أظهر الصراع المستمرّ في غزة نقاط القوة التي تتمتّع بها قطر كوسيط. وعلى الرغم من أنّ الدوحة قد لا تبدو لاعباً دولياً كبيراً للوهلة الأولى، إلّا أنّها أثبتت أنّها جهة فاعلة لا غنى عنها في جهود الولايات المتحدة لإنهاء الحرب.
تؤدّي قطر، على صغر حجمها وعدد سكانها، دوراً بارزاً على الساحة العالمية. على مدى العقد الماضي، تمكّنت ببراعة الإبحار في مياه جيوسياسية لمعقّدة بفضل مكانتها الفريدة كطرفٍ فاعل موثوق ومحايد لتسهيل مفاوضات حاسمة في عددٍ من الصراعات الدولية. وقد طوّرت الدوحة إستراتيجية للسياسة الخارجية للوساطة في الأزمات العالمية. بالإضافة إلى ذلك، استغلّت قطر موقعها الإستراتيجي وثروتها الهائلة من الغاز الطبيعي لخلق قوةٍ ناعمة استعانت بها لتعزيز مصالحها.
وقد أثبتت الدوحة في الآونة الأخيرة مهارتها الدبلوماسية في الحرب المستمرّة على غزة كالممر الموثوق الوحيد إلى صانعي القرار في حماس. وقد مكّنتها مقاربتها البراغماتية من تحقيق نتائج دبلوماسية غالباً ما تكون بعيدة المنال بالنسبة إلى القوى الأكبر، على غرار تبادل الرهائن في نوفمبر.
بينما واصلت الولايات المتحدة دعم إسرائيل بشكلٍ مطلق حتى في ظلّ تصاعد الجدل حول سلوكها، سعت الدول الخليجية إلى إعطاء الأولوية للدبلوماسية على العنف، معترفةً بعدم وجود حل عسكري وبأنّ عمليةً سياسية جوهرية هي السبيل الوحيد للمضي قدماً.
وسيطٌ حاسم في غزة
لا تزال الوساطة السياسية عنصراً حاسماً في الصراع المستمر – ليس من أجل إنهاء الأعمال الوحشية فحسب، بل أيضاً لإطلاق عملية سلام حقيقية ودائمة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ويؤدّي استمرار غياب وساطةٍ فعّالة في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بسبب تأخير جميع الأطراف وإهمالها، إلى إطالة حلقة العنف المفرغة- لا سيما في قطاع غزّة حيث تُعتبَر الحرب الأخيرة الأكثر تدميراً من بين الصراعات المماثلة على مدى السنوات الـ15 الماضية. في غياب وساطةٍ سياسية، ستجد إسرائيل وحماس أنّ المفاوضات والتسوية والحلول الدائمة عابرة. وقد عرضت قطر خدماتها من أجل إحداث التغيير الضروري لضمان السلام. واعتمد المفاوضون القطريون على المكانة الفريدة التي تتمتع بها قطر كصديق وشريك بالنسبة إلى مختلف الجهات الإقليمية والدولية الفاعلة عبر الطيف الجيوسياسي.
الأهم من ذلك، وجدت قطر صيغة رابحة تُمكّنها من العمل مع المنافسين الأيديولوجيين الذين يعتبرون أنّ المحادثات تتخطّى نطاق الدبلوماسيّة التقليدية. فقد أشار يوئيل جوزانسكي وإيلان زلايات من معهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب مؤخّراً إلى أنّ قطر هي الدولة الوحيدة في العالم القادرة على جمع الجهات الفاعلة الرئيسية في الصراع: الأمريكيون والإسرائيليون وقيادة حماس. وقد آتت هذه الجهود بثمارها عندما أعلنت وزارة الخارجية القطرية في بدايات الحرب أنّ إسرائيل وحماس اتفقتا على هدنةٍ مؤقّتة، بما في ذلك تبادل الأسرى. لكن للأسف، قطع الطرفان جهود الوساطة بعد مجرد بضعة أيام، واستأنفا الحرب الطاحنة التي أودت منذ ذلك الحين بحياة عشرات الآلاف من الأرواح الإضافية.
