الذكرى السنوية الأولى لسقوط نظام الأسد في سوريا هي لحظة تدعو إلى الاحتفال، فهي تمثّل نهاية 54 عاماً من حكم البعث، ونهاية حربٍ أهلية دامت 14 عاماً، وحصدت أرواح الآلاف من السوريين، وشرّدت أكثر من نصف السكّان، ودمّرت أسس البلاد المادية والاجتماعية. ولدى السوريين الكثير مما يدعو إلى الشكر والامتنان: فللمرة الأولى منذ عقود، باتت أمامهم فرصة حقيقية لإعادة بناء وطنهم وتصوّر مستقبل يصنعونه بأنفسهم، وترسم ملامحه جهودهم وتطلّعاتهم.
كما تُتيح هذه الذكرى مساحةً للتأمّل. فقد شهدت السنة الفائتة إنجازاتٍ لافتةً، تخلّلتها بعض العثرات العابرة. والتحدّيات التي تلوح في الأفق جسيمة، ولا ينبغي لأحد ادعاء خلاف ذلك. ومع ذلك، من الضروري التذكير بمدى عمق الحفرة التي وجدت سوريا نفسها فيها لحظة تحرّرها. ففي ظلّ حكم الأسد، لم تكتفِ البلاد ببلوغها دركاً سحيقاً فحسب، بل واصلت الانحدار والتردّي. وفي مواجهة هذا الواقع، أدّت الحكومة الانتقالية دوراً مشهوداً في إحراز تقدّم مُطّرد وبطيئ بهدف النهوض بالدولة. وقد خدم نهجها البراغماتي مصلحة البلاد وأثبت فعاليته، حتى عندما كان الطريق إلى الأمام شاقاً ووعراً.
نظام الأسد يخلّف وراءه حفرةً هائلةً
ورثت الحكومة الانتقالية السورية بلداً منهاراً واقتصاداً مفلساً. فعشية التحرير، كانت قوّات النظام تسيطر على أقل من 70 في المئة من الأراضي، وحتى هذه السيطرة كانت هشّة وتعتمد على الدعم العسكري الأجنبي. وقد أُنهكت مؤسّسات الدولة تحت وطأة الأجور الزهيدة التي لا تُغني ولا تُسمن من جوع، والفساد المستشري، والإرهاق الأخلاقي. كما استخدم النظام الهويات الطائفية كسلاح، ما أدّى إلى تقويض الثقة بين المجتمعات التي عاشت طويلاً جنباً إلى جنب.
كان الاقتصاد بدوره في حالة انهيار تام. فقد دُمّر القطاع الخاص، ونُهبت المصانع، وأُهملت الأراضي الزراعية أو دُمّرت بالكامل. وتدمير نحو مليون منزل أو الإضرار بهم، فيما أصبح نصف مستشفيات البلاد ومدارسها خارج الخدمة. أمّا الليرة السورية، فقد انهارت وفقدت أكثر من 99 في المئة من قيمتها. وانخفض دخل الفرد من 2,500 دولار في 2010 إلى 830 دولاراً فقط في 2024، أي أقلّ بكثير من الحدّ الدولي للدخل المنخفض، ما ألقى نحو 80 في المئة من السوريين في براثن الفقر.
على الصعيد الدولي، ازدادت عزلة البلاد. فقد أدّى ردّ النظام الوحشي على الاحتجاجات إلى فرض عقوبات من الأمم المتّحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتّحدة. وفي نوفمبر 2011، جرى تعليق عضوية سوريا في جامعة الدول العربية. ونزح سبعة ملايين شخص داخلياً، فيما لجأ ستة ملايين آخرون إلى الخارج. كان حجم الدمار المادي والمؤسّسي والاجتماعي والبيئي والبشري هائلاً. وقد قُدّرت كلفة الدمار المادي وحده بنحو 108 مليارات دولار.
