صرّحت بسة هوزات، القيادية البارزة في حزب العمّال الكردستاني، أمام تجمّع من مقاتلي الحزب «ندمّر أسلحتنا طوعاً … كخطوة نابعة من حسن النيّة والعزيمة»..
يُظهِر مقطع الفيديو، الذي صُوِّر يوم الجمعة الماضي في مدينة السليمانية شمال العراق، نحو 30 من المقاتلين وهم يضعون أسلحتهم في مرجل كبير، قبل إشعال النار فيه.
قد تكون هذه المراسم رمزية، لكنّها تُتوّج إحدى الفترات الأهمّ في تاريخ تركيا السياسي الحديث، وأنهت سلسلة مدروسة من الإشارات والرسائل، وتدلّ على أنّ الطرفين لا ينسّقان رمزياً فحسب، بل يتوافقان سياسياً على نيّة الانتقال من دائرة الصراع المسلّح إلى الحوار السياسي البناء.
لقد نُظّمت التحضيرات التي سبقت هذه المراسم بدقّة لافتة، ما يكشف عن تنسيق سياسي وحسابات مدروسة في ضبط النفس. ولم يكن لهذا التوافق أنّ يتحقّق من دون اعتراف متبادل، من حزب العمّال الكردستاني والدولة التركية، بأهمّية ما سيحدث وبعواقب أي فشل.
في 7 يوليو، استقبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وفد حزب اليسار الأخضر المؤيّد للأكراد للمرّة الثانية في خلال أربعة أشهر. وانتشرت صورة جماعية تظهر ابتسامات الطرفين، في إشارة إلى تطبيع الحوار والموافقة الرمزية على المسار الجديد من أعلى مستوى في الدولة.
وبعد يومين، في 9 يوليو، ظهر عبد الله أوجلان، زعيم الحزب ومؤسّسه المسجون، في مقطع فيديو من سبع دقائق نشرته وكالة (ANF)، ذراع الحزب الإعلامية، وكانت هذه المرّة الأولى التي يظهر فيها علناً منذ 26 عاماً، وجاءت رسالته مقتضبة وإنّما تاريخية: لقد انتهى زمن السلاح.
وفي الفيديو، أكّد أوجلان تحقّق الهدف الأساسي للحزب وهو الاعتراف بالهوية الكردية، ومشدداً على ضرورة حلول المشاركة السياسية محل المقاومة المسلّحة. وقد كانت الرسالة موجّهة إلى مقاتلي الحزب بقدر ما كانت موجّهة إلى الجمهور.
وأخيراً، في 13 يوليو، تحدّث أردوغان في خلال اجتماع حزب العدالة والتنمية الحاكم، مجدِّداً التزامه بمسار نزع السلاح، ومعلناً أنّ لجنة برلمانية ستُنشأ لوضع إطار العملية القانوني. وقد هدفت رسالته إلى طمأنة الرأي العام، وخصوصاً أنصاره، بأنّ هذه العملية ستعزّز وحدة البلاد وتعود بالفائدة على جميع المواطنين الأتراك بمعزل عن قوميّتهم.
رسالة إلى الجمهور الكردي
كان الهدف من الرسالة المصوّرة النادرة لعبد الله أوجلان طمأنة مؤيديه الأكراد بأنّ ما يحدث ليس هزيمة بل إعادة تموضع، إنّه انتقال من الكفاح المسلّح إلى الانخراط السياسي. وجاءت الرسالة موزونة بعناية وخالية من النبرة الانتصارية، وسعت إلى إعادة صياغة الماضي بدلاً من تمجيده.
سمح الطابع الوقور لمراسم حرق الأسلحة بتعايش سرديتَي الدولة وحزب العمّال الكردستاني معاً. فلم تُقصِ أو تُنفّر أولئك الذين ضحّوا في مسيرة نضال الحزب، من ناشطين وساسيين في السجون أو في المنفى، إلى أُسر المخفيين قسراً، بل أشارت إلى أنّ أصواتهم قد سُمعت.
