للمرة الأولى منذ ولادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، يجد النظام الإيراني نفسه غارقاً في أزمة وجودية في مواجهة احتجاجات شعبية تهدّد بإسقاطه. لقد أشعل مقتل الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني على يدّ السلطات غضب الإيرانيين من جميع الخلفيّات، فنزلوا إلى الشوارع وتظاهروا وسط أزمة اقتصادية مستمرّة ومجموعة من التحدّيات الخارجية التي يواجهها النظام. وتشمل هذه التحديات الفشل في التوصّل إلى اتفاق مع الولايات المتّحدة بشأن طموحات طهران النووية، والعقوبات الأمريكية المستمرّة، وهشاشة وكلاء إيران في الشرق الأوسط. يبحث الزملاء من مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية في الآثار المُترتبة على هذه التحديات المتداخلة، وخصوصاً انعكاسات الاحتجاجات الشعبية لتقييم الآفاق الفورية والطويلة الأجل للجمهورية الإسلامية وعلاقتها مع المجتمع الدولي.
المتظاهرون الإيرانيون يخرجون من قعرِ مظالم عميقٍ
تشهد إيران منذ أشهر احتجاجات مستمرّة على مستوى البلاد، والتي لا يمكن إلّا أن تكون مدفوعة بامتعاضٍ عميق وغضبٍ محقونٍ من النظام السياسي السائد. يخاطر إيرانيون من مختلف الأطياف بحياتهم سعياً وراء تغيير حقيقي، ويواجهون قمعاً عنيفاً لاطالما اتّسم به النظام الإيراني المُهدَّد ببقائه، تخلّله الإعدامات العلنية الأخيرة لاثنين من المتظاهرين بتهمة “شنّ حربٍ على الله”.
من غير المُفاجئ أن تكون اللاعدالة الصارخة الدافع وراء هذه التحرّكات الشعبية. لقد أعطى مقتل مهسا أميني – وهي امرأة كردية إيرانية كانت ترتدي الحجاب بما لا يتوافق مع الأنظمة الإيرانية – شكلاً وأسلوباً ورمزية قوّية للاحتجاجات. لكن وراء هذه الاحتجاجات بئرٌ عميق من المظالم التي خلّفتها عقود من الاستياء الشعبي إزاء الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. ببساطة، لم يلبِّ هذا النظام احتياجات شعبه وتطلّعاته. عدا أن الطبيعة الرقابية للسياسة الإيرانية حالت دون تحقيق أي إصلاحات حقيقية. وأسوة بكلّ الحكومات الاستبدادية، يشكّل هذا التزمُّت الهيكلي مصدر ضعفها.
مع ذلك، من الصعب رؤية النظام الإيراني ينهار بسهولة على الرغم من عدم استحالة الأمر. فالجمهورية الإسلامية مُتجذّرة بعمقٍ، ولديها تشبيكات مع أطراف متعدّدين، وهي تقاتل منذ نشأتها في مواجهة الجهود الكبيرة لتقويضها. اعتاد النظام على النجاة ببراعة، وهو لن يرضخ للضغوط الخارجية للتنحّي، كما حدث مع حسني مبارك في مصر مثلاً، ويمارس قمعاً عنيفاً ضدّ المعارضة الداخلية كما أظهر مرّات عدّة في الماضي. مع ذلك، توجِّه الاحتجاجات الشعبية في إيران تحذيراً حادّاً للعديد من الأنظمة في المنطقة (وخارجها)، فعلى الرغم من قمع ثورات الربيع العربي، إلّا أنّ الظروف الأساسية التي أدّت إلى ظهورها لا تزال قائمة وتشكّل عاملاً مُحرِّضاً على الاضطرابات.
