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها بأنّ هذا الائتلاف قد يُشكّل تهديداً كبيراً، سارعت إلى تحقيق هدفها الحازم القاضي بالاستيلاء على الفاشر بالكامل من خلال تعبئة المجموعات العربية من جميع أنحاء دارفور وأجزاء من تشاد عبر اللجوء إلى سردية “نحن ضدهم” القاتمة إنّما الفعّالة. وقد حدّدت توقيت ذلك في موازاة محادثات وقف إطلاق النار المدعومة من الولايات المتحدة والسعودية، والتي كانت على وشك أن تُستأنَف في جدّة – وهي عملية استخدمتها قوات الدعم السريع مراراً وتكراراً لتغطية فظائعها، وهو أحد الأسباب المتعددة التي لا بدّ من إعادة النظر فيها كلياً في صيغة وقف إطلاق النار. بالتالي، أدّى التأخير في المحادثات بشكلٍ جزئي حتى الآن إلى تأجيل الهجوم الشامل المتوقّع.
لكن فيما أراد كبار القادة في قوات الدعم السريع، على غرار نائب قائد القوات عبد الرحيم دقلو، استعراض القوة بعد أن عاقبتهم الحكومة الأمريكية، كان حلفاؤهم المسلّحون على الأرض مدفوعين أكثر بالرغبة في تصفية الحسابات مع المجموعات غير العربية التي اعتبروا أنّها استفادت من اتفاقيات السلام السابقة. علاوة على ذلك، أظهر تقرير صادر مؤخراً عن هيومن رايتس ووتش أنّ الأرض – أو بشكلٍ أكثر تحديداً الموارد الموجودة تحتها – لطالما كانت أساس الفظائع في جميع أنحاء السودان، لا سيما في دارفور. وكانت هذه هي الحال عندما ارتكبت القوات المسلّحة السودانية وقوات الدعم السريع تطهيراً عرقياً واتُّهمتا بالإبادة الجماعية هناك بين العامين 2003 و2005. إذا تمكّن أحد الطرفين من تحقيق انتصار عسكري في دارفور، فيمكنه بسهولة استغلال الذهب واليورانيوم والمعادن الأخرى التي تختزنها المنطقة بالإضافة إلى الحدود من أجل كسب المال والسلطة والسلاح للاستمرار في الجهد الحربي.
غياب تحرّك المجتمع الدولي
تنذر الانعكاسات البشرية لمعركةٍ شاملة في الفاشر بكارثةٍ مروّعة في ظلّ شبح المجاعة المستمرّة. بعبارةٍ أخرى، لا يمكن أن تكون المخاطر أكبر. لكن على الرغم من حتمية حصول هذه المعركة نظراً لأهداف المتناحرين العسكرية ووقوف المجتمع الدولي مكتوف الأيدي، تبقى سُبُل التخفيف من المخاطر موجودة.
يجب أن تُعطى الأولوية لنشر قوة مكلَّفة بالقيام ما لم يقم به المتحاربون، لا سيما القوات المسلّحة السودانية وقوات الدعم السريع، وهو وضع المدنيين في المقام الأول.
لسوء الحظ، لم تعد هكذا قوة موجودة. في غيابٍ مذهل للبصيرة، سمحت الأمم المتحدة أولاً بسحب البعثة المختلطة للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور في العام 2020، ومن ثمّ بإغلاق بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان في العام 2023. كان هدف هذه الأخيرة تقديم الدعم لـلسودان في خلال انتقاله السياسي لحكمٍ ديمقراطي بعد سقوط الرئيس عمر البشير في خلال احتجاجات حاشدة عام 2019. لقد ضمنت هذه الخطوات عدم وجود أي كيان حالي لديه تفويض بحماية المدنيين في السودان – على الرغم من عدم حلّ الصراع المستمر منذ 20 عاماً في دارفور على الإطلاق واستمرار الهجمات وعمليات القتل والفظائع التي تُغذّيها، من باب المفارقة، أحكامُ اتفاق السلام المُبرم في العام 2020.
لذا من الضروري إنشاء بعثة دولية لحماية المدنيين، علماً أنّ الموافقة عليها وتمويلها ونشرها ستستغرق وقتاً. في غضون ذلك، يجب على الجهات الفاعلة الدولية نشر بعثات للرصد والمراقبة وتكثيف الجهود الدبلوماسية وتنسيقها، وقد تجلّى غياب ذلك بشدّة منذ نشوب الحرب. وينبغي أن تُشرك هذه الجهود بشكلٍ خاص قوات الدعم السريع على مستويات متعدّدة، بما فيها القيادة العليا والقادة المحلّيين على حد سواء.
