تستمرّ الجولة الأخيرة من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي منذ أكثر من ثلاثة أسابيع، وبالنظر إلى إحجام الجانب الإسرائيلي عن التوصّل إلى هدنة يرجّح أن تستمرّ لفترة طويلة. وعلى الرغم من أنّ النهاية غير واضحة، إلّا أنّ تداعياتها جليّة بالفعل، ومنها عودة القضية الفلسطينية إلى مركز السياسة الإقليمية في الشرق الأوسط. ولا يمكن لصورة زائفة تشكّلت على مدى عقدين أن تخفي الواقع على الأرض، ولا أن تخفي الحقيقة.
في عالم السياسات الدولية، غالباً ما يعتمد السياسيون على صيغة مشجّعة في خطاباتهم لكي يرسموا صوراً وروايات تتماشى مع مصالحهم السياسية. وبالتالي، تراهم يركّزون دائماً على جوانب معيّنة من القصّة بينما يقلّلون من أهمّية جوانب أخرى. ويعمد البعض إلى خلق مفاهيم ومُبرّرات منفصلة عن الموضوع، حتى وأنّهم قد يشوّهون الحقيقة عمداً. قد تنجح هذه التكتيكات مؤقتاً، لكن الحقيقة ستبقى موجودة وستظهر في النهاية إلى الملأ. لا يمكن لأي صورة زائفة أن تدوم طويلاً عندما تتجاوز الحقيقة. وقد شهد الشرق الأوسط في العقدين الماضيين عدداً هائلاً من الصور التي فُبرِكت لغايات سياسية.
أوّلاً، تُصَوَّر السلطة الفلسطينية كمؤسّسة فاسدة. وعندما يُسأل الخبراء الإسرائيليين عن سبب تعثّر عملية السلام في الشرق الأوسط، تراهم يردّدون كلّهم الحجّة أنّ السلطة الفلسطينية فاسدة. فهم يقصدون أنّهم عاجزون عن العثور على شريك تفاوضي مناسب نتيجة فقدان السلطة الفلسطينية شرعيّتها. لقد فسدت تلك السلطة بطريقة أو بأخرى، ولو أنّ الخبراء العقلانيين لا يجدون رابطاً في ذلك.
وبمجّرد البحث على غوغل عن «فساد السلطة الفلسطينية»، سيظهر عددٌ كبيرٌ من المقالات والأوراق من مصادر إسرائيلية وأمريكية ووسائل إعلام وأكاديميين غربيين.
ثانياً، تُصَوَّر حماس على أنّها منظّمة إرهابية. ولا يقتصر الأمر على إسرائيل والولايات المتّحدة فحسب، بل يشمل الأوروبيين أيضاً. في بعض الأحيان، تصنّف وسائل الإعلام والأكاديميين حماس ومنظّمات أخرى في قطاع غزة على أنّها منظّمات إرهابية. ويمكن لبحث بسيط على غوغل أن يظهر نتائج مماثلة.
ثالثاً، تصنيف إيران كتهديد إقليمي. طوال العقدين الماضيين منذ نهاية صدّام حسين في العراق، ركّزت النقاشات الدائرة عن قضايا الشرق الأوسط، بشكل غير متناسب، على التهديد الإيراني المزعوم وكيفية التعامل معه. وقد سمع الخبراء بشأن دراسات الشرق الأوسط توقّعات إسرائيلية متكرّرة في 2003 و2007 و2014 و2022 أنّ إيران تقترب من امتلاك قنبلة نووية قريباً. وعلى الرغم من أنّه قد ثبُت بطلان هذه الادّعاءات، إلّا أنّ هناك دائماً مزيداً من هذه التوقعات.
قد يكون صحيحاً أنّ بعضاً من عناصر السلطة الفلسطينية فاسدٌ. وهذا لا يختلف عن أي دولة أخرى، بما في ذلك إسرائيل والولايات المتّحدة. وصحيح أنّ حماس هي من أكثر المجموعات المناهضة لإسرائيل، لكن لا ينبغي أن يغفل متّهموها عن الكلام عن الاحتلال كخلفية للصراع. وصحيح أيضاً أنّ إيران تتنافس على النفوذ الجيوسياسي في المنطقة، ولكنها بعيدة كل البعد عن أن تمثّل صورة المنطقة ككل.
