طائرة يوروفايتر تايفون تابعة للقوات الجوية الملكية البريطانية تهبط في قاعدة مرتد الجوية في أنقرة لإجراء فحص من قبل المسؤولين الأتراك في 18 ديسمبر 2024. (وكالة الصحافة الفرنسية)

تراجع الدور الأمريكي يحفّز الشراكة الدفاعية بين تركيا وأوروبا

في ظلّ تقلّب التزامات الولايات المتّحدة تجاه حلفائها، تتجه أوروبا وتركيا إلى إعادة رسم معالم علاقاتهما الدفاعية. وتأتي صفقة طائرات «يوروفايتر» المقترحة كمؤشّر قوي على سعي الطرفين نحواستقلال إستراتيجي أكبر وبناء شراكات صناعية تعزّز قدراتها الذاتية بعيداً عن المظلّة الأمنية الأمريكية ، ذا ما قبلت بها أنقرة.

10 أبريل، 2025
أيوب إرسوي

في ظل تراجع الالتزام الأمريكي الطويل الأمد بأمن أوروبا في خلال إدارة ترامب، بلغت الشراكة الدفاعية بين الاتحاد الأوروبي وتركيا مرحلة مفصليةفي مارس الماضي، عندما قدّم ائتلاف من كبرى شركات السلاح الأوروبية عرضاً رسمياً لأنقرة لبيعها نحو 40 طائرة مقاتلة من طراز «يوروفايتر تايفون».

 

وقد شاركت هذه المقاتلات في مهامّ قتالية فعلية ضمن القوات الجوية لعدد من دول الشرق الأوسط، من بينها المملكة العربية السعودية والكويت وقطر وسلطنة عُمان. وستمثّل الصفقة التركية، مع ائتلاف يضمّ بريطانيا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، خطوة نحو ترسيخ الشراكة الدفاعية الناشئة في مجال الصناعات العسكرية بين أوروبا وتركيا.

 

وكانت الولايات المتّحدة قد استبعدت تركيا من برنامج الطائرات المقاتلة من طراز “F-35” في يوليو 2019، على خلفية قرار أنقرة شراء أنظمة “S-400” للدفاع الجوّي من روسيا، وهو ما شكّل عائقاً أمام مساعي تركيا لتحديث قوّاتها الجوّية. وكحلّ مؤقّت، سعت أنقرة إلى شراء 40 طائرة مقاتلة إضافية من طراز “F-16” ومجموعات تحديث من الولايات المتّحدة، غير أنّ هذه الصفقة لم تتمّ. وردّاً على ذلك، بدأت تركيا في البحث عن بدائل.

 

في نوفمبر 2023، تبيّن أنّ الحكومة التركية شرعت في محادثات مع عدد من الدول لبأوروبية بهدف شراء 40 مقاتلة “يوروفايتر”، ما يعكس قناعة أنقرة بأنّها البديل الأنسب للأنظمة الأمريكية. وصرّح وزير الدفاع التركي يشار غولر، في مقابلة تلفزيونية بعد ذلك بشهر، قائلاً: «مقاتلات اليوروفايتر بديل ممتاز، ونحن نرغب في شرائها». وقد ساهم تراجع ألمانيا عن اعتراضها في أواخر العام 2024 في تسريع وتيرة المحادثات، ما أفضى إلى تقديم عرض رسمي الشهر الماضي تقوم الحكومة التركية حالياً بتقييمه.

 

لا تزال طائرات “F-16” تشكّل العمود الفقري للقوّة الجوّية التركية، إلّا أنّها تواجه تقادماً متسارعاً. وإذا لم تسارع أنقرة إلى الحصول على طائرات أكثر تطوّراً، فقد يفقد سلاحها الجوّي مكانته الفاعلة. ويمكن تقليص هذه الفجوة المتزايدة في القدرات، على الأقل في المدى المتوسّط، من خلال شراء طائرات «يوروفايتر تايفون» المتعدّدة المهام والقادرة على حمل مجموعة واسعة من الأسلحة الجوّية والبرّية. وقد أثبتت هذه المقاتلات أداءً عالياً في ساحات قتال معقدة ومتعددة الأبعاد، ما يجعلها خياراً مناسباً للعمل ضمن أسطول جوّي تركي متنوّع.

