منذ جولة الرئيس دونالد ترامب في منطقة الخليج في منتصف مايو، شهدت العلاقات الأمريكية السورية تطوّرات كبيرة. فقد رفعت واشنطن بعضاً من أشدّ عقوباتها التي كانت تشلّ سوريا، وعيّنت مبعوثاً أمريكياً خاصاً لدى دمشق، كما التقى ترامب بالرئيس السوري أحمد الشرع في الرياض، وأُعيد افتتاح مقرّ إقامة السفير الأمريكي في دمشق، وهو ما يعكس واقعاً جديداً في مسار العلاقات الثنائية وذلك بعد مضي أكثر من ستة أشهر على سقوط بشار الأسد.
أما بالنسبة إلى موسكو، التي ضخّت موارد عسكرية ومالية ودبلوماسية كبيرة لدعم حكم عائلة الأسد على مدى سنوات، فإنّ موجة التطبيع المتسارعة تحمل في طيّاتها تداعيات إستراتيجية عميقة. إذ يهدّد التحوّل في موقف واشنطن وعواصم غربية أخرى نحو سياسة أكثر تصالحاً مع حكومة الشرع بتقويض مكاسب موسكو الراسخة في سوريا، وقد يمتد أثره إلى بقية منطقة المشرق. كما قد يؤدّي تعزيز التقارب الغربي مع دمشق إلى تقليص نفوذ موسكو، مع ما قد يترتب على ذلك من تداعيات بعيدة المدى على وضعها العسكري في الشرق الأوسط وأجزاء من أفريقيا.
وليست الولايات المتّحدة وحدها من يقيم علاقات ودّية مع النظام الجديد في دمشق، فالمملكة المتّحدة ودول أعضاء في الاتحاد الأوروبي، بل والاتحاد نفسه يسيرون في الاتجاه نفسه، من خلال إقامة علاقات جديدة مع سوريا ما بعد الأسد. فقد بدأت لندن التواصل الدبلوماسي مع حكومة الشرع وقدّمت مساعدات إنسانية. وفي مارس، رفعت العقوبات عن البنك المركزي السوري وقطاع النفط تمهيداً لتعزيز التقارب مع دمشق، ثمّ أزالت العقوبات عن أبرز الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في الشهر التالي.
وفي فبراير الماضي، بات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أول زعيم غربي يتحدّث هاتفياً مع الشرع، متناولاً قضايا الإرهاب وتطلّعات الشعب السوري، متعهّداً برفع العقوبات أيضاً. وفي مايو، أصبحت فرنسا أول دولة أوروبية تستضيف الرئيس السوري الجديد، ما يبرز طموحها في تأدية دور قناة دبلوماسية بين دمشق والعالم.
بدورها، أرسلت إيطاليا وزير خارجيتها، أنطونيو تاجاني، إلى دمشق بعد نحو شهر من سقوط الأسد، للقاء الشرع ووزير الخارجية السوري أسعد حسن الشيباني، الذي زار روما لاحقاً بعد مشاركته في مؤتمر للمانحين بشأن سوريا في بروكسل. وقد شدّد تاجاني على سعي إيطاليا لتأدية دور حلقة الوصل بين دمشق والاتحاد الأوروبي، الذي بادر برفع العقوبات عن سوريا في فبراير قبل أن يزيل معظمها في مايو.
تتوافر أمام حكومة الشرع فرص ثمينة لاستثمار الزخم الدبلوماسي المتنامي مع الولايات المتّحدة والمملكة المتّحدة والاتحاد الأوروبي. وتشير هذه التحوّلات المتسارعة إلى أنّ سوريا ما بعد الأسد ستتجه على الأرجح نحو تعزيز روابطها مع دول مجلس التعاون الخليجي وتركيا والغرب.
