وزير الخارجية الأمريكي ماركو أنطونيو روبيو يلتقي وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان آل سعود في الرياض، المملكة العربية السعودية، في 17 فبراير 2025. (وكالة الصحافة الفرنسية)

ترامب يعود: هل تُسرّع الدول الخليجية مسار فكّ الارتباط عن الولايات المتحدة؟  

منذ اللحظات الأولى، تسبّبت الإدارة الأمريكية الجديدة في حالة من الاضطراب وعدم اليقين، ما يفرض على دول مجلس التعاون الخليجي ضرورة إعادة تقييم نهجها الاقتصادي والإستراتيجي. وفي ظلّ التقلّبات المحتملة والتغيّرات في السياسات الأمريكية، سيكون من الحكمة أن تتبنّى هذه الدول مقاربة استباقية، تعزّز من استقلالها عن الاقتصاد الأمريكي.

27 مارس، 2025
فريدريك شنايدر

بعد ثمانية أسابيع من بدء ولاية ترامب الثانية، لا تزال حكومات العالم، ومن ضمنها الحكومات الخليجية، تحاول استيعاب الفوضى التي تعصف بواشنطن. وبصرف النظر عن المشهد السياسي الداخلي، أثارت سياسات الإدارة الجديدة الاقتصادية مخاوف من حدوث «ركود في عهد ترامب» في ظلّ تصاعد الحروب التجارية، وانخفاض قيمة الدولار وتراجع سوق الأسهم. وعلاة على ذلك، تتراجع ثقة المستهلكين والشركات في ترامب، إلى جانب انخفاض معدّل تأييد أدائه الاقتصادي. وعلى الصعيد الدبلوماسي، تعكس العداوة تجاه الحلفاء التقليديين الخطأ الجسيم الذي قد ترتكبه الحكومات في اعتمادها المفرط على الدعم المالي أو العسكري الأميركي. وفي مواجهة هذه الفوضى، يبرز السؤال التالي: هل ينبغي على الدول الخليجيّة أن تعيد النظر في علاقتها الاقتصادية مع الولايات المتّحدة؟ 

 

 

الدول الخليجية والولايات المتّحدة: حلفاء مقرّبون وفكّ ارتباط ناعم 

لطالما كانت دول مجلس التعاون الخليجي جزءاً من دائرة النفوذ الغربي. ومع صعود الولايات المتّحدة كبديل عن بريطانيا كقوّة مُهيمنة في منطقة الخليج منذ منتصف القرن العشرين وحتّى أواخره، كيّفت الدول الخليجية سياساتها الأمنية والاقتصادية وفقاً لذلك. وأقامت المملكة العربية السعودية، على وجه الخصوص، اتفاقية «النفط مقابل الأمن» مع الولايات المتّحدة في أواخر الحرب العالمية الثانية، وهي اتفاقية لا تزال سارية حتّى اليوم. فضلاً عن ذلك، ربطت جميع الدول الخليجية عملاتها بالدولار الأمريكي لعقود، سواء بالقانون أو الممارسة العملية.  

 

ومع ذلك، لم تكن الروابط الإستراتيجية والاقتصادية متينة دائماً، إذ انتهجت الدول الخليجية في بعض المحطّات مساراً مستقلّاً. على سبيل المثال، في العام 1973، فرضت الدول الخليجية حظراً نفطياً قاسياً على الولايات المتّحدة دعماً لمصر وسوريا في خلال حرب أكتوبر. لكن سُرعان ما عادت العلاقات إلى طبيعتها مع اتفاقية «البترودولار» في العام 1974، والتي ربطت الضمانات الأمنية الأمريكية وإمدادات الأسلحة بضمان استمرار تجارة النفط وإعادة تدوير عائدات النفط السعودية في الديون والأصول الأمريكية. وكذلك، قامت جميع دول مجلس التعاون الخليجي بتأميم صناعاتها النفطية، لكنّها حرصت في الوقت نفسه على تهدئة المخاوف الأمريكية قدر الإمكان، تفادياً لمصير رئيس وزراء إيران محمد مصدق الذي أُطيح به في انقلاب العام 1953 بتخطيط من الاستخبارات الأمريكية والبريطانية. 