 

 

الاعتماد وقيوده

تتّسم سياسة دونالد ترامب الخارجية في ولايته الرئاسية الثانية بطابع متناقض يجمع بين النزعة الانعزالية والتوسّعية في آن معاً، ما أدخلالشراكة عبر الأطلسي في أكثر مراحلها توتّراً وخلافاً على الإطلاق. يعتبر الكثير من أعضاء إدارة ترامب أنّ التزامات الولايات المتّحدة تجاه أمن أوروبا ودفاعها تشكّل عبئاً يمكن التخلّي عنه. وقد تقوّضت مصداقية هذه الضمانات بفعل الخطابات التوسّعية تجاه كندا والدنمارك، وهما دولتان عضوان في حلف الناتو، كما ساهم تغيّر موقف واشنطن من العدوان الروسي على أوكرانيا بالإضرار بصورة الولايات المتّحدة كحليف مبدئي وموثوق في نظر الأوروبيين.

 

وبغض النظر عن إمكانية إصلاح هذه الشراكة، بدأت الجهات الفاعلة الأوروبية تدرك أنّ اختلال توازن القوى يولّد اعتماداً أمنياً غير مستدام على الولايات المتّحدة، وهو وضع بدأت أوروبا الآن بالتحرّك لمعالجته.

 

وللقيام بذلك، تعمل الأطراف الأوروبية، وعلى رأسها الاتحاد الأوروبي، على تعزيز البنية التحتية لصناعاتها الدفاعية الوطنية. كما يعيد بعض الدول الأوروبية النظر في تعاونه الصناعي الدفاعي مع الولايات المتّحدة، خصوصاً في ما يتعلق بالمقاتلات من طراز “F-35”. وقد صرّح مؤخّراً رئيس وزراء كندا، العضو أيضاً في الناتو، أنّ بلاده «تبحث عن بدائل محتملة لصفقة شراء المقاتلات الأمريكية، لأنها تعتمد بشكل مُفرط على الولايات المتّحدة في مجال الأمن».

 

وتقدّم قضية استبعاد تركيا من برنامج “F-35” نموذجاً على مخاطر هذا الاعتماد المفرط. فقد كانت أنقرة عضواً نشطاً في البرنامج الدولي لأكثر من عقد، قبل أن تستبعدها الولايات المتّحدة أحادياً في العام 2019. وفي العام التالي، فرضت واشنطن عقوبات على رئاسة الصناعات الدفاعية التركية، وهي الهيئة العليا المسؤولة عن المشتريات والتطوير الدفاعي، ولا تزال هذه العقوبات سارية حتى اليوم.

 

وقد بعثت هذه الخطوات برسالة تحذير ضمنية إلى بقية الدول الأعضاء السبعة في البرنامج، خمسٌ منها من أوروبا، مفادها أنّ التعاون الدفاعي مع قوى كبرى قادرة على اتخاذ قرارات أحادية بهذا الحجم ينطوي على مخاطر حقيقية. وبينما تسعى الحكومة التركية إلى إقناع إدارة ترامب بإعادة ضمّها إلى البرنامج، لا توجد عملياً أي ضمانات تقيها من استبعاد جديد في حال تعارضت التوجّهات الإستراتيجية بين البلدين في المستقبل.

 

 

فصل جديد؟

إنّ حالة عدم الاستقرار التي أثارها العدوان الروسي وفاقمتها تحرّكات إدارة ترامب، تدفع أوروبا وتركيا نحو شراكة أقوى في مجالي الأمن والدفاع. وتبرز مؤشّرات مبكرة على هذا الاتجاه من خلال آليات الحوار الإستراتيجي الجديدة وتزايد وتيرة الاجتماعات بين القيادات العسكرية الأوروبية والتركية.