إعادة توجيه روسيا
سيكون لهذا التحوّل تداعيات مهمّة على روسيا. فقد مثّل انهيار نظام الأسد في ديسمبر 2024 هزيمة مهينة لموسكو وتحدّياً كبيراً لسياستها الخارجية، ليس في الشرق الأوسط فحسب، بل على الصعيد العالمي أيضاً. ولقد أثار سقوط الأسد الشكوك بشأن مكانة روسيا كقوّة عالمية صاعدة قادرة أن تقوم بدور ضامن موثوق للأمن لدول الشرق الأوسط.
وفي المقابل، وبالنظر إلى التوتّرات التاريخية بين هيئة تحرير الشام وغيرها من المجموعات المعارضة للأسد من جهة، وروسيا الحليف الأبرز للنظام السابق من جهة أخرى، كان من الطبيعي توقّع أنّ تترك مشاعر العداء الشديد تجاه موسكو أثراً قوياً على السياسة في سوريا ما بعد تغيير النظام.
ومع ذلك، لم يتوان المسؤولون الروس عن اتّخاذ خطوات حثيثة نحو إقامة شراكة مع حكومة الشرع، التي أبدت من جهتها استعداداً للانفتاح عليها، انطلاقاً من البراغماتية ذاتها التي ميّزت مقاربة الكرملين في الحوار مع الثوّار الإسلاميين السنّة الذين تبوؤا السلطة وسدّة الحكم في سوريا.
حتى في الأشهر الأولى التي تلت الإطاحة بالأسد، ومع إصرار الولايات المتّحدة وسائر القوى الغربية على الإبقاء على العقوبات المفروضة منذ عهد الأسد، رأى المحلّلون أنّ السلطات الجديدة في دمشق ستجد نفسها مدفوعة للتقارب مع داعم خصمها السابق والارتماء في حضنه. ومن منظور الكرملين، أتاح استمرار العقوبات الأمريكية الصارمة عقب انهيار النظام السابق فرصة استثنائية لروسيا كي تحافظ على موطئ قدم راسخ في سوريا وممارسة قدراً من النفوذ على النظام السياسي في مرحلة ما بعد الأسد.
في أواخر يناير الماضي، زار وفد رفيع المستوى برئاسة نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف سوريا في إطار مساعي موسكو لتعزيز نفوذها في سوريا ما بعد سقوط نظام البعث. ثم في 12 فبراير، أجرى الشرع أول اتصال هاتفي له مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي تعهّد بأن تدعم موسكو وحدة الأراضي السورية وصون تماسكها الوطني.
وفي الأشهر التي أعقبت سقوط النظام، سارعت روسيا في إرسال شحنات نقدية إلى سوريا، ما منح هذا البلد الذي مزّقته الحرب متنفساً حيوياً في مواجهة أزمة نقص العملة، وقدّمت مساعدات من الوقود والقمح. كما أعربت عن استعدادها للمشاركة في جهود إعادة الإعمار، ما أبرز قدرتها على المناورة في سوريا ما بعد الأسد بطرق يتعذّر على حلفاء الولايات المتّحدة وشركائها في المنطقة اتّباعها بسبب العقوبات الثانوية التي تفرضها واشنطن.
هل تبقى في سوريا؟
في ظلّ هذا المشهد المتغيّر، من المرجّح أن تنظر موسكو بعين الريبة والحذر إلى انخراط إدارة ترامب في الشأن السوري. وستحتاج روسيا إلى إعادة صياغة مقاربتها، حفاظاً على مصالحها ومواكبة التيارات الجيوسياسية المتغيرة التي تدفع حكام سوريا الجدد نحو التقارب مع الغرب. ومع ذلك، من المتوقّع أن تتجنّب دمشق قطع علاقاتها نهائياً مع موسكو، حتى وهي تعيد بناء علاقاتها مع خصوم الكرملين. لا تزال لدى روسيا أوراق قوّة، ومن الصعب على دمشق أن تتجاهلها، لا سيّما في ظلّ استمرار الغموض الذي يكتنف مستقبل علاقات سوريا مع الغرب.