 

في السنوات الأخيرة، ظهرت أسباب إضافية دفعت الدول الخليجية إلى تنويع إستراتيجياتها واتباع سياسة «فكّ الارتباط الناعم» لتقليل الاعتماد المفرط على الولايات المتّحدة وتجنّب المخاطر المرتبطة بذلك. على سبيل المثال، أدّى ازدهار إنتاج النفط الصخري في الولايات المتّحدة ونمو الاقتصاد الصيني الهائل إلى تحويل الطلب على الهيدروكربونات بعيداً عن الولايات المتّحدة نحو آسيا. واليوم، تجاوزت الصين الولايات المتّحدة لتصبح الشريك التجاري الأهم للدول الخليجية. 

 

وفي الوقت نفسه، بدأت الرياض في تسعير بعض عقود النفط مع بكين باليوان الصيني بدلاً من الدولار، فيما عزّزت الصين وجودها في المنطقة عبر مبادرة «الحزام والطريق» التي تركّز على تطوير البنية التحتية. وفي العام 2023، أبدت المملكة العربية السعودية رغبتها في الانضمام إلى مجموعة «بريكس» الاقتصادية، بينما أصبحت الإمارات العربية المتّحدة عضواً رسمياً في العام 2024. وتزامن ذلك مع توجّه دول مجلس التعاون الخليجي نحو تنويع استثماراتها بعيداً عن الأصول والديون الأمريكية، لصالح الاستثمارات العالمية في الموارد المعدنية الإستراتيجية والأمن الغذائيوفي دول ذات ثقل إقليمي مثل مصر وتركيا. كما أصبحت دبي على وجه الخصوص، والخليج بشكل عام، وجهة مفضّلة للروس والهنود والصينيين الذين يبحثون عن ملاذات آمنة لأصولهم، ما أدّى إلى تراجع أهمّية الوافدين الأثرياء من الدول الغربية. 

 

إلى جانب التحوّل الاقتصادي نحو الصين، بدأت الدول الخليجية تفقد الثقة في الضمانات الأمنية المريكية، ما دفع الإمارات العربية المتّحدة والمملكة العربية السعودية إلى إصلاح علاقاتهما مع إيران. كما تزامنت رغبة واشنطن في «التحوّل نحو آسيا» مع نهج أكثر عدائية تجاه الدول الخليجية من قبل الإدارات الديمقراطية المتعاقبة، حيث اتّهم باراك أوباما الدول الخليجية بـ«الاستفادة المجّانية» من الحماية الأمريكية، فيما وعد جو بايدن بتحويل المملكة العربية السعودية إلى «دولة منبوذة». وفي هذا السياق، تبحث الدول الخليجية بشكل متزايد عن مصادر بديلة لتلبية احتياجاتها الدفاعية بعيداً عن الاعتماد على الولايات المتّحدة، والتوجّه إلى مورّدين مثل فرنسا وبريطانيا وتركيا وروسيا والصين. 

 

ويأتي ذلك بالتوازي مع جهود عالمية، مثل تلك التي تبذلها ألمانيا وهولندا وإيطاليا وتركيا وغيرها، لاستعادة احتياطياتها من الذهب من نيويورك. وفي الوقت نفسه، تسعى مجموعة «بريكس» بشكل متزايد لإيجاد بديل للدولار كعملة احتياطية عالمية، إذ تعرّض بعض أعضائها للعقوبات والرسوم الجمركية الأمريكية، بينما يواجه آخرون مخاطر عند التعامل معهم. وبهذا، يتماشى «فكّ الارتباط الناعم» عن الولايات المتّحدة مع اتجاهات عالمية أوسع. ويبقى السؤال: هل تبرّر رئاسة ترامب اتّخاذ خطوات إضافية في هذا الاتجاه؟ 

