حقّق باسيرو ديوماي فاي انتصاراً مدوّياً في الانتخابات الرئاسية السنغالية، ما يمنحه تفويضاً قوياً بمواصلة التدابير ضد الفساد وتعزيز الإدماج الاقتصادي. لكن قبل الإيفاء بوعود الحملة الانتخابية، ينبغي عليه أوّلاً أن يُعزّز المؤسّسات الديمقراطية والنظام في الدولة.
على الرغم من أنّ إجمالي الناتج المحلي في السنغال متواضع جداً مقارنةً بإجمالي الناتج المحلي في نيجيريا العملاقة في غرب أفريقيا، إلّا أنّ هذا البلد الصغير الذي يتمتّع باقتصادٍ مفتوح يؤدّي دوراً أكبر من حجمه على نطاق القارة بصفته “ديمقراطية في طور النضوج”. يتباهى السنغاليون بكونهم لم يتعرّضوا يوماً لانقلابٍ منذ نيلهم الاستقلال عن فرنسا في العام 1960. ويتناقض ذلك بشكلٍ صارخ مع سائر المنطقة، حيث أُطيح بحكومات غينيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر والغابون في السنوات القليلة الماضية ليس إلّا.
لا شكّ في أنّ البلاد شهدت عمليّات انتقال للسلطة محفوفة بالمخاطر وغيرها من الصعوبات المرتبطة بذلك، ليس أقلّها في عهد الرئيس السنغالي المنتهية ولايته ماكي سال، الذي لم يفصح لمدة طويلة عمّا إذا كان سيترشّح مجدّداً، في انتهاكٍ لحدود الولاية الدستورية. أعلن في نهاية المطاف تحت ضغوط متزايدة من المتظاهرين في الشوارع أنّه لن يسعى إلى ولايةٍ أخرى – لكنه شرع بعد ذلك في تأجيل الانتخابات إلى ما بعد انقضاء ولايته بكثير.
إثر مقتل الكثير من المتظاهرين وحوادث أخرى، أجرت السنغال أخيراً انتخابات في 24 مارس، ويعود الفضل إلى حدّ كبير إلى حكمٍ صادر عن المحكمة الدستورية بإبطال محاولة سال تمديد ولايته. انتُخب الرئيس باسيرو ديوماي فاي، مفتّش الضرائب السابق الذي كان في السجن قبل أيام قليلة من الانتخابات إلى جانب مرشده عثمان سونكو. وكان سونكو قد مُنع من الترشّح وحُلّ حزبه “وطنيّو السنغال من أجل العمل والأخلاق والأخوّة” في خلال الصيف الماضي.
ترشّح فاي (كمستقل) وفقاً لبرنامجٍ يرمي إلى محاربة الفساد وتعزيز السيادة الاقتصادية، وهي أجندة يتردّد صداها لدى أغلبيةٍ ساحقة من الشباب الذين تُذكّر وطنيّتُهم بحقبة ما بعد الاستقلال. يرى عددٌ من المجتمعات الأفريقية في البيئة الجيوسياسية المتطوّرة بسرعة حالياً فرصةً لتحقيق مصالحها بحزمٍ أكبر. يشعر الشباب السنغالي، شأنهم شأن الكثير من الأفارقة، بالاستياء إزاء القادة الذين أثبتوا عدم قدرتهم أو عدم رغبتهم في التركيز على الأولويات المحليّة والذين تورّطوا بشكلٍ متزايد في المصالح التجارية.
في جميع أنحاء القارة، أدّى التحرير الاقتصادي، الذي غالباً ما روّجت له المنظمات الدولية بغية التشجيع على الاستثمار، إلى نتائج عكسية لأنّ ضعف قواعد مكافحة الفساد سمح برعاية التواطؤ الواسع النطاق بين السياسيين والشركات الأجنبية. وبجسب بيانات شبكة البحوث “Afrobarometer” للعام 2022، يعتقد 73 في المئة من السنغاليين أنّ الفساد ازداد في خلال الأشهر الـ12 الماضية.
لمعرفة ما يراه الأفارقة، لا بدّ من النظر إلى اكتشاف شركة “بريتيش بتروليوم” عام 2017 للاحتياطيات الكبيرة من النفط والغاز قبالة ساحل السنغال. في البدء، أمل الكثيرون بأن تؤدّي هذه الثروة إلى تحوّلٍ اقتصادي وطني. بيد أنّ المشروع شهد منذ ذلك الحين فترات من التأخير ومن فضائح الفساد والمخاوف بشأن التدهور البيئي. كذلك، فشلت سياسات التحرير المتعلّقة بمصائد الأسماك في السنغال في تحقيق الإدماج الاقتصادي. عوضاً عن ذلك، أفلتت الشركات الكبيرة من العقاب للصيد الجائر خلافاً للسنغاليين العاديين الذين دفعوا الثمن.