 

تاريخياً، كانت الشراكة الوثيقة بين الطرفين تعيقها اعتمادهما المفرط على أطراف ثالثة لتلبية احتياجاتهما من الأسلحة، بالإضافة إلى غياب الإرادة السياسية القويّة والمستمرّة لدفع التعاون قدماً. ومع ذلك، فقد حقّقت الشراكة بعض النجاحات، التي يمكن أنّ تمهّد الطريق لمزيد من التعاون. على سبيل المثال، تعاونت الصناعات الجوّية التركية مع شركات دفاع أوروبية في عدد من المشاريع، منها طائرة النقل العسكري “A400M”، ومروحيات الهجوم “Agusta A129”. ومؤخّراً، أعلنت شركة ليوناردو الإيطالية الرائدة في مجال صناعة الدفاع، بالتعاون مع شركة بايكار التركية المشهورة بطائرات بيرقدار المسيّرة، عن مشروع مشترك لتصنيع طائرات مسيّرة.

 

وتوفّر صفقة «يوروفايتر» المرتقبة فرصاً واسعة للدول الأوروبية وتركيا على حدّ سواء. ويبرز إجماع متزايد في أوروبا على أنّ الهشاشة الأمنية لم تعد مقبولة، وأنّ الوقت قد حان لبناء بنية دفاعية أوروبية قويّة وقادرة على الصمود. ومن هذا المنطلق، تحوّلت الشراكات في قطاع صناعات الدفاعية من خيار إلى ضرورة. وفي حين ساهمت مبيعات «يوروفايتر» السابقة للدول الخليجية في تعزيز التعاون الأمني والدفاعي بين الطرفين، من شأن صفقة مماثلة مع تركيا أنّ تثمر مكاسب إستراتيجية كبيرة، وتساهم في الحدّ من المخاطر الأمنية التي تواجه أوروبا.

 

وتُقدّم الصفقة فرصاً أكبر لتركيا التي لاطالما اعتمد سلاحها الجوّي كثيراً على الولايات المتّحدة كموردها الوحيد لمقاتلاتها. ولكن التوتّرات الأخيرة في العلاقات الثنائية أثارت شكوكاً جدّية حيال جدوى هذه الإستراتيجية. ويمكن لتنويع مصادر التوريد أنّ يعزّز قدرة تركيا على الصمود في وجه صدمات الإمداد، سواء نتجت عن اضطرابات في سلاسل التوريد أو خلافات سياسية.

 

وستتيح صفقة «يوروفايتر» لتركيا الانخراط مع القاعدة الصناعية الدفاعية الأوروبية بشكل أوثق وأكثر دينامية وانتظاماً. ومن المرجّح أنّ يسفر تعميق التعاون الدفاعي مع أوروبا عن فوائد أمنية واقتصادية وإستراتيجية، أبرزها الوصول إلى أحدث التقنيات الأوروبية في مجال الطيران. تعني الصفقة كذلك تعزيز التعاون في الصناعات الدفاعية مع أربعة أعضاء أوروبيين في حلف الناتو في آن معاً.

 

لقد دفهت التقلّبات التي أحدثها إدارة ترامب في ديناميات المشهد الأمني العالمي كلّاً من أوروبا وتركيا إلى إعادة النظر في سياساتهما الأمنية والدفاعية. وتمثّل صفقة الـ«يوروفايتر» المحتملة فرصة لتطوير القدرات المشتركة، وقد تمهّد الطريق نحو تعاون دفاعي أكثر مؤسّسية. ويبقى القرار الآن بيد الحكومة التركية.

 

 

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفيها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: الاقتصاد السياسي، السياسة الأمريكية الخارجية، العلاقات الإقليمية، منافسة القوى العظمى
البلد: تركيا

المؤلف