 

 

التهديدات الاقتصادية لرئاسة ترامب 

تبرز ثلاثة مخاطر اقتصادية مرجّحة بعد عودة ترامب إلى البيت الأبيض: الأول، تصاعد الحروب التجارية العالمية؛ الثاني، سياسة خارجية فوضوية قد تُدخل الخليج في حروب اقتصادية؛ الثالث، أزمة اقتصادية تنطلق من الولايات المتّحدة وتنتشر عالمياً. 

 

حتى الآن، لم تكن دول مجلس التعاون الخليجي هدفاً مباشراً لسياسات ترامب الجمركية، بل قد تستفيد مؤقّتاً من ضعف الدولار أو من أي إجراءات انتقامية ضدّ الصادرات الأمريكية من النفط والغاز الطبيعي المسال. ومع ذلك، قد يساهم التراجع العام في التجارة وتسارع فكّ العولمة في زعزعة سلاسل التوريد العالمية، وقد يؤدّي إلى تباطؤ النشاط الاقتصادي على نحو عام، ما قد يسفر عنه إلحاق الضرر بمصالح الدول الخليجية. 

 

وعلى الرغم من أنّ الدول الخليجية تحافظ حالياً على علاقات جيّدة مع ترامب، لكنّها ليست مُحصّنة ضدّ العقوبات الأمريكية. وبالنظر إلى شخصيّته المتقلّبة، من غير المستبعد أن يعود ترامب إلى «الدبلوماسية القسرية» لأسباب متعدّدة. وفي ظلّ المشهد الجيوسياسي الحالي، فإنّ الخلاف بشأن سياسات الشرق الأوسط، سواء في ما يتعلّق بإسرائيل وفلسطين أو لبنان أو سوريا أو إيران، قد بات أمراً وارداً. 

 

أخيراً، قد يتسبّب ترامب وإيلون ماسك في إشعال أزمة اقتصادية جديدة. فقد أدّت سنوات من معدّلات الفائدة المنخفضة والتيسير الكمّي إلى تضخّم الديون وأسعار الأصول. ففي خلال ولايته الأولى، ساهم ترامب في انهيارات مصرفية كبرى من خلال إضغاف اللوائح المالية. ومن المرجّح أنّ تؤدّي المزيد من سياسات إلغاء القيود، والحروب التجارية، والتضخّم، ورفع أسعار الفائدة، والانقطاعات في سلاسل التوريد، والتقشّف، وتفكيك الإدارة الفيدرالية إلى تفاقم المخاطر المالية. 

 

وفي أسوأ السيناريوهات قد تتزامن أزمة مالية مع أزمة عملة. وفي حين كان هذا الأمر مستبعداً تاريخياً نظراً لوضع الدولار كعملة احتياطية عالمية، فإنّه يعتمد حالياً على الثقة العالمية في مصداقية الولايات المتّحدة وحوكمتها الرشيدة، وهو ما تقوّضه سياسات ترامب المتقلّبة. 

 

وعلى الرغم من أنّ الحديث عن أزمة اقتصادية كبرى قد يكون سابق لأوانه، ربّما باتت أفضل أيام الاقتصاد الأمريكي وراءنا. إنّ تركّز الأسواق واحتكارها في حالة تزايد، ونمو الإنتاجية العمّالية دون المتوسّط منذ العام 2005، وتكوين رأس المال الإجمالي أقل من مستويات ما قبل العام 2008، أمّا الاستثمارات في الأصول غير المالية فقد بلغت آخر ذرواتها في العام 2010. في المقابل، تحقّق الصين تقدّماً هائلاً في مجالات الطاقة المتجدّدة والسيّارات الكهربائية والذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات، على الرغم من العقوبات الأمريكية. 