وبعد انحسار القتال في العام 2017، أبدت الدول الغربية استعداداً لإعادة الانخراط، غير أنّ النظام فضّل التعنّت على المصالحة. وعلى الصعيد الداخلي، تفاقم القمع وترسّخت المحسوبية. ولتعويض نقص الإيرادات، اتجه النظام إلى تجارة المخدرات، فأنتج وصدّر نحو 80 في المئة من المعروض العالمي من الكبتاغون. وعلى الصعيد الدولي، باتت سوريا أكثر عزلةً بعد دخول «قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا» لعام 2019 حيّز التنفيذ، ما منع فعلياً أيّ إمكانية لتقديم دعم مالي عالمي لجهود إعادة الإعمار التي يقودها النظام.
الزحف ببطء للخروج من الحفرة
بحلول العام 2024، كان العالم مستعداً مرّة أخرى للبحث عن سبيل للتعامل مع حكومة الأسد. فقد أعادت جامعة الدول العربية عضوية سوريا، وبدأت القوى الدولية مناقشة سُبل دعم إعادة الإعمار. وعلى الرغم من النفور الواسع من النظام، حتى بين حلفائه، عُدّ الانخراط معه خياراً أقلّ كلفةً من انهياره، الذي كان سيهدّد بموجة جديدة من صراعات السلطة العنيفة والدمار والنزوح الجماعي. إلّا أن تعنّت النظام مجدداً أمام مساعي المصالحة قد أثبت أنّه القشة التي قصمت ظهر النظام، وفتح المجال أمام الفصائل المعارضة، بقيادة هيئة تحرير الشام، للتحرّك ضدّه. وقد جاء سقوط النظام سريعاً ومفاجئاً، بعدما كانت مؤسّسات الدولة، بما فيها الجيش، قد أُفرغت إلى حدّ جعلها تتهاوى أمام تقدّم القوات المهاجمة.
كان الانتقال السياسي بدورة لافتاً وغير متوقّع. والأهم أنّ حكومة تصريف الأعمال الجديدة نجحت في تجنّب أسوأ السيناريوهات التي كان يُخشى وقوعها. كان الخروج من الحفرة بطيئاً لكنه محسوب. فقد استُعيد الأمن إلى حدّ كبير بعد السقوط، وتحسّن تدريجياً. كما أعيدت الخدمات الأساسية إلى الكثير من المناطق. واكتسبت الاستثمارات في الكهرباء والبنية التحتية زخماً ملحوظاً. وبدأت مؤسّسات الدولة، لا سيّما تلك التي أُفرغت في خلال السنوات الماضية، تستعيد شيئاً فشيئاً قدرتها على أداء مهامها والاضطلاع بدورها، حتى وإن لم تكن على أكمل وجه.
وعلى الصعيد الدولي، حقّقت البلاد تقدّماً لافتاً في ترميم صورتها وإعادة بناء علاقاتها الخارجية. فقد أعادت سفارات عدّة فتح أبوابها حول العالم. وفي سبتمبر 2025، أصبح الرئيس أحمد الشرع أول زعيم سوري منذ ستة عقود يخاطب الجمعية العامة للأمم المتّحدة. وفي 10 نوفمبر، بات أول رئيس سوري يزور البيت الأبيض في التاريخ ، وهو إنجاز لم يكن أحد ليتخيّله قبل عام واحد فقط.
وعلى الصعيد المؤسّساتي، تبنّت الحكومة توجّهاً أكثر انفتاحاً على اقتصاد السوق، متجاوزةً السياسات الاشتراكية التي أثبتت فشلها. وبدأت في تقليص حجم القطاع العام المترهّل، وزادت رواتب العاملين فيه زيادةً هائلةً من نحو 25 دولاراً إلى حوالي 100 دولار شهرياً. ومع أنّ هذا المستوى لا يزال متواضعاً للغاية، غير أنّه منح الحكومة قدرةً أكبر على مطالبة موظفي القطاع العام بإنهاء الفساد وسوء استخدام السلطة.
