بائع يحمل أموالاً في منطقة السوق في مدينة تعز، اليمن، في 10 مارس 2022. (تصوير عبد الناصر الصديق/ وكالة الأناضول عبر وكالة الصحافة الفرنسية)

توحيد السياسة النقدية والقطاع المصرفي في اليمن: التحديات والفرص

سنوات من الحرب عصفت باليمن وأدّت إلى انقسامات إقليمية وحكومية. والآن تزعزع المنافسة بين السلطات المصرفية استقرار اقتصاد البلاد الهش أصلاً.

16 يوليو، 2024
مطهر عبد العزيز عبد القادر العباسي

في خضم حالة اللاحرب واللاسلام المستمرّة منذ عامين، يواجه اليمن تحدّياً جديداً يهدّد بزعزعة استقراره الهشّ بالفعل. ويشهد القطاع المصرفي اليمني حالةً من الارتباك بعد أن أصدر البنك المركزي في عدن سلسلة من القرارات المثيرة للجدل، ما ينذر بتداعيات كارثية على اقتصادٍ يرزح أصلاً تحت وطأة الحرب والانقسامات.

 

بعد نحو عشر سنوات على بدء الحرب القائمة والتي أدّت إلى تشطير الوطن الموحّد، تحكم السلطة “المعترَف بها دولياً” في عدن نحو ثلث السكان ويمتدّ نفوذها على قرابة ثلثي مساحة البلاد. أمّا صنعاء، فهي تحت سلطة “حكومة الأمر الواقع” بقيادة الحوثيين، والتي تحكم نحو ثلثي السكان وتمتدّ على ثلث مساحة اليمن. وقد ولّدت الحرب في جميع أنحاء اليمن أزمةً اقتصاديةً خانقة تمثّلت في انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنحو 50 في المئة، وتراجع عوائد النفط والغاز إلى مستويات متدّنية، بالإضافة إلى ارتفاع معدّل البطالة وخاصة بين الشباب إلى قرابة 60 في المئة. وكشفت تقارير أنّ نحو 70 في المئة من السكان يواجهون خطر الفقر ويحتاجون إلى مساعدات إنسانية. 

 

تدرّج في الانقسام النقدي 

وقد صاحب الأزمة الاقتصادية تعميقٌ تدريجي للإنقسام النقدي والمصرفي بين المناطق الخاضعة لسلطة عدن وتلك الخاضعة لسلطة صنعاء. بدأ هذا الانقسام عندما انتقلت إدارة البنك المركزي من صنعاء إلى عدن في أواخر العام 2016، وقامت بطباعة كمية كبيرة من النقود تُقدَّر بنحو 2,5 تريليون ريال يمني، وانتهجت سياسات متهوّرة في تمويل نفقات سلطة عدن من مصادر تضخمية. وقد ساهم كلّ ذلك في تدهور قوة الريال الشرائية، إذ وصل سعر صرف الريال اليمني مقابل الدولار في نهاية العام 2019 إلى ثلاثة أضعاف ما كان عليه قبل الحرب الذي كان يساوي 215 ريال للدولار في نهاية عام 2014. ورغم ذلك، ظلّ سعر صرف الريال موحّداً بين مناطق صنعاء وعدن حتى العام 2020، عندما قرر البنك المركزي في صنعاء منع تداول العملة الجديدة المطبوعة من قبل البنك المركزي في عدن، ما خلق نظامين مختلفين لسعر صرف الريال، إذ بقي شبه ثابت في مناطق صنعاء (530 ريال للدولار)، بينما تصاعد في مناطق عدن حتى وصل إلى 330 في المئة مقارنة بمناطق صنعاء.  

 

وتفاقمت الانقسامات في القطاع المصرفي اليمني بعد أن أصدرت سلطات صنعاء قانوناً يحظّر التعاملات الربوية في المناطق الخاضعة لسيطرتها في مارس 2023. وأدّى هذا القانون إلى شلّ عمليات البنوك التجارية والإسلامية ومؤسّسات التمويل الأصغر، حيث قوّض ثقة المودعين والمقترضين في النظام المصرفي، ودفع عدداً من البنوك إلى حافة الإفلاس، إن لم تكن قد أفلست بالفعل. وزادت الأمور تعقيداً عندما أصدر البنك المركزي في صنعاء عملة معدنية جديدة بقيمة 100 ريال في مارس 2024، من دون التشاور مع البنك المركزي في عدن أو التنسيق معه. وقد أثارت هذه الخطوة ردّ فعل قوي من البنك المركزي في عدن الذي أصدر بدوره قرارات جديدة تؤكّد على سلطته القانونية في إدارة السياسة النقدية والرقابة المصرفية في جميع أنحاء اليمن. 