 

وعلى الرغم من إعلان كلّ من الإمارات العربية المتّحدة والمملكة العربية السعودية عن خطط استثمارية كبرى في الولايات المتّحدة منذ تولي ترامب منصبه، فإنّ هذه الإعلانات مدفوعة بالسياسة أكثر من الاقتصاد، وتبرز أسباب وجيهة للشك في تنفيذها الفعلي. 

 

 

كيف ينبغي للدول الخليجية أنّ تتعامل مع الوضع؟ 

إذا افترضنا أنّ التصريحات السياسية بمعظمها لا تتعدّى كونها مجرّد استعراض إعلامي، وأنّ السياسات الفعلية والنتائج ستواصل اتباع الاتجاهات القديمة نفسها، فقد نستنتج أنّ الحكومات الخليجية يمكنها الاستمرار في إستراتيجيتها الحالية لفكّ الارتباط «الناعم» مع الولايات المتّحدة. ولكن تعترض هذا المسار عقبتان رئيستان، وهما النفوذ العسكري الهائل الذي تتمتّع به الولايات المتّحدة على دول مجلس التعاون الخليجي، وغياب عملات وأوراق مالية ومؤسّسات بديلة موثوقة. 

 

لكن هذا لا ينبغي أن يثني الدول الخليجية عن جهود تقليل اعتمادها على الاقتصاد الأمريكي. فشيخوخة إدارة ترامب، بالمعنيَين الحرفي والمجازي، ومسارها المتقلّب وتآكل مؤسّسات الدولة يزيد من هشاشة البلاد، ما يرفع من احتمالية حدوث انهيار مفاجئ متسلسل، وفي أسوأ السيناريوهات الهروب من استخدام الدولار. وفي ظلّ بيئة عالمية تتّسم بالركود المستمرّ وفكّ العولمة، والأزمات المتعدّدة، قد يكون انهيار مماثل كارثياً على الدول غير المستعدّة له، وخصوصاً تلك التي تمرّ بمرحلة انتقالية اقتصادية معقّدة بعيداً من الاعتماد على النفط. 

 

لذلك، تتطلّب اللحظة الحالية خطط طوارئ جديدة للتنويع وتقليل المخاطر. وعلى الرغم من أنّ بعض دول مجلس التعاون الخليجي قد تبدي شهية أكبر للمخاطرة بدلاً عن الحذر في تعاملها مع الولايات المتّحدة، يجب عليها الاستعداد لسيناريوهات غير مسبوقة، مثل فرض عقوبات أو تعريفات جمركية مباشرة أو غير مباشرة، أو تقييد الوصول إلى الأسواق وأنظمة الدفع الأمريكية. وسيفرض تصاعد السياسات الحمائية الحاجة إلى تنويع سلاسل التوريد وزيادة الاعتماد الاقتصادي على الذات. كما أنّ خطر وقوع أزمة اقتصادية أمريكية عميقة يستدعي وضع خطط لفكّ الارتباط عن اقتصادات الولايات المتّحدة وأوروبا، بالإضافة إلى فكّ ربط العملات الخليجية بالدولار واستبداله بسلّة من العملات والسلع. وأخيراً، للحدّ من تعرّض القطاعات المالية المحلّية للمخاطر، ينبغي إعادة توجيه جزء من الاستثمارات الخليجية في الديون والأصول والعملة الأمريكية نحو استثمارات متنوّعة ليس في الأسواق العالمية فحسب، بل أيضاً في مشاريع إنتاجية داخلية، مثل الطاقة الخضراء وبنية النقل التحتية والسكك الحديدية عالية السرعة، مع تجنّب الوقوع في فخاخ استثمارية غير مدروسة 

 

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفيها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: السياسة الأمريكية الخارجية، العلاقات الإقليمية، منافسة القوى العظمى
البلد: الإمارات العربية المتحدة، المملكة العربية السعودية، قطر