وعلى الصعيد الاقتصادي، حظيت سوريا بدعم دولي لتخفيف العقوبات، وهي خطوة كان كثير من المحلّلين يعتقدون أنّها ستستغرق سنوات. كما نجحت في جذب استثمارات بمليارات الدولارات في مشاريع البنية التحتية والطاقة، وأعادت وصل اقتصادها بالأنظمة المالية العالمية، واستأنفت انخراطها مع المنظمات الدولية الكبرى. لا يزال التقدّم غير متساوٍ وغير مكتمل، إلّا أنّه حقيقي ويكتسب زخماً مُطّرداً.
التحدّيات لا تزال قائمة
لم تخرج سوريا بعد من الحفرة العميقة التي ورثتها. فقد تأخّرت جهود المصالحة بعدما منحت الحكومة الأولوية لترسيخ دعائم الأمن ودفع عجلة التعافي الاقتصادي. ولا تزال البلاد منقسمة، وإنّ بدرجة أقلّ مما كانت عليه قبل عام. وتستمرّ المفاوضات مع القوّات الكردية في الشرق والميليشيا الدرزية في الجنوب، وسط تفاؤل بإمكانية التوصّل إلى اتفاقات تمهّد لإعادة توحيد البلاد ضمن هيكل لامركزي، وتفتح الباب أمام عملية انتقال ديمقراطي أكثر شمولاً.
ولا تزال البلاد تواجه أزمةً إنسانيةً. فالأمن الغذائي مهدّد على نطاق واسع، وتفاقمه قلّة الأمطار وارتفاع الأسعار. وتُقدَّر كلفة إعادة الإعمار بنحو 216 مليار دولار، وقد تصل إلى 345 مليار دولار. ويتطلّع ملايين اللاجئين والنازحين داخلياً إلى العودة إلى مجتمعاتهم. لكنهم يحتاجون إلى حدّ أدنى من الأمن، ودعم للبنية التحتية، وخدمات عامة، وفرص عمل.
ولا تزال العقوبات مرفوعة جزئياً، ما يخلق مناخاً من عدم اليقين بشأن قرارات الاستثمار، ولا سيّما بالنسبة إلى الشركات الغربية. ومن المتوقّع أن تساهم زيارة الرئيس الشرع الأخيرة إلى واشنطن في تغيير المزاج السياسي وبناء زخم نحو الرفع الكامل لما تبقى من العقوبات. وعندها فقط يمكن لسوريا أن تطلق حقاً العنان لإمكاناتها الاقتصادية.
ويظلّ التحدّي الأكثر استعصاءً هو السياسة الاقتصادية. فعلى الرغم من الإعلان عن استثمارات أجنبية، بقي التنفيذ بطيئاً، ولم تحقّق فرص العمل المتوقّعة بعد. وفي الوقت نفسه، تستمر تكاليف المعيشة في الارتفاع، ما يثقل كاهل الأسر ويختبر صبر المواطنين. وتعمل الحكومة على إعداد خطة اقتصادية منقّحة، تركّز على ضمان سُبل العيش وتعافي المشاريع الصغيرة وتقديم الدعم الاجتماعي الموجّه، بهدف تحويل الاستقرار الأولي إلى تحسينات ملموسة في الحياة اليومية.
النهوض بإصرار
بعد عام واحد، لا تزال سوريا في بداية رحلة طويلة، غير أنّ هذه الرحلة تستند إلى تفاؤل حقيقي وأمل متجدّد. لقد أثبتت السنة الفائتة أنّه حتى في مواجهة تحدّيات استثنائية يمكن تحقيق التقدّم. فقد أظهر السوريون صموداً لافتاً وانضباطاً ورغبةً لا تتزعزع في مستقبل أفضل. وبالاستمرار في النهج البراغماتي والعمل الجاد وبدعم المجتمع الدولي، يمكن لسوريا أن تحوّل تعافيها الهشّ إلى تجدّد مستدام. إنّ البلاد تنهض ببطء وثبات، وتبني مستقبلاً جديداً وفق شروطها الخاصة.