أصدرت محكمة تونسية في الخامس من أغسطس أحكاماً بحقّ أربعة مرشّحين محتملين للانتخابات الرئاسية بتهمة شراء التزكيات، وحظرت مشاركتهم في الانتخابات المقبلة المزمع إجراؤها في السادس من أكتوبر المقبل. ومن بين هؤلاء كان عبد اللطيف مكي، السياسي البارز والقيادي السابق في حركة النهضة ونزار الشعري، الناشط ومقدّم البرامج التلفزيونية. إلى ذلك حُكم على المرشّحة الرئاسية المعارضة عبير موسي التي تقبع خلف القضبان منذ أكتوبر 2023 بالسجن لمدّة عامين إضافييّن بتهمة الإساءة للهيئة العليا المستقلّة للانتخابات. وكان عدد من السياسيين الآخرين الذين أعلنوا عزمهم الترشّح للانتخابات الرئاسية قد اعتُقلوا في خلال الأشهر الماضية بتهم فساد مختلفة. ويرى المنتقدون أنّ سلسلة الاعتقالات تأتي في إطار حملة منسّقة تهدف للتصدّي لأيّ منافسة جدّية قد يواجهها الرئيس الحالي قيس سعيد الذي صدف أنّ قدّم ترشيحه الرسمي للانتخابات في نفس يوم استبعاد منافسيه الأربعة من السباق.
بعد بضعة أيام على ذلك، أعلنت الهيئة المستقلّة العليا للانتخابات في تونس عن قائمة أوليّة بأسماء المرشّحين المقبولين للانتخابات. وأفادت الهيئة أنّ من أصل 17 مرشحاً، لم يستوفِ إلّا ثلاثة فقط الشروط القانونية والرسمية، من ضمنهم الرئيس نفسه، إلى جانب رئيس حركة “عازمون” رجل الأعمال العياشي زمال، وأمين عام حزب حركة الشعب زهير المغزاوي.
وفيما اشتكى عدد من المرشّحين من تمنّع وزارة الداخلية عن تزويدهم ببطاقات السوابق العدلية التي تعدّ شرطاً أساسياً للترشّح للانتخابات، إلى جانب جمع العدد اللازم من التزكيات، أكّدت الهيئة أنّ قرارات الرفض كافّة كانت بسبب عدم استيفاء شرط التزكيات، أو في حالة أحد المرشحين المرفوضين بسبب عدم استيفائه شرط الجنسية.
تسييس مكافحة الفساد
المفارقة أنّ سعيد كان قد ركّز في خلال حملاته الانتخابية منذ ترشّحه للرئاسة أوّل مرّة في العام 2019 على قضايا مكافحة الفساد. وحمّل في حينها من وصفهم بالنخبة الفاسدة مسؤولية التدهور الاقتصادي، متعهّداً بمكافحة الفساد حتى “اجتثاثه” من جذوره. ولكن فيما تشارف فترته الرئاسية الأولى على الانتهاء، لم يَظهر بعد أي تقدّم ملموس على صعيد مكافحة الفساد الذي لا يزال مستشرياً في تونس، في حين يبدو أنّ جهود مكافحة الفساد وكأنها تُستغل من أجل الدعاية السياسية والتضييق على المعارضين.
في هذا الإطار، سجّلت تونس تراجعاً متواصلاً في تصنيفها على مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية منذ عام 2021. وبحلول عام 2023، تراجعت إلى المركز 87 من أصل 180 دولة، بعد أن كانت تحتلّ المرتبة 70 قبل سنتين. كما ارتفع تصوّر الرأي العام لمستوى الفساد في البلاد، إذ أبدى 90 في المائة من التونسيين المشاركين في استطلاع أجراه مؤخراً “الباروميتر العربي” عن قناعتهم بتفشي الفساد في مؤسسات الدولة العامة.
وهذا ليس بمفاجئ، نظراً لأنّ جهود مكافحة الفساد كانت متعثّرة. فقرار سعيد بتعليق عمل البرلمان لحوالي 20 شهراً عام 2021 أعاق تطبيق عدد من تشريعات مكافحة الفساد، وشكّل انتكاسة كبرى لمسار المساءلة. وفي العام 2022، حلّ سعيد المجلس الأعلى للقضاء، وترافق معه تضييق على القضاة بشكل عام على خلفية اتهامات بالفساد وعرقلة العدالة ما أسفر عن تقويض جهود مكافحة الفساد بسبب زعزعة الثقة بنزاهة المؤسّسة القضائية وفعّاليتها. كما علّق الرئيس عمل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، ما شلّ إلى حدّ كبير الجهود المبذولة في هذا السياق نتيجة تعرقل التحقيقات الجارية وحرمان المبلّغين عن الفساد من الحماية، ما أثبط عزيمة المواطنين على التبليغ.
ورغم أنّ سعيد جعل الصلح الجزائي محور حملته لمكافحة الفساد، إلّا أنّ جهود استعادة الأصول الناتجة عن الأنشطة غير المشروعة لم تحقّق النتائج المرجوة بعد. إذ كان قد وعد باستعادة أصول وأموال منهوبة تُقدر بنحو 13,5 مليار دينار تونسي (نحو 4,3 مليار دولار) من رجال الأعمال الفاسدين، ليُعاد استثمارها في مشاريع تنموية مقابل منحهم الحصانة، إلّا أنّ عائدات الصلح لم تتخطَّ 26 مليون دينار (نحو 8,5 مليون دولار).