على الصعيد الأمني، تحتفظ روسيا بقاعدتين عسكريتين في طرطوس وحميميم، وتسعى إلى الإبقاء عليهما حتى في الوقت الذي تسحب فيه إدارة ترامب قوّاتها من البلاد. وفي ظلّ ما قد تشهده البلاد من تحدّيات أمنية مستقبلية، يمكن لروسيا أن تضطلع بدور فعّال في ملفات أمنية لن تتدخل فيها الولايات المتّحدة، خصوصاً إذا عاد تنظيم الدلوة الإسلامية في العراق وسوريا (داعش) ليشكّل تهديداً متجدّداً.
وقد ترى روسيا فرصاً اقتصادية واعدة في سوريا. فعلى الرغم من رفع معظم العقوبات الغربية عن سوريا، إلّا أنّه لا يزال من المبكر الحكم على حجم الاستثمارات الأمريكية والأوروبية التي قد تتدفق إلى هذا البلد المنهك بالحرب. إذ لا تزال هناك مخاطر من «الامتثال المفرط» لدى الكيانات الغربية، ولا سيّما البنوك، بسبب العقوبات التي لم تُرفع بعد عن سوريا. كما قد يؤدّي انعدام الأمن وغياب نظام مالي شفاف وفعّال في سوريا إلى تردّد رجال الأعمال والمستثمرين الغربيين في ضخّ استثماراتهم داخل البلاد. وفي حال عجزت الحكومات والشركات والمستثمرون الغربيون عن تلبية احتياجات دمشق، فقد تجد موسكو الفرصة سانحة لسدّ هذا الفراغ. كما تستطيع أن توظّف مكانتها كمورّد رئيس للنفط إلى سوريا منذ سقوط النظام السابق أواخر العام الماضي، لتعزيز روابطها مع دمشق والحفاظ على مكانتها ضمن دائرة نفوذها.
ومن المرجّح أن يرى صانعو القرار في الحكومة الجديدة مخاطر في الاعتماد على ترامب، نظراً لسياساته المتقلّبة التي قد تؤدّي إلى تحوّل مفاجئ في موقف واشنطن تجاه سوريا. كذلك، من الصعب التنبؤ بكيفية تعامل من خليفة ترامب مع «سوريا الجديدة».
وإذا تراجع اهتمام الولايات المتّحدة والمملكة المتّحدة والاتحاد الأوروبي بسوريا، أو أعادت القوى الغربية تقييم دعمها للشرع واعتبرته خياراً خاطئاً ، أو نجحت الفصائل المتطرّفة في إسقاط النظام الحالي، فقد يسارع ترامب والقادة الأوروبيون إلى النأي بأنفسهم عن دمشق. وتُبرز هذه السيناريوهات بوضوح السبب الذي يدفع دمشق إلى تجنّب قطع علاقاتها مع موسكو بالكامل لصالح الاصطفاف التام مع الغرب، على الرغم من الإشارات المشجّعة التي تتلقاها حالياً من واشنطن وبعض العواصم الأوروبية الرئيسة.
وتُعدّ مسألة طباعة العملة السورية من القضايا ذات الدلالة الرمزية البالغة. فطوال سنوات الحرب، كانت الليرات السورية تُطبع في روسيا، أمّا اليوم فتُجرى مناقشات بشأن إمكانية تولّي ألمانيا والإمارات العربية المتّحدة هذه المهمة. ويعتبر هذا التحوّل مؤشراً على ابتعاد سوريا عن موسكو وتقاربها مع الخليج والغرب.
وفي المستقبل، من المرجّح أن تُعطي القوى الغربية أولوية للحدّ من النفوذ الروسي في سوريا بعد تغيير النظام. وبينما تسعى حكومة الشرع إلى إقامة شراكات مع الولايات المتّحدة والمملكة المتّحدة والاتحاد الأوروبي، مع تجنّب القطيعة مع موسكو، سيتعيّن على دمشق أن تتعامل بحذر مع المخاطر والفرص التي يفرضها التنافس الروسي الغربي على النفوذ في سوريا.