تُظهر الصورة رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان (يسارًا) لدى استقباله من قبل أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني عند وصوله إلى مطار حمد الدولي في الدوحة بتاريخ 25 يونيو 2025. (الصورة بواسطة رايان كارتر / المحكمة الرئاسية الإماراتية / وكالة فرانس برس)

الهجوم الإيراني على قطر وتداعياته على مستقبل الأمن في دول الخليج

يشكّل الهجوم الإيراني على قطر أوّل مواجهة عسكرية مباشرة بين دولتين في الخليج منذ عقود، ما يحثّ قطر على إعادة النظر في التهديد الذي يشكله الجوار الإيراني، ويبرز الحاجة الملحّة إلى تعزيز منظومة الدفاع المشترك والتكامل الأمني على المستوى الإقليمي.

1 يوليو، 2025
راشد المهنّدي

نظر الكثير من المحلّلين الدوليين ووسائل الإعلام إلى الهجوم الإيراني بالصواريخ الباليستية على قاعدة العُديد الجوّية في قطر من منظور المواجهة بين الولايات المتّحدة وإسرائيل من جهة، وإيران من جهة أخرى. وقد اعتُبر الهجوم على نطاق واسع خطوة رمزية، إذ إنّ عدم سقوط ضحايا أتاح للرئيس الأمريكي دونالد ترامب انتهاج خيار التهدئة الذي يفضّله، عقب الضربة الأمريكية العنيفة التي استهدفت منشآت نووية إيرانية، ما سمح له بتفادي مواجهة أوسع قد تجرّ القوّات الأمريكية إلى الانخراط بشكل مباشر في الصراع.

 

لكن بالنسبة إلى قطر ومنطقة الخليج العربي عموماً، فقد وجّه الطابع غير المسبوق للهجوم وخطورته ضربة قاضية لفكرة أنّ الدبلوماسية والعلاقات الجيّدة كفيلة بضمان سيادة دول مجلس التعاون الخليجي وسلامتها. ويمثّل استهداف قاعدة العُديد أول عمل عسكري مباشر بين دولتين خليجيتين منذ غزو العراق للكويت في العام 1990، ما يشير إلى تحوّل خطير في أمن المنطقة، ويعيد رسم ملامح إدراك قطر للمخاطر ومصادر التهديد، ويعزّز الهواجس الأمنية لدى باقي دول مجلس التعاون الخليجي. ومن شأن هذا الحدث أن يدفع باتجاه تعزيز التكامل الأمني الخليجي تمهيداً لبناء قدرات دفاعية مشتركة تكون أكثر فاعلية ومصداقية وقادرة على التصدّي لأيّ تهديد.

 

الهجوم وتداعياته

 

في تمام الساعة 7:35 مساءً من يوم 23 يونيو، شهد القطريون مشهداً لم يكن يخطر ببالهم يوماً: أشعلت الصواريخ الاعتراضية السماء فوق بلدهم الساحلي الصغير. ولم تكن هذه مجرّد مناورة تدريبية. بل لقد كانت قطر، التي لطالما اعتُبرت من أكثر دول المنطقة أماناً، تتعرّض لهجوم حقيقي يهدد أمنّها وسلامتها.

 

كان السكّان يتوقّعون حدوث أمر ما بعد تلقيهم تنبيهات بإغلاق المجال الجوي القطري مؤقتاً في الساعات التي سبقت الحدث، لكن لم يخطر ببال أحد أن يتحقّق التهديد بهذا الشكل العلني والمباشر. وبعد موجة القلق الأولي على سلامة العائلات التي تتابع حياتها اليومية، سُرعان ما بدأ التفكير  في التداعيات الإقليمية والدولية الأوسع. ففي تلك الليلة، شنّ الحرس الثوري الإسلامي الإيراني (IRGC) هجوماً مباشراً على الأراضي القطرية.

 

وتوضيحاً للصورة: ما جرى كان هجوماً إيرانياً على قاعدة عسكرية قطرية، خلافاً للاعتقاد الشائع والخاطئ بأنها قاعدة أمريكية. لم يكن الهجوم استعراضياً، بل استخدمت فيه صواريخ باليستية أكثر تطوراً من تلك التي أطلقتها إيران في هجماتها «الرمزية» السابقة، كاستهداف قاعدة عين الأسد في العراق في العام 2020، وقد بدا واضحاً أنّ الهدف كان إيقاع أضرار حقيقية، ولكن نجحت القوات المسلّحة القطرية بدعم من الولايات المتّحدة في التصدّي لهذا الهجوم وإحباطه. وعلى الرغم من خطورة الحدث وفداحته، فقد مرّت معظم التغطيات الإعلامية الدولية على هذه الحقائق مرور الكرام، متجاهلة خطورة الهجوم ودلالاته.