ويتعيّن على الدبلوماسية كذلك البناء على صفقات وقف إطلاق النار المحلّية، التي ساعدت على تجنّب معركة شاملة حتى الآن. على سبيل المثال، استخدم بعض أعضاء المجموعات غير العربية، التي تشكّل الهدف الرئيسي لفظائع قوات الدعم السريع، صلاتهم السياسية أو الاقتصادية داخل قوات الدعم السريع بغية تأخير الهجمات والحدّ من حدّة العنف. وقد حثّتهم على ذلك لجانُ المقاومة في الأحياء المؤيّدة للديمقراطية إلى حدّ كبير، سعياً منها إلى المحافظة على وضع الملاذ الذي تتمتّع به الفاشر، بمنأى عن ممارسة قوات الدعم السريع بخرق وقف إطلاق النار بشكلٍ منهجي. دفع ذلك بسليمان صندل -وهو سياسي من إقليم دارفور انفصل عن إحدى المجموعات المسلّحة الرئيسية المؤيدة للجيش، والذي يُعتقد أنّه أقرب إلى قوات الدعم السريع – إلى المحافظة على خطوط اتّصال مفتوحة مع سلطان قبيلة الزغاوة، الذي لا يزال متحالفاً مع الجيش، وحثّه على استخدام هذا الرابط للضغط من أجل إيجاد طرق لتهدئة العنف. لقد حاول عناصر آخرون من الزغاوة الموالون لقوات الدعم السريع تهدئة العنف أيضاً، أسوةً بالبعض في المجموعتين الإثنيّتين الفور والداجو. وحقّقت هذه المحاولات نجاحاً نسبياً لكن لم تُساندها جهود الوساطة الدولية ووقف التصعيد القادرة على تعزيز آثارها إلى حدّ بعيد.
يدرك العالم خير إدراك خطر الفظائع في الفاشر، إلّا أنّه يتجاهل مؤشّرات الهلاك الوشيك، كما فعل قبل الحرب. في هذه الأثناء، استغلّت قوات الدعم السريع الصمت الدولي حول الفاشر للدخول تدريجياً إلى المدينة وتطويقها. وقد أحرقت مناطق بحجم 61 ملعباً لكرة القدم وحشرت سكان المدينة ذات الكثافة المتزايدة في مخيمات للنازحين داخلياً. ويعيش السكان في خوفٍ دائم من سيطرة قوات الدعم السريع، كونهم رأوا الفظائع التي اقترفتها في أماكن أخرى من دارفور لأكثر من عشرين عاماً.
على المدى المتوسّط، وبالنظر إلى أنّ خيارات المرور الآمنة المتاحة لسكانها البالغ عددهم 2,8 مليون نسمة قليلة، يجب تجريد الفاشر من السلاح من أجل المحافظة على وضعها كمدينة ملاذ. وقد يؤدّي فوزٌ عسكري لقوات الدعم السريع قريباً إلى خسارةٍ سياسية بما أنّ الفظائع المرتكبة تضرّ بسمعتها بشكلٍ متزايد. والعكس صحيح بالنسبة إلى القوات المسلّحة السودانية: من شأن خسارةٍ عسكرية أن تحقّق لها فوزاً سياسياً في أعقاب فظائع قوات الدعم السريع. في نهاية المطاف، لدى كلا المجموعتين الكثير لتخسره ويجب تشجيعهما على الانسحاب من الفاشر بشكلٍ متزامن للسماح للمدينة بأن تستمرّ في أن تكون ملاذاً آمناً.
في ظل غياب تحقيق العدالة بشأن الإبادة الجماعية والجرائم ضدّ الإنسانية التي ارتكبت ضد المجموعات غير العربية في دارفور منذ أكثر من عشرين عاماً، ترسّخت ثقافة الإفلات من العقاب بقوة وباتت تغذّي الحرب المستعرة حالياً. والسبيل الوحيد لهدم هذه الثقافة هو من خلال فرض عواقب على المرتكبين ومؤيّديهم. وفي الوقت الذي أصبح الدبلوماسيون يدركون أخيراً العواقب المترتّبة على أعوام من سياسات التهدئة الفاشلة في السودان، يجب أن يعلو صوت قادة العالم لتحقيق المساءلة الآن وبشكلٍ عاجل من أجل تجنّب كارثة جديدة.