في الواقع، على الرغم من البيانات الأخيرة التي تشير إلى آفاق واعدة للنمو الاقتصادي وإلى تراجعٍ بارز للفقر المدقع وزيادة مستمرّة في الوصول إلى الكهرباء، بات جيل الشباب السنغالي يُشكّل حصّة متنامية من المهاجرين غير المسجّلين الذين يخاطرون بحياتهم للوصول إلى أوروبا (غالباً عن طريق جزر الكناري).
ويتجلّى هذا التباين بين تحسّن الآفاق الاقتصادية والمفاهيم السلبية في أماكن أخرى من أفريقيا أيضاً. في الواقع، يتميّز جيلُ الشباب المتعلّم بشكلٍ متزايد والمتّصل بوسائل التواصل الاجتماعي عن الأجيال السابقة بتطلّعات أعلى، ويُطالب القادة السياسيين بالمزيد. ومع ذلك، قد تخفي الأرقام الإجمالية مسائل مثل الخدمات المنخفضة الجودة، بما فيها المرافق الأساسية من مياه وصرفٍ صحي. وتجعل المفاهيم حول تفشّي الفساد هذه المشاكل تبدو أسوأ، ما يؤجّج الغضب والاستياء العام.
قضيةٌ أخرى وَعَدَ فاي بمعالجتها هي الغموض المُحيط بالاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب أفريقيا (WAEMU). من خلال تحالفٍ تأسّس حديثاً، أعلنت بوركينا فاسو والنيجر ومالي مؤخّراً أنّها ستنسحب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا ردّاً على العقوبات التي فرضتها عليها في أعقاب انقلاباتها. وعلى الرغم من رفع العقوبات منذ ذلك الحين، يبدو أنّ قادة الانقلاب ملتزمون بسلوك دربهم الخاص. وينوون تشكيل قوة دفاع مشتركة والتخلّي عن فرنك الاتّحاد المالي الأفريقي (المشترك بين ثماني دول في غرب أفريقيا)، من بين أمور أخرى.
في حين أنّ الهجمات على فرنك الاتّحاد المالي الأفريقي تروق للسكان المهتمّين حديثاً بالتأكيد على سيادتهم، لا شكّ في أنّ التخلّي عن اتحاد العملات كلياً سيضرّ أكثر ممّا ينفع على المدى القصير. وإذا تمكنّ فاي من المحافظة على وحدة كتلة غرب أفريقيا، فمن شأن ذلك أن تُحقّق إنجازاً بارزاً. وقد يصبح الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب أفريقيا المحرّك الذي يُعزّز عمليّة الاندماج الإقليمي على نطاقٍ أوسع ضمن إطار منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية.
لقد بدأت التجارة داخل منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية في العام 2021 – في خضم جائحة فيروس كورونا المستجدّ. وعلى الرغم من إلغاء الدول الأعضاء الرسوم الجمركية، فإنّ الحواجز غير الجمركية لا تزال قائمة، ما يسلّط الضوء على الحاجة إلى إصلاحات جديدة بغية تعزيز منافسة أكثر إنصافاً داخل الدول الأفريقية وفي ما بينها. لن يُحفّز تحقيق إمكانات منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية الاستثمار والتجارة عبر الحدود فحسب، بل من شأنه أن يُعزّز الاندماج القاري بشكلٍ أعمق في القطاعات ذي الأولوية مثل الزراعة والاتصالات والكهرباء والمالية. في هذا السياق، يمكن أن يُعطي ازدياد عدد سكان القارة زخماً للإنتاج المحلي ولخلق المزيد من فرص العمل.
إنّ فوز فاي المدوّي يمنحه تفويضاً قويّاً لاتّخاذ التدابير ضد الفساد وتعزيز الإدماج الاقتصادي. لكن لكي يتمكّن من الإيفاء بوعود حملته الانتخابية، يتعيّن عليه أوّلاً أن يعزّز الضوابط والتوازنات السياسية في البلاد -بما في ذلك استقلال القضاء – ويحقّق الشفافية على مستويات الحكومة كافة. سيؤدّي الفشل في دعم المؤسّسات الديمقراطية في السنغال إلى المزيد من الاضطرابات السياسية على غرار تلك التي عصفت بالبلاد للتو.
يُطالب الأفارقة- خاصة من الشباب- بالتغيير في جميع أنحاء القارة. وقد يكون رئيس السنغال الجديد البالغ من العمر 44 عاماً أول من يُلبّي مطالبهم.
نُشرت هذه المقالة في الأصل على موقع Project Syndicate
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ المؤلّف حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.