يتطلّب موقف قطر الدبلوماسي الفريد توازناً دقيقاً وصوناً حذراً. صحيح أنّ قرار الدوحة باستضافة مكاتب حماس السياسية قد أثار جدلاً كبيراً في الغرب وفي سائر العالم العربي، إلّا أنّه وفّر أيضاً منصّة للوساطة بين المجموعة السياسية المسلّحة وخصومها – ومنح قطر مستوى معتدلاً من النفوذ على قيادة حماس. في الواقع، أنشأت قطر هذا المكتب في العام 2012 بناءً على طلبٍ صريح من إدارة أوباما، التي سعت إلى منع حماس من نقل مكاتبها إلى إيران بعد فرارها من دمشق في خضم الحرب الأهلية في سوريا. بالفعل، لو كان مقر قيادة حماس في طهران ووقع حدثٌ شبيه بالسابع من أكتوبر، لكانت إسرائيل والولايات المتحدة أُرغمتا على العمل مع إيران من أجل تحرير الرهائن الإسرائيليين – وهو اقتراح أقل جاذبية بكثير من الترتيب الحالي. عوضاً عن ذلك، تعاون رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني مع رؤساء وكالات الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية والمصرية بهدف عودة الرهائن الإسرائيليين وتقديم المساعدات الإنسانية للمدنيين المُحاصَرين في غزة.
التصدّي للانتقادات
على الرغم من الجهود الحثيثة التي بذلتها الدوحة باستمرار منذ اندلاع الحرب على غزة، واجهت الدبلوماسية القطرية ضغوطاً من مختلف المجموعات داخل الولايات المتحدة وإسرائيل لحضّها على الابتعاد عن حماس أو طردها بشكلٍ كلي. وقد دفع ذلك بقطر إلى الإعلان عن إعادة تقييم دورها في الوساطة بين حماس والاحتلال الإسرائيلي. وبحسب ما جاء في تقرير على شبكة “سي أن أن”، وقّع 63 عضواً في الحزب الديمقراطي و50 في الحزب الجمهوري على رسالة يطالبون فيها الولايات المتحدة بممارسة ضغوطاً أكبر على قطر وتركيا لطرد قادة حماس الموجودين في الدولتين.
وقد عبّرت قطر عن استيائها إزاء هذه المطالب، فأشار رئيس الوزراء القطري إلى إنّ أولئك الذين يسعون إلى تسجيل نقاط سياسية رخيصة ضد الدولة يستغلّون علاقة بلاده بحماس. وعندما فشلت جهود الوساطة القطرية بالتوصّل إلى وقفٍ دائم لإطلاق النار في غزة، ألقى الكثيرون في قطر اللوم على إسرائيل لعرقلة الجهود، لا سيما أنّ بعض أعضاء الحكومة الإسرائيلية أعلنوا عن تحبيذهم لضم أجزاء من غزة. تفاقم امتعاض قطر من هذا الوضع بسبب الحملة الإسرائيلية الشرسة التي استهدفت وسائل الإعلام القطرية – بما في ذلك حظر البث على قناة الجزيرة بسبب تغطيتها الانتقادية لأفعال إسرائيل في الحرب.
ما دامت الحكومة الأمريكية تعتبر الدوحة حليفاً هاماً، كما أكّد الرئيس جو بايدن مراراً وتكراراً، لن تنعكس تهديدات الحكومة الإسرائيلية الحالية بشكلٍ كبير على سياسة قطر الخارجية. بيد أنّ تطورات مهمّة تحدث داخل الكونغرس الأمريكي من شأنها أن تعرّض مكانة قطر للخطر. فقد قال عضو الكونغرس ستيني هوير (ديمقراطي-ولاية ماريلاند)، زعيم الأغلبية السابق في مجلس النواب الأمريكي، في أبريل 2024، “إذا فشلت قطر في ممارسة هذا الضغط، فسيتعيّن على الولايات المتحدة إعادة تقييم علاقتها مع قطر”. من جهته، قدّم السناتور تيد باد (جمهوري-ولاية نورث كارولاينا) قراراً ينصّ على النظر في إنهاء وضع قطر كحليفٍ رئيسي من خارج حلف شمال الأطلسي. إذا اكتسبت هذه الخطوات زخماً، من شأنها أن تغيّر دور قطر الإقليمي إلى حد بعيد. على الرغم من أنّ قطر ستحاول على الأرجح تلبية مطالب أمريكا بالتخلّي عن حماس بشكلٍ كامل، إلّا أنّ هذه التطوّرات قد لا تخدم المصالح الأمريكية على المدى الطويل.