 

أبلغ عدد من المسؤولين القطريين السكّان بأنّ العملية الإيرانية جاءت مفاجِئة، ولم تؤكّد إلّا عبر معلومات استخباراتية. لقد شارك في التصدّي للهجوم المئات من أفراد القوّات المسلّحة القطرية الموزّعين على عدد من مواقع الدفاع الجوي في أنحاء البلاد، وفي نهاية المطاف، أسفر ذلك عن أكبر عملية استخدام قتالي لنظام «باتريوت» للدفاع الجوي في التاريخ.

 

وكما كان متوقّعاً، وفّر الهجوم مساحة للمناورة الدبلوماسية. وسارع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى استغلال الفرصة للدفع نحو وقف مؤقت للأعمال العدائية بين إيران وإسرائيل. كما كشف الهجوم عن اتساع الشرخ داخل الدوائر الإيرانية بين المستويين الدبلوماسي والعسكري، حيث يبدو أنّ الحرس الثوري بات الطرف المهيمن على اتّخاذ القرارات المفصلية، وهذا تطوّر مقلق، لا سيّما بالنظر إلى التداعيات الدبلوماسية بعيدة المدى وإعادة الاصطفاف السياسي التي قد تفرزها هذه الضربة. وعلى المستوى الإستراتيجي، يبدو أنّ الهجوم صمّم أساساً للاستهلاك المحلي، أكثر من كونها رسالة للخارج، وكمحاولة لحفظ ماء الوجه أمام الرأي العام الإيراني، وهذا ما تعزّزه بوضوح التغطية الإعلامية المقيّدة داخل إيران عقب ساعات قليلة من تنفيذ الهجوم.

 

الحسابات القطرية

 

وفي حين تستحق هذه الديناميّات الإقليمية والدولية التمعّن فيها وتحليلها، يبقى من الضروري تسليط الضوء على منظور قطري واضح ومتمايز.

 

لطالما حافظت قطر على علاقة براغماتية مع إيران قائمة على الإدارة المشتركة لحقل «بارس الجنوبي/الشمال» للغاز الطبيعي، الذي يُعتبر الركيزة الأساسية لنجاح الاقتصاد القطري، ومع ذلك، فقد استندت هذه العلاقة أيضاً إلى تصوّر تاريخي يقلّل من خطر إيران العسكري المباشر. غير أنّ هذا التصور تغيّر  تغييراً جذرياً في الثالث والعشرين من يونيو.

 

لحسن الحظ، كانت الأضرار المادية التي لحقت بقاعدة العُديد، والمناطق التي تساقط فيها الحطام، محدودة، وذلك بفضل دقّة الاستهداف الإيراني وفعاليّة أنظمة الدفاع الجوّي القطرية، غير أنّ التأثير الإستراتيجي كان بالغ الأهمّية. فقد تشدّد الرأي العام في قطر، ولم يعد أمام صانعي القرار إلّا إعادة تقييم إيران كخطر أمني حقيقي. ولوحظ أيضاً تحوّل واضح باتجاه المزيد من التوافق داخل مجلس التعاون الخليجي، كما ظهر في الزيارة السريعة التي قام بها الرئيس الإماراتي إلى الدوحة بعد الهجوم.

 

يصعب التنبؤ بما سيحدث لاحقاً. فقد وجّهت قطر رسالة شديدة اللهجة إلى إيران تؤكّد فيها رفضها القاطع لهذا التصرّف وتعتبره انتهاكاً صارخاً لسيادة قطر، لكنها فضّلت عدم التصعيد مفضّلة نهجاً دبلوماسياً محسوباً.

 

من منظور دفاعي، كشفت أحداث تلك الليلة التقدّم الكبير الذي حقّقته القدرات العسكرية القطرية. فقد رصدت القوّات المسلّحة القطرية الهجوم مبكراً، وأخلت المجال الجوي، واعترضت جميع الصواريخ الباليستية السبعة التي أُطلقت في الموجة الأولى من مسافات بعيدة فوق البحر، فضلاً عن 11 صاروخاً باليستياً من أصل 12 صاروخاً أطلقت في الموجة الثانية، فيما أصاب صاروخ واحد القاعدة من دون أن يسفر عن خسائر بشرية أو مادية. ويعكس هذا الإنجاز ثمرة نحو عقداً من التحديث العسكري المتواصل. ولو وقع هذا الهجوم قبل عشر سنوات، لكانت عواقبه كارثية.

 

كانت لدى قطر القدرة