عوض ذلك، يبدو أنّ جهود مكافحة الفساد تحوّلت إلى سلسلة من الاعتقالات والمحاكمات الموجّهة التي تستهدف في الغالب المعارضين السياسيين. فقد شهدت البلاد موجة من الاعتقالات طالت عدداً من الشخصيات العامة، بما في ذلك معارضين سياسيين وقضاة وصحفيين ورجال أعمال، فيما ازدادت حدّة الاعتقالات مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية. وكان قد ألقي مؤخّراً القبض على القيادي المعارض لطفي المرايحي بتهمة غسيل الأموال، وصدر حكم بسجنه لمدة ثمانية أشهر ومنعه من الترشّح للرئاسة مدى الحياة على خلفية اتهامه بشراء التزكيات.
هل حملة التضييق على المعارضة ضرورية؟
لا يزال سعيد يحظى بشعبية واسعة في تونس بحسب أحدث استطلاع رأي أجراه “الباروميتر العربي”، ما يثير تساؤلات حول إذا ما كانت هذه الاعتقالات السياسية ضرورية أصلاً لضمان إعادة انتخابه. فعلى الرغم من تراجع مستوى تأييد سعيد بشكل طفيف منذ نهاية عام 2021، فإنّ 77 في المائة من المشاركين في استطلاع الرأي الذي أجري في نهاية عام 2023 أعربوا عن ثقتهم به “لدرجة كبيرة أو كبيرة جداً”. ولا يزال الرئيس سعيد يتمتّع بأعلى مستوى من الثقة مقارنةً بالجهات السياسية الأخرى كافة، حتى أنّ غالبية عظمى تبلغ 91 في المئة من التونسيين أبدت دعمها لتعليقه عمل البرلمان في العام 2021، وذلك على الرغم من اعتبار منتقديه هذا الإجراء أولى خطوات إحكام قبضته على السلطة.
مع توجيه معظم الموارد والجهود نحو الاعتقالات السياسية وأجندة مكافحة الفساد، تبقى القضايا الاقتصادية والاجتماعية الملحّة من دون حلّ. وربما كانت هذه الغاية من التضييق على المعارضة. فلعلّ الرئيس أطلق حملة مكافحة الفساد من أجل صرف الأنظار عن عدم تحسّن الأوضاع الاقتصادية في ظلّ استمرار الركود وارتفاع معدّلات البطالة ومعدّلات التضخم. إذ يعتبر التونسيون الوضع الاقتصادي التحدّي الأكبر الذي تواجهه البلاد، ويرون أنّ أداء بلادهم الاقتصادي أسوأ ممّا كان عليه عند تولي سعيد منصبه. وفي ظلّ ارتفاع الأسعار وغياب الفرص الاقتصادية، يعاني أكثر من ربع التونسيين الجوع والانعدام الحاد للأمن الغذائي.
بالإضافة إلى فشل الحكومة الحالية في معالجة التحديات الاجتماعية والاقتصادية الملحّة، فهي لم تفلح أيضاً في خفض العجز العام. فقد بلغ العجز المالي السنوي ذروته في العام 2020، واستمرّ الدين العام في الارتفاع، ليستقر عند نحو 80 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي على مدى السنوات الأربعة الأخيرة من حكم سعيد. ومع تراكم المتأخّرات وتزايد عبء الديون، اضطرّت السلطات لقبول قرض إنقاذ بقيمة 1,9 مليار دولار من صندوق النقد الدولي، مقابل تقليصات حادّة في الإنفاق وإصلاحات مالية. إلّا أنّ سعيد رفض الاتفاق، واصفاً الإجراءات بـ “الإملاءات الخارجية”، خاصة في ما يتعلّق بإلغاء الدعم الذي من شأنه مفاقمة الفقر وانعدام المساواة. وهو رأي يؤيّده أيضاً عدد من الخبراء الاقتصاديين.
في غضون ذلك، تستمرّ الأوضاع الاجتماعية الاقتصادية المتردّية في دفع المزيد من التونسيين نحو البحر، متحدّيين الخطر في مسعى لبلوغ الشواطئ الأوروبية على متن قوارب الهجرة غير الشرعية. وقد أعرب نحو 46 في المئة من الأشخاص الذين شملهم استطلاع الباروميتر العربي، سواء من الرجال أو النساء، عن رغبتهم في مغادرة البلاد بطريقة أو بأخرى، بارتفاع يزيد عن الضعفين مقارنة بالمعدّلات المسجّلة عام 2011.
روايتان متناقضتان
فيما تستمرّ استطلاعات الرأي في إظهار دعم قوّي لسعيد ولأجندة مكافحة الفساد التي يتبنّاها، فإنّ رغبة معظم التونسيين بمغادرة بلادهم تروي قصّة مختلفة. ففي حين يرى كثيرون أنّ الفساد يكمن في صلب المشكلات الاقتصادية، لا يعتقد الكثير منهم أنّ سعيد قادر على اجتراح حلول جذرية لذلك.
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفيها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.