الاستفادة من سياسةٍ خارجية مستقلّة
ترسّخت مكانة قطر كوسيطٍ إقليمي منذ فترة طويلة ولا مثيل لها. على مدى العقدَين المنصرمَين، ساهمت الدبلوماسية القطرية في وقف إطلاق النار في اليمن وفي إبرام اتفاقٍ سياسي تاريخي في لبنان وفي إنهاء نزاع حدودي مرير كان يبدو مستعصياً بين جيبوتي وإريتريا. علاوة على ذلك، ساعدت قطر في إنهاء الحرب الأهلية السودانية الثانية وفي تخفيف العنف بشكلٍ ملحوظ في دارفور من خلال استضافة مؤتمر سلام متعدّد الأطراف في الدوحة انبثقت عنه “وﺛﻴﻘﺔ الدوحة ﻟﻠﺴﻼم”.
في خلال الحرب الأمريكية التي دارت رحاها في أفغانستان على مدى عشرين عاماً، استضافت الدوحة قيادة طالبان واستقبلت المدينة المفاوضات مع الولايات المتحدة. وفي العام 2020، وقّعت واشنطن وطالبان على اتفاقٍ تاريخي ينصّ على انسحاب الجيش الأمريكي من أفغانستان في السنة التالية. وحين انهارت الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة في كابول في العام 2021، أدّت قطر دوراً حاسماً في إجلاء العناصر الأمريكيين والمدنيين الأفغان من مطار كابول. في هذا الإطار، شكّلت جهود الدوحة عاملاً أساسياً في قرار بايدن إعلان قطر حليفاً رئيسياً من خارج حلف شمال الأطلسي في أوائل العام 2022.
لا تقتصر إنجازات قطر الدبلوماسية على جوارها المباشر. فقد نجحت الوساطة القطرية في التوصّل إلى اتفاقٍ بين روسيا وأوكرانيا لتبادل عشرات الأطفال النازحين بسبب الحرب القائمة وفي إجراء مفاوضات مباشرة بين موسكو وكييف.
ويتبيّن من هذه الأمثلة أنّ سياسة قطر الخارجية المحايدة تخدم مصالح الدولة، وكذلك مصالح الولايات المتحدة. ومهما كان وجود قادة حماس في الدوحة مزعجاً بالنسبة إلى بعض المراقبين الأمريكيين، إلّا أنّ طردهم قد يُشكّل خطأً إستراتيجياً فادحاً لأن مقرّهم المقبل سيكون بالتأكيد أصعب على المفاوضين الغربيين الوصول إليه، ما سيجعل الصراع أكثر استعصاء وفتكاً. في الواقع، يوفّر بقاء حماس في قطر بيئةً للحوار يُمكن التحكّم بها، ما قد يحدّ من التوتّرات في أحد الصراعات الأكثر تعقيداً في العالم. بالتالي، تُعتبر المحافظة على دور قطر كمضيف لقادة حماس مصيرية لأيّ أمل بإحراز تقدّم في مفاوضات السلام.
غالباً ما تتذمّر واشنطن من أنّ شركاءها “الاستغلاليين” يسعون إلى المساهمة بأقل قدرٍ ممكن في دفاعهم، تاركين لأمريكا تحمّل العبء بمفردها. غير أنّ قطر أظهرت أنّ حتى الدول الصغيرة قادرة على تأدية دور بارز يساهم في التخفيف من حدّة التوترات ويدعم مبادرات السلام وأهداف السياسة الأمريكية الخارجية فيهذه العملية. لا شكّ في أنّ دبلوماسية قطر الماهرة في فترةٍ مليئة بالاضطرابات قد ساهمت إلى حد بعيد في الحؤول دون نشوب حرب إقليمية.
لا يزال الغموض يسيطر على مستقبل الحرب على غزة في المدى المنظور، ومستقبل المنطقة على نطاقٍ أوسع. ويواصل الدبلوماسيون القطريون انخراطهم في حلّ الصراع بين إسرائيل وغزة، وقد نادت دول مجلس التعاون الخليجي ككل بعملية سلام موثوقة تهدف إلى تحقيق حل الدولتين. يُعزّز نجاح قطر في الوساطة الآمال بأنّ حتى هذا الصراع الأكثر استعصاءً يمكن أن يضع أوزاره يوماً ما.