 

توجهات لإصلاح القطاع النقدي والمصرفي 

ردّاً على ذلك، اتّخذت إدارة البنك المركزي في عدن سلسلة من القرارات الحازمة في يونيو الماضي بهدف توحيد العملة وسعر الصرف، وتوحيد آليات عمل البنوك، وتنظيم علاقتها بالمودعين والمستثمرين وفقاً للقوانين النافذة بشأن البنك المركزي والبنوك التجارية والمصارف الإسلامية وبنوك التمويل الأصغر وصناديق التوفير. ومن أبرز هذه القرارات، إلغاء التعامل بالعملة القديمة المصدرة قبل عام 2016، واستعداد البنك لمبادلة تلك العملة بما يساويها من العملة الجديدة.  

 

ويهدف البنك المركزي في عدن من خلال هذا القرار إلى توحيد العملة الوطنية كمقدّمة لتوحيد سعر الصرف، فإلغاء القيمة القانونية والشرائية للعملة المتداولة في مناطق سلطة صنعاء قد يدفع الأفراد والشركات والصرّافين إلى التخلّص من العملة القديمة واستبدالها بالعملة الجديدة. بالتالي، سيؤدّي ذلك إصدار سعر صرف واحد للعملة الجديدة، ما يحدّ من التضخم ويحقق الاستقرار النقدي. بيد أنّ هذا القرار يواجه تحدّيات متعدّدة يفرضها واقع الانقسام السياسي بين سلطة عدن وسلطة صنعاء. وفي وضعٍ كهذا، يستطيع البنك المركزي في عدن ممارسة سلطته بشأن التعامل بالعملة القديمة في مناطق عدن، ولكن ليس في مناطق صنعاء. وعلى الرغم من أنّ العملة القديمة بمعظمها تالفة وغير قابلة للتداول، إلّا أنّها لا تزال تشكّل كتلة نقدية معتبرة، وسيظلّ لها وجود ودور في تسهيل المعاملات والتحويل إلى عملات أخرى والقيام بالوظائف المتعارف عليها مسنودة بالدعم القوي من البنك المركزي في صنعاء. بالإضافة إلى ذلك، يتّضح أن قرار نقل المراكز الرئيسية للبنوك من صنعاء إلى العاصمة المؤقّتة عدن يهدف إلى تأكيد حق البنك المركزي السيادي والقانوني في ممارسة الرقابة المصرفية على جميع البنوك العاملة في اليمن، وتوحيد آليات عملها وتنظيم دورها في الوساطة المالية، وضمان تعاملها مع المودعين والمقترضين وفقاً للقوانين النافذة. ولتحقيق هذا الهدف، يمتلك البنك المركزي في عدن الأدوات والوسائل اللازمة لإجبار البنوك على نقل مقراتها الرئيسية إلى عدن. فقد قرّر البنك منع التعامل مع البنوك التي لم تنفّذ هذا القرار، كما أنّه يسيطر على أنظمة التحويلات المالية الدولية، مثل “سويفت” و”أيبان”، ويمكنه منع البنوك غير المتعاونة من الوصول إلى هذه الأنظمة، وبالتالي عزلها عن النظام المالي العالمي ما يصعّب عليها القيام بعملياتها. 

 

ويواجه هذا القرار عدداً من التحديات، أبرزها ضمان حصول البنوك على أرصدتها المتراكمة لدى البنك المركزي مقابل استثماراتها في أذون الخزانة والبالغة نحو 1,7 تريليون ريال، حتى يتوفّر للبنوك السيولة المناسبة التي تمكّنها من القيام بوظائفها بالوساطة التمويلية. وذلك من خلال الوفاء بإلتزاماتها تجاه المدّخرين الذين بلغت ودائعهم نحو 2,5 تريليون ريال، إضافة إلى معالجة القروض المتعثّرة للبنوك لدى الحكومة والقطاع الخاص والتي تصل إلى حوالي 2,2 تريليون ريال. 