الاحتجاجات في إيران لطالما أنذرت العالم العربي
بالنسبة للعالم العربي، تُعتبر الاحتجاجات الإيرانية المستمرّة تذكيراً بالدور الأساسي للمظالم السياسية والاجتماعية والاقتصادية في إثارة الاضطرابات الشعبية. كانت الاحتجاجات الإيرانية، أقلّه لمرّتين في خلال العقد الماضي، مقدّمة للتعبئة الجماهيرية في المنطقة؛ في العام 2009 قبل الربيع العربي، وفي العام 2017 قبل اندلاع ما يُعرف بالموجة الثانية من الربيع العربي. وفي حين تختلف العوامل المؤدّية إلى كلّ موجة من الاحتجاجات في إيران والبلدان العربية، كان تراكم الضغوط الاقتصادية، سواء من الصدمات الخارجية أو سوء الإدارة الحكومية، الدافع المشترك في كلتا الحالتين. وبعد أن تكبّد المواطنون في جميع أنحاء الشرق الأوسط أوضاعاً اقتصادية صعبة في خلال فترة تفشّي جائحة فيروس كورونا المستجدّ، كانوا يتطلّعون إلى التعافي بعد انكفائها، لكنّهم بدلاً من ذلك، واجهوا ارتفاعات هائلة في أسعار السلع الأساسية، التي أدّت بدورها إلى تفاقم مشكلة انعدام الأمن الغذائي المتزايدة. والأسوأ أنه من المتوقّع أن يزداد الاضطراب الاقتصادي العالمي عمقاً في الفترة المقبلة، فيما لا تملك الحكومات المأزومة مالياً سوى مساحة محدودة لتخفيف الأثر.
الاحتجاجات في إيران تعلو فوق السياسات العرقية
يواجه النظام في إيران تحدّياً وجودياً قد يطيح بالحكام الدينيين للمرّة الأولى منذ ولادة الجمهورية الإسلامية عام 1979. وفيما أطلق مقتل مهسا أميني، الشابة الكردية البالغة من العمر 22 عاماً، وهي قيد الاحتجاز من قبل الشرطة الإيرانية شرارة الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد، إلّا أنّها جاءت بعد سنوات، إن لم يكن عقوداً، من الاستياء الشعبي ضدّ النظام نتيجة الممارسات القمعية وانتهاكات حقوق الإنسان، عدا عن سوء إدارة الاقتصاد والسياسات التوسّعية في الشرق الأوسط الكبير.
اعتاد النظام الإيراني على الاحتجاجات الشعبية، إذ شهدت البلاد موجة من الاحتجاجات على الأقل سنوياً منذ العام 2017. مع ذلك، وعلى عكس تلك الثورات الماضية، قد تؤدّي الثورة الحالية إلى تفكيك النظام بأكمله، وقد يكون لها تداعيات بعيدة المدى على المنطقة بأكملها. ونظراً لنشر إيران وكلاء لها في العالم العربي، وتورّطها في معظم الصراعات الرئيسية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، سيكون سقوط النظام مؤثّراً في كلّ مكان.
لكن في المقابل، قد يؤدّي بقاء النظام إلى تصعيد حملات القمع العنيفة ضدّ قادة هذه الاحتجاجات والمجتمعات الضعيفة مثل النساء والأقليات العرقية أو الدينية، وعلى الأرجع ضدّ الأكراد الذين يتّهمهم النظام بإثارة الاضطرابات. وتماشياً مع هذه الرواية، وكذريعة للقمع في الداخل، شنّ النظام هجمات صاروخية على إقليم كردستان العراق ضدّ قواعد المعارضة الكردية المزعومة. لا شكّ أنّ مقتل مهسا أميني الوحشي قد أطلق الشرارة الثورية في نفوس السكّان الأكراد المضطهدين منذ فترة طويلة في إيران، لكنّه أصبح أيضاً رمزاً يتجاوز القضية الكردية في إيران ليضرب قلب النظام السياسي والأيديولوجي للجمهورية الإسلامية.
المجتمع الدولي عليه مساعدة إيران في تحقيق المساءلة
لاطالما قام الإيرانيون، رجالاً ونساءً، ضدّ حكومتهم ونظّموا التظاهرات والاحتجاجات التي نتج عنها تغييرات كبيرة، وباتت تشكّل شكلاً حقيقياً لمقاومة ممارسات الحكومة الإيرانية التي أثّرت سلباً في الرفاه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للشعب الإيراني. إلّا أنّ مممارسات النظام الاستبدادية وتسييس المؤسّسات القضائية تجعل من محاسبة المسؤولين عن هذه المظالم في النظام الإيراني أمراً شبه مستحيل.
