شرعت إدارة ترامب الثانية، وبإيعاز من إيلون ماسك ووزارة كفاءة الحكومة (DOGE)، في حملة شعواء لإحداث تغييرات جوهرية داخل أجهزة الحكومة الفيدرالية، من شأنها أن تخلّف تداعيات وخيمة على السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وعلى رأس الأجهزة المستهدفة وزارة الخارجية. فقد تسرّبت أنباء عن عملية إعادة هيكلة كبرى داخل الوزارة للمرّة الأولى من خلال مذكّرة في 15 أبريل، تصوّرت خفضاً يقارب 50 في المئة في ميزانية وزارة الخارجية من 58,8 مليار دولار في السنة المالية 2025 إلى 28,4 مليار دولار في السنة المالية 2026، إلى جانب إعادة هيكلة واسعة للوزارة وتقليص في عدد موظّفيها. وسارع وزير الخارجية ماركو روبيو إلى وصف المذكّرة بأنّها مجرّد «أخبار زائفة».
لكن بعد أسبوع، نشر روبيو مخطّطاً تنظيمياً جديداً، وأصدر بياناً مقتضباً قال فيه إنّ الوزارة التي يترأسها، بصيغتها الحالية، «متضخّمة وبيروقراطية وعاجزة عن أداء مهمّتها الدبلوماسية الأساسية». وفي الثاني من مايو الجاري، قدّمت إدارة ترامب مقترحاً لموازنتها للسنة المالية 2026 إلى الكونغرس، تتضمّن تقليص حجم الإنفاق بما يعادل 27,473 مليار دولار في تمويل وزارة الخارجية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وتستهدف طيفاً واسعاً من الأنشطة، من بينها دعم التنمية الاقتصادية والمساعدات الدولية في حالات الكوارث وعمليات حفظ السلام والمساهمات في المنظّمات الدولية وبرامج التعليم والتبادل الثقافي والديمقراطية والصحّة العالمية وغيرها.
وإلى جانب هذه التوجيهات، أصدر الرئيس الأمريكي في 18 أبريل الماضي أمراً تنفيذياً يقضي بتجريد نحو 50 ألف موظّف فيدرالي من الحماية الوظيفية، أي ما يعادل 2 في المئة من إجمالي القوى العاملة الفيدرالية. ويشمل القرار جميع الموظّفين المهنيين الذين يضطلعون بمهام تتعلّق بصياغة السياسات أو دعمها أو أولئك الذين تتطلّب طبيعة مهامهم سرّية عالية. وبموجب الأمر التنفيذي، الذي يأتي في إطار ما وُصِف بـ «استعادة المساءلة في المناصب المؤثّرة في السياسات داخل القوى العاملة الفيدرالية»، يمكن الاستغناء عن هؤلاء الموظّفين من دون اللجوء إلى الإجراءات القانونية والمؤسّسية المعهودة، وذلك لأسباب قد تشمل ضعف الأداء أو سوء السلوك أو الفساد، أو حتى اتهامات فضفاضة من قبيل «تقويض التوجيهات الرئاسية».
وقد يترتّب على هذه الإجراءات مجتمعةً تداعيات عميقة على نهج السياسة الخارجية الأمريكية إزاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أو في مناطق أخرى. كذلك، تنظر الإدارة الأمريكية في إغلاق عدد من السفارات والقنصليات، من بينها القنصلية الأمريكية في جنوب السودان، وتعتزم إلغاء مكتب وكيل وزارة الخارجية لشؤون الأمن المدني والديمقراطية وحقوق الإنسان، الذي تصفه بأنّه «بؤرة للنشاط الليبرالي». وستُعيد أيضاً هيكلة مكتب شؤون الشرق الأدنى بوزارة الخارجية ليضمّ أفغانستان وباكستان، موسّعاً بذلك نطاق اختصاصه إلى ما يتجاوز الدول العربية وإيران.
وتتضمّن خطّة إعادة الهيكلة المقترحة تقليصاً في عدد الموظّفين بنسبة 15 في المئة، أي ما يعادل نحو 2000 موظّف. ومن المرجّح أن تؤدّي هذه الخطوة إلى تراجع كبير في جودة تحليل السياسات، نظراً لانخفاض عدد الموظّفين القادرين على جمع البيانات والاجتماع بنظرائهم وتحليل التقارير الصحفية وإعداد مذكّرات السياسات. ومن شأن ذلك أن يؤثّر سلباً في نوعية المعلومات المتاحة لكبار صنّاع القرار، ويؤدّي في نهاية المطاف إلى تدهور جودة عملية صنع القرار في الولايات المتّحدة.
وقد ينعكس فقدان عدد كبير من الموظّفين سلباً على عمل الملحقين التجاريين، ويحدّ من قدرتهم على تعزيز التجارة والاستثمارات الأمريكية في مختلف أنحاء المنطقة. وقد يؤدّي تقليص عدد الموظفين القنصليين إلى انخفاض أعداد المسافرين إلى الولايات المتّحدة بقصد الدراسة أو السياحة، فضلاً عن زيادة احتمالات تسلّل بعض العناصر الخطرة من دون التمكّن من رصدهم.