وعلى الرغم من سنوات عزلته الطويلة، لا تزال كلمات أوجلان تحمل ثقلاً وتأثيراً هائلاً. ليس بسبب سلطته الرمزية فحسب، بل لأنّ رسالته تعبّر عن تطلّعات الكثير من الأكراد اليوم: الكرامة من دون استشهاد وإسماع صوتهم من دون عنف ومستقبل يتجاوز الكفاح المسلّح.
إنّ الدعم الشعبي لعملية نزع السلاح آخذ في التزايد، حتى بين أولئك الذين ظلوا مشكّكين في نوايا الدولة. تظهر استطلاعات الرأي الحديثة أنّ أكثر من 90 في المئة من ناخبي حزب اليسار الأخضر، وممن يعرّفون أنفسهم بأنّهم أكراد أو زازا (وهي أقلية قريبة من الأكراد) في تركيا، يدعمون العملية. كما أنّ مستوى الثقة في أنّ حزب العمّال الكردستاني سينزع سلاحه بالكامل أعلى بكثير من المعدّل الوطني.
قرار الحزب بالتخلّي عن السلاح ليس انسحاباً بل عملية إعادة تموضع إستراتيجية.
منذ تأسيسه في العام 1978، خاض الحزب صراعاً مسلّحاً طويلًاً ضد الدولة التركية، مطالباً بالحكم الذاتي وحقوق الأكراد. غير أنّ المشهد الإقليمي قد شهد تحوّلات جذرية بعد عقود من التمرّد.
تغيّرت ساحات سيطرة الحزب في شمال العراق وسوريا. وعلى الرغم من أنّ «قوّات سوريا الديمقراطية»، الحليف الرئيس لحزب العمّال الكردستاني، لا تزال نشطة في شمال شرق سوريا، بات مستقبلها مرهوناً بتبدّل الالتزامات الأمريكية وتفاهماتها الهشّة مع الحكومة السورية الجديدة الحليفة لأنقرة.
وفي الوقت نفسه، ساهم تراجع نفوذ إيران الإقليمي واستمرار الضغط العسكري التركي والتفضيل الغربي الخجول وإنّما المتناميٍ لدعم استقرار تركيا، في إعادة رسم حسابات الحزب الإستراتيجية.
والأهم أنّ هذا التحوّل لا يتعارض مع المصالح الأساسية لكلّ من الولايات المتّحدة وإسرائيل في كبح نفوذ إيران والحفاظ على وضع مستقر يمكن إدارته في سوريا.
وفي هذا السياق، لم يعد تحوّل الحركة الكردية في تركيا إلى حركة منزوعة السلاح وذات طابع سياسي استثناءً معزولًاً. لقد قرّر حزب العمّال الكردستاني مغادرة ساحة القتال والدخول إلى الساحة السياسية، كما عبّر أوجلان في رسالته في 9 يوليو قائلًاً: «أؤمن بقوّة السلام، لا بقوّة السلاح».
مع ذلك، لا تشكّل مراسم حرق الأسلحة نهاية عملية نزع السلاح. من المتوقّع أنّ تشكّل لجنة برلمانية تركية لتحديد شروط إعادة دمج مقاتلي حزب العمّال الكردستاني في الحياة المدنية والسياسية داخل تركيا، إلى جانب آليّة تحقّق ومتابعة تشارك فيها القوّات المسلّحة التركية وجهاز الاستخبارات، لمراقبة سير عملية نزع السلاح وإصدار تقارير توجه الخطوات التالية.
وقد وصفت بسه هوزات، القيادية في حزب العمّال الكردستاني، المراسم بأنّها محطّة سياسية مفصلية، مؤكّدةً طموح الحزب لدخول الساحة السياسية المدنية، ومعبّرةً عن نية أنّ يصبحوا: «روّاد السياسة الديمقراطية في آمد (دياربكر) وأنقرة وإسطنبول»، في إشارة مقصودة إلى مراكز التمثيل الكردي والسلطة الوطنية في تركيا.
غير أنّ هذا التحوّل يظل رهينة إصلاحات قانونية شاملة وضمانات موثوقة تكون قابلة للتطبيق سياسياً ومجتمعياً. ومن المرجّح أن تؤدّي منظّمات المجتمع المدني والجمعيات الإنسانية في تركيا دوراً فاعلًاً في المراحل المقبلة من عملية نزع السلاح الكامل.