بالتالي، تصبح السبل الدولية الإضافية التي تكمّل جهود الإيرانيين حاسمة، لا سيّما تلك التي تسعى إلى تحقيق المساءلة الجنائية. في الواقع، يشكّل غياب المساءلة أحد أسباب تجرّؤ الأنظمة القمعية – ومن ضمنها النظام الإيراني – على الاستمرار في سياساتها الهدّامة. في وقت سابق من هذا العام، أصدرت محكمة سويدية حكماً بالسجن المؤبّد على المسؤول الإيراني السابق، حميد نوري، على خلفية مشاركته في الإعدامات الجماعية عام 1988 ضدّ معارضين سياسيين إيرانيين. وقد شكّل ذلك تطوّراً مهمّاً، كونها المرّة الأولى التي يُحاكم فيها مسؤول إيراني لارتكابه انتهاكات خطيرة للقانون الدولي. وعلى خلفيتها يخضع الرئيس الإيراني الحالي، إبراهيم رئيسي، لمزيد من التحقيقات بسبب دوره في الإشراف على تلك الإعدامات عندما كان قاضياً في المحاكم السرّية المعروفة بـ “لجان الموت”.
إنّ استمرار هذه الجهود القانونية لمحاسبة المسؤولين الإيرانيين النافذين، السابقين والحاليين، عن دورهم في المظالم التي تعرّض لها الشعب الإيراني يبعث برسالتين مهمّتين: أوّلهما، تضعف هذه الجهود قدرة مسؤولي النظام على الإفلات بالكامل من العقاب عن الجرائم الفظيعة التي ارتكبوها. ثانياً، تشكّل ممارسات التقاضي الاستراتيجي التي يقودها الإيرانيون وشركاؤهم الدوليون شكلاً ملموساً من أشكال التضامن في السعي لتحقيق العدالة. وبينما يواصل الإيرانيون المقاومة والمطالبة بالتحرّر من الحكم القمعي في شوارع إيران، تشكّل جهود المساءلة طريقة متواضعة ولكن مهمّة يعبّر من خلالها حلفاؤهم الدوليون عن دعم قضيتهم.
الاحتجاجات تعمّق الخلافات بين المفاوضين في الملف النووي
أصبحت الاحتجاجات المستمرّة في إيران عاملاً مهمّاً في علاقات طهران وأهدافها السياسية الخارجية، لا سيّما المفاوضات القائمة لإحياء اتفاقها النووي مع مجموعة 5 + 1. لطالما كانت هذه المفاوضات محفوفة بصعوبات نتيجة السياسات الداخلية في البلدان المعنيّة، إلّا أنّ الاحتجاجات الأخيرة تسبّبت بالمزيد من التبادلات الحادّة بين طهران والعواصم الغربية. وفي هذا السياق، يصبح من الصعب على أعضاء مجموعة 5 + 1 الانخراط مع طهران في جهود قد تؤدّي في النهاية إلى مكافأة النظام عبر رفع العقوبات عن البلاد. بالإضافة إلى ذلك، من المحتمل أن يكون الانتقاد الغربي لممارسات النظام ضدّ المحتجين قد أدّى إلى تعميق خوف النخبة الحاكمة المُحافظة في إيران وتوسيع الشرخ بين طرفي الاتفاق النووي.
فضلاً عن ذلك، من المُرجّح أن يُسرّ العديد من الدول الخليجية وإسرائيل بالاحتجاجات المُناهضة للنظام التي تهزّ إيران وتعمّق أزمة شرعيّته، إلّا أنّ ما يكترسون له فعلياً هو احتمال إضعاف النظام وليس تقوية الشعب الإيراني. وفي حين لا تزال ذكريات ثورات الربيع العربي حيّة، يرتعد العديد من الحكومات الإقليمية من فكرة إقدام الشعوب الغاضبة على الإطاحة بالأنظمة الحالية. وفي ظلّ حاجة طهران إلى صرف الانتباه عن مشاكلها الداخلية، من المُحتمل أن تصبح حكومتها أكثر عدوانية وحزماً في سياستها الإقليمية.