تُمثّل خطط الإدارة ضربة قاصمة للجهود الطويلة والمعقّدة والمثيرة للجدل في كثير من الأحيان، لدفع قضية «الحوكمة الرشيدة» في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فقد ألغِيت موازنة الصندوق الوطني للديمقراطية (NED) بالكامل والبالغة 315 مليون دولار، علماً أنّ الصندوق من أبرز مصادر الدعم لمبادرات تعزيز الديمقراطية في المنطقة، وقد طعن الصندوق في هذا القرار قضائياً. أمّا دعم الأنشطة الأخرى الرامية إلى تعزيز الديمقراطية، والتي كانت تشمل تمويل مجموعات المجتمع المدني وبرامج التبادل عبر منح صغيرة ومنح دراسية، فقد شهد تراجعاً مطّرداً منذ ذروته في عهد الرئيس الجمهوري الأسبق، جورج بوش الإبن. ففي الفترة الممتدة بين عامي 2003 و2013، بلغ متوسّط الإنفاق السنوي على مبادرة الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية (MEPI) أكثر من 70 مليون دولار سنوياً، وكانت المبادرة مصدر دعم مهمّ لحركات المجتمع المدني العربي. لكن بحلول العام 2024، كانت موازنة المبادرة قد تراجعت إلى 25 مليون دولار. وفي يناير 2025، وضع مكتب الإدارة والموازنة (OMB) التابع لإدارة ترامب المبادرة تحت مراجعة دقيقة. وفي مارس، أغلِق برنامج التعاون الإقليمي في الشرق الأوسط (MERC)، الذي أنشِئ في العام 1979 لتشجيع التبادلات بين المواطنين العرب والإسرائيليين.
وعلى نطاق أوسع، وكما أوردت صحيفة «ذي إندبندنت» (The Independent)، تتّجه إدارة العلاقات الخارجية الأمريكية نحو الابتعاد عن الدبلوماسية التقليدية القائمة على القيم وتعتمد على المصالح المشتركة والتحالفات المتعدّدة الأطراف، ليحلّ محلّها نموذج نفعي قائم على المعاملات ويضع المصلحة الذاتية في صدارة أولوياته. وقد شملت المقترحات الأوّلية، على سبيل المثال، إلغاء مكتب الشؤون الأفريقية، وحصر السياسة الأمريكية تجاه القارة في مسائل مكافحة الإرهاب وتأمين الوصول إلى الموارد الطبيعية الحيوية. وسيؤدّي خفض المساعدات الإنسانية وتمويل الصحّة العالمية والمنظّمات الدولية إلى نفور الحلفاء وتقليص أدوات التأثير المتاحة لصنّاع القرار الأمريكيين وإلغاء أكثر جوانب السياسة الخارجية الأمركية يشعبيةًفي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وقد لاقت تبعات بعض هذه الاقتطاعات على اهتمام واسع، لا سيّما تفكيك الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. ببساطة، من شأن هذه الإجراءات أن تقوّض بعمق القوّة الناعمة التي تتمتّع بها الولايات المتّحدة وأن تفسح المجال أمام خصومها لتوسيع نفوذهم، وأن تزيد من حالة الفوضى والأعمال الإرهابية. والأسوأ من ذلك أنّها قد تعرّض حياة مئات الآلاف من الفلسطينيين والسوريين واليمنيين الضعفاء للخطر.
ومن بين التبعات الأكثر إشكالية، هو الضرر الذي سيصيب تماسك السياسة الخارجية الأمريكية واستمراريّتها، فضلاً عن أنّوالتي ستصبح أكثر تقلّباً وتذبذباً. وسيضعف تقليص عدد موظّفي السلك الدبلوماسي الذاكرة المؤسّسية، بينما ستؤدّي الجهود المبذولة لتقليص الحماية القانونية لموظّفي الخدمة المدنية إلى تراجع استعدادهم للتعبير عن آرائهم والمخاطرة بمسيرتهم المهنية وسمعتهم، ما يجعل عملية صنع القرار متركّزة في أعلى الهرم وأقل خضوعاً للتدقيق. وسيؤول ذلك إلى تراجع الضوابط وضعف التصدّي للسياسات السيئة، مثل إعلان الرئيس ترامب الأخير بأنّ الولايات المتّحدة ستتولّى في نهاية المطاف المسؤولية في غزّة، وهو اقتراح قوبل برفض على نطاق واسع من جانب المراقبين الإقليميين والدوليين من خارج أقصى اليمين الإسرائيلي المتشدّد، باعتباره طرحاً غير واقعي وينتهك قوانين الحرب الراسخة.
لا يزال الأثر النهائي لتقليص الإنفاق في الميزانية غير محسوم. إذ يُعدّ مقترح الإدارة بمثابة الطلقة الأولى في مواجهة طويلة الأمد مع الكونغرس، الذي يمتلك في نهاية المطاف سلطة التحكّم في الإنفاق. إلّا أنّه مؤشّر واضح على نيّة إدارة ترامب التراجع عن دور القيادة العالمية التقليدي للولايات المتّحدة والتزاماتها الخارجية، وخصوصاً في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومناطق أخرى ، لصالح تركيز أكبر على قضايا الأمن الداخلي والدفاع. وعلى الرغم من وجود مؤشّرات على بدء تململ بعض الجمهوريين في الكونغرس من حجم التخفيضات التي تقترحها الإدارة، تتركّز اعتراضاتهم أساساً على التخفيضات المحلّية التي تمسّ مباشرة مصالح ناخبيهم. وبما أنّ الرئيس يتمتّع تقليدياً بسلطة أوسع في الشؤون الخارجية، فمن غير المرجّح أن يواجه مقترحه معارضة جدّية في مجلسي الشيوخ والنواب.
وعلى الرغم من حجم المخاطر المترتّبة على هذه التغييرات، فإنّ المكاسب المالية المتوقّعة ضئيلة للغاية. فلو نُفّذَت الاقتطاعات المقترحة بالكامل، لن توفّر سوى 50 سنتاً من كلّ 100 دولار تنفقها الحكومة الفيدرالية. وبهدف تحقيق هذه الوفورات المتواضعة، تجازف إدارة ترامب بتقويض نفوذها الخارجي، وبأن تصبح أقل قدرة على التعامل مع شرق أوسط يزداد اضطراباً يوماً بعد يوم.
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفيها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.