الدعم السياسي التركي
يسود في تركيا تأييد سياسي واسع على دعم عملية السلام مع حزب العمّال الكردستاني.
ويُعزى هذا التأييد بدرجة كبيرة إلى كون العملية تفيد معظم الفاعلين السياسيين، من خلال تخفيض الطابع الأمني المتشدّد للمشهد السياسي وتخفيف الضغوط القضائية وإتاحة فرصة لإعادة ضبط منظومة الحكم التي أصبحت شديدة الاستقطاب.
ففي ظلّ التوسّع الكبير في استخدام تهم «الإرهاب» في السنوات الأخيرة، وجد حتى أعضاء من حزب الشعب الجمهوري المعارض أنفسهم عالقين في مشاكل قانونية. وفي هذا السياق، تُغري التهدئة الكثيرين، بمن فيهم زعماء الحزب مثل أوزغور أوزال وأكرم إمام أوغلو، على الرغم من أنّ الكثير لا يزال يشكّك في نوايا حزب العدالة والتنمية الحاكم. وبالنسبة إلى كثير من مؤيّدي حزب الشعب الجمهوري، من الصعب تجاهل ما يعدّونه تناقضاً بين جهود المصالحة مع حزب العمّال الكردستاني واستمرار حملة القمع الشعواء ضدّ رؤساء البلديات المعارضين.
أمّا الأحزاب التركية الأخرى، فقد عبّرت عن دعمها للعملية، على الرغم من انتماءاتها السياسية المختلفة. وبالطبع، كان لحزب اليسار الأخضر دور مركزي في المفاوضات وفي إيصال الرسالة بأنّ صفحة الماضي قد طُويت.
واللافت أنّ حزب الحركة القومية، وقد يكون من أكثر الأحزاب التركية عداءً لحزب اليسار الأخضر ومن أشدّ المعارضين لأي تقارب مع الحركات القومية الكردية، قد أعلن دعمه للعملية علناً، بل وشارك مشاركة فعّالة في ترتيب مشاهدها في خلال الأشهر الماضية.
فقد كان زعيمه، دولت بهتشلي، في مقدّمة المشهد السياسي، إذ كرّس جهوده ووجّه دعوة رسمية إلى عبد الله أوجلان لحلّ حزب العمّال الكردستاني، فضلاً عن تواصله المباشر مع نوّاب من حزب اليسار الأخضر. ويعود موقفه البراغماتي إلى إيمانه بأنّ إنهاء حملة الحزب المسلّحة يخدم المصلحة الوطنية. وفي الواقع، وبدعم مباشر من بهتشلي، فلقد تجاوزت العملية كل العقبات، التي عرقلت سير تقدّمها في مراحل سابقة.
أمّا حزب العدالة والتنمية، فقد قاد العملية عبر بعض من أبرز قياداته، وعلى رأسهم إفكان آلا، وزير الداخلية السابق وأحد أقرب الحلفاء السياسيين للرئيس أردوغان. وقد أخذ أردوغان على عاتقه شخصياً تطبيع الخطاب بشأن السلام مع حزب العمّال الكردستاني.
ومع ذلك، ليس جميع أعضاء حزب العدالة والتنمية في صفّ القيادة وتوجّهها هذا. فسنوات من الصراع الدموي مع حزب العمّال الكردستاني والهجمات التي نفّذها واستخدام الخطاب الأمني وتجريم الشخصيات المرتبطة بحزب اليسار الأخضر والوصمة السياسية المحيطة بأي تعاون معه، خلّفت تحفّظات عميقة داخل صفوف العدالة والتنمية. والتراجع عن هذا الموقف ليس بالأمر السهل، حتى مع إشارة أردوغان الواضحة إلى التزامه القوي من أعلى هرم السلطة التركية.
المطبّات المحتملة
هذه ليست عملية سلام تقليدية، ولا فعل استسلام من طرف واحد، بل تمثّل تقارباً هشّاً ومعقّداً وجزئياً بين خصمين تاريخيين.