تكمن النية الحقيقية لصانعي الصورة في حقيقة أنّ أحد أطراف الصراع غير راغب في المضي قدماً في مفاوضات حلّ الدولتين المضمر للقضية الفلسطينية. وتشير الخرائط المتقلّصة للأراضي الفلسطينية المحتلّة إلى أنّ إسرائيل غير مستعدّة إطلاقاً لتقديم تنازلات على الأراضي، بل قد تستولي على المزيد منها. ومن خلال تصوير إيران كتهديد إقليمي رئيسي، تعتزم إسرائيل تحويل التركيز على المشاكل الإقليمية بعيداً عنها. ومن خلال تصوير السلطة الفلسطينية على أنّها فاسدة، وحماس على أنّها منظّمة إرهابية، تسعى إسرائيل إلى تجنّب أي مفاوضات مجدية. والحجة هي عدم وجود طرف آخر لمفاوضته.
مع ذلك، تبقى الحقيقة ماثلة بكل بساطة، ولا يمكن لصناعة الصور أن تفلت منها. تكمن أهمية الجولة الأخيرة من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في إبرازها حقيقة الصورة التي رسمتها إسرائيل والولايات المتحدة والغرب. لا تزال القضية الفلسطينية في قلب السياسة الإقليمية على الرغم من الجهد الحثيث لتهميشها. وطالما استمرّ الاحتلال سيبقى الحصار قائماً. وفي غياب الحلّ ستبقى المقاومة موجودة.
على الرغم من تهميش بعض القوى الغربية للمسلمين، إلّا أنّ مسلمي الشرق الأوسط وفي مختلف أنحاء العالم يتعاطفون مع القضية المشروعة للدولة الفلسطينية، والمسجد الأقصى على رأس مخاوفهم.
وتتعلّق القضية الفلسطينية أيضاً بالعدالة، التي ينبغي أن تكون أساس النظام العالمي. لقد حُرِم الفلسطينيون من أرضهم التي عاش فيها أجدادهم منذ أكثر من ألف عام. وكثيراً ما يمنعون من التنقّل، وتُقطع عنهم المياه والكهرباء، وتُهدم منازلهم بالقنابل وإطلاق النار. لقد قوِّضت حقوق الإنسان بشكل خطير، وغالباً ما يُعتقلون ويُسجنون بشكل غير قانوني، وحتّى أنهم يقتلون. وهناك أيضاً أجيال من ملايين اللاجئين يرغبون في العودة إلى أرضهم. طالما لم تطبّق العدالة، ستبقى عيون العالم شاخصة على المنطقة.
يتابع السياسيون، ومن بينهم سياسيون في بعض الدول الأوروبية، خطوات الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي زار إسرائيل مؤخّراً لغايات سياسية. لكن الحقائق بالنسبة إلى الناس في الشوارع واضحة. لقد شهدت مدن في مختلف أنحاء العالم، من واشنطن إلى القاهرة، مظاهرات حاشدة. لا يندّد المتظاهرون بالكارثة الإنسانية الماثلة فحسب، بل أيضاً بغياب العدالة.
صوّتت الجمعية العامة للأمم المتّحدة في 26 أكتوبر على قرارٍ يدعو إلى هدنة إنسانية فورية ومستدامة في غزّة. وقد جاء التصويت مُعبِّراً، حيث أيّدت 120 دولة القرار، في حين عارضته 14 دولة وامتنعت 45 دولة عن التصويت تحت ضغط الولايات المتّحدة.
إن غضّ الطرف عن المشكلة لا يخفيها. وإذا لم تتراجع إسرائيل والولايات المتّحدة عن سياساتهما تجاه فلسطين، ستتطوّر الأمور على الأرض، لا إلى كارثة إنسانية في الأراضي الفلسطينية فحسب، بل في أجزاء أخرى من المنطقة والعالم أيضاً.
الحقائق التي لا يمكن إنكارها موجودة في العلن. أولاً، لن تقبل إسرائيل بحلّ الدولة الواحدة لأنّ ذلك سيحوّلها إلى دولة عربية بحكم نظام التصويت الخاص بها. ثانياً، يعيش ملايينالفلسطينيين هناك، وهؤلاء لن يختفوا بين ليلة وضحاها. ثالثاً، لن ينتج عن استمرار القمع والحصار العسكري إلّا المقاومة، وهذا ما أظهره التاريخ مراراً وتكراراً. بالتالي، السبيل الوحيد هو حل متفاوض عليه، وسيكون على إسرائيل تقبّل هذا الواقع، وكذلك الولايات المتّحدة.