 

مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب 

استند البنك المركزي في عدن في قراراته لتنظيم عمل البنوك إلى أحكام قانون مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب. ولتعزيز هذا التوجه، أصدر البنك قراراً بشأن تنظيم مزاولة نشاط التحويلات الخارجية عبر شركات الحوالات الدولية. ويهدف البنك المركزي من هذه القرارات إلى ضمان تدفّق المعلومات المالية عن حركة التحويلات الخارجية من اليمن وإليه، ليتمكّن من الوفاء بالتزامات اليمن من خلال الامتثال لقواعد وإجراءات الاتفاقيات الدولية المعنيّة بمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب. 

 

وقد واجهت سلطة عدن، ممثَّلة بالبنك المركزي، ضغوطاً قوية منذ العام الماضي بسبب عدد من المستجدات، مثل إدراج الولايات المتحدة جماعة أنصار الله – أو سلطة الأمر الواقع في صنعاء – على قائمة الإرهاب. زد على ذلك الإجراءات التي اتّخذتها الجماعة لمنع حركة التجارة البحرية المتّجهة إلى إسرائيل عبر البحر الأحمر وخليج عدن، نصرة لأهل غزة. وقد وضعت هذه التطوّرات البنك المركزي في موقف حرج، حيث أصبح من الضروري معالجة الاختلالات القائمة في النظام المصرفي ونظام المدفوعات والتحويلات الدولية. 

 

وقد أشار تقرير بعثة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، عقب المشاورات السنوية الأخيرة مع قيادات البنك المركزي ووزارة المالية في حكومة عدن، إلى أهمية استمرار البنك المركزي في الحفاظ على استقرار القطاع المالي، وتعزيز الحوكمة، وتحسين عملية جمع البيانات لتعزيز الشفافية والمساءلة، إضافة إلى تعزيز الامتثال للمعايير الدولية، بما في ذلك معايير مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، والتشريعات المحلية، ما سيسهّل ممارسة التجارة والحوالات الخارجية. 

 

بشكلٍ عام، لا يمكن أن تعتمد معالجة التحدّيات التي تواجه توحيد السياسة النقدية والقطاع المصرفي في ظل الانقسام السياسي، على قرارات صادرة من طرف واحد. بل تقتضي الحكمة والعقلانية فتح قنوات للتواصل والحوار حول المسؤولية المتبادلة بين البنكين في عدن وصنعاء. ولبلوغ هذه الغاية، يجب على الطرفين اتّخاذ قرارات جادة.  

 

أوّلاً، لا بدّ من أن يأخذا قرارات متزامنة لإلغاء الحظر عن استخدام العملة القديمة أو الجديدة كلّا في ما يخصّه، وإستثناء الطبعة القصيرة من التداول. ثانياً، على سلطة صنعاء تجميد العمل بقانون منع التعاملات الربوية والذي سبب أثاراً كارثية على القطاع المصرفي في مناطق صنعاء. ثالثاً، لا بدّ من إلزام البنوك بنقل الإدارات المعنية بالامتثال والنظم والحوالات الخارجية إلى فروعها في عدن، حتى يتمكّن البنك المركزي في عدن ممارسة الرقابة المصرفية بفعّالية، وخاصة في ما يتعلّق بمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب. 

 

وفي النهاية، ينبغي أن تشكّل هذه القرارات المقدّمة للوصول إلى توافقات مشتركة حول توحيد مؤسسة البنك المركزي لكي يتمكّن من ممارسة المهام المناطة به. ويعتمد ذلك على درجة بناء الثقة بين أطراف الصراع وعلى الرغبة في اعتبار الهدنة “مرحلة انتقالية”، على أن يتمّ بعدها الدخول في حوار جاد للانتقال إلى توحيد البلاد للعبور إلى السلام والاستقرار. 

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: الاحتجاجات والثورات، الاقتصاد السياسي، الحرب الأهلية، الحوكمة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
البلد: اليمن

المؤلف

أستاذ اقتصاد في جامعة صنعاء
مطهر عبد العزيز عبد القادر العباسي، أستاذ اقتصاد في جامعة صنعاء، حصل على بكالوريوس اقتصاد وعلوم سياسية، كذلك حصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة ميزوري، كولومبيا الأمريكية، وعمل مستشاراً لعدد من المنظمات الدولية، وعميداً لكلية العلوم الإدارية، جامعة العلوم والتكنولوجيا، وخبيراً اقتصادياً في البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، ووكيل وزارة التخطيط والتعاون الدولي، ونائب… Continue reading توحيد السياسة النقدية والقطاع المصرفي في اليمن: التحديات والفرص