وقد تسعى جهات لإفشال هذه العملية، سواء من داخل أروقة الدولة أو بين التيّارات السياسية أو من خارج الحدود، لكن حتى الآن، لم يتمكّن أحد من عرقلة المسار.
ومع ذلك، فإنّ من يرتبطون باقتصاد الحرب أو المتشدّدين أيديولوجياً أو الجهات التي تعتاش على الخطاب الأمني، قد يحاولون التصدّي للعملية لاحقاً وعرقلة مسارها، حتى وإن كانت العملية قد تجاوزت بالفعل الكثير من العقبات المحتملة، مثل قصف الجيش التركي لمواقع حزب العمّال الكردستاني في مارس الماضي، والتقلّبات الإقليمية كالحرب بين إسرائيل وإيران.
لكن هذا لا يعني أنّ المشاكل قد انتهت، فما ينتظرنا قد يكون أكثر صعوبة. ومن دون تنفيذ إصلاحات سياسية حقيقية أو تقديم ضمانات ملموسة، قد يُغلق بسرعة الهامش الذي فتحته عملية نزع السلاح.
وعلى الجانب الكردي، لا تزال هناك أسئلة كثيرة معلّقة.
في مقابلة مع قناة «روداو» الكردية يوم الأربعاء الماضي، شدّد تونجر باكرهان، الرئيس المشارك لحزب اليسار الأخضر على «أنّ الإشارات الرمزية يجب أن تتبعها خطوات مؤسّسية».
وقال: «لقد قدّمنا مقترحاتنا إلى رئيس البرلمان، بما في ذلك آليّات إعادة دمج المقاتلين السابقين في الحياة السياسية والمدنية. لا داعي للخوض في التفاصيل الآن. فهذه ستأتي لاحقاً. لكن لا بدّ من الوضوح: ما مصير من يتخلّون عن السلاح؟ إلى أين يذهبون؟ ما الضمانات التي سيحصلون عليها؟ هذه ليست تفاصيل هامشية بل هي أساس لأي سلام حقيقي».
وهو محقّ في إشارته إلى أنّ نزع السلاح ليس هدفاً نهائياً بل نقطة انطلاق. والسؤال الحقيقي هو: ما الذي سيأتي بعد ذلك؟
ما مصير أولئك المعتقلين بتهم «الإرهاب»، سواء لأسباب سياسية أو لتورّطهم السابق في الكفاح المسلّح؟
ماذا عن المقاتلين الذين ما زالوا في الجبال؟ والعائلات العالقة، والشخصيات السياسية المنفية في العراق وأوروبا أو أماكن أخرى؟ وماذا عن الشرائح الأخرى الأوسع نطاقاً: الصحافيون ومنظّمات المجتمع المدني وغيرهم ممن ظلوا عالقين في مناطق رمادية من التجريم والتهميش؟
لكي تصل عملية نزع سلاح حزب العمّال الكردستاني إلى هذه المرحلة، كان لا بد أن تتوفّر ظروف داخلية وجيوسياسية ملائمة. وقد توفّرت هذه الظروف اليوم.
سيُحرق السلاح، وسيُغلق فصل العمل المسلّح، وربّما يشمل ذلك الجبهة السورية، كما تُشير إليه المفاوضات الشاقّة الجارية بين قوّات سوريا الديمقراطية ودمشق. لكن من الآن فصاعداً، ستصبح السياسة التمثيلية والدبلوماسية والنقاش العام أكثر أهمّية من أي وقت مضى.
نحن أمام لحظة تاريخية فارقة، ولن يتحدّد ما سيأتي بعدها بالرموز بل بالمضمون: بجرأة التشريع وبالاستعداد لتفكيك المركزية وبالثقة في قدرة المجتمع على التعايش.
لا أحد يستطيع التنبؤ بمسار تطوّر الأوضاع في المنطقة، ومعظم الفاعلين يستعدون لسيناريوهات متعدّدة لا خارطة طريق واحدة.
أمّا الأثر بعيد المدى لهذا التحوّل، فلا يزال غامضاً، وربّما من المقصود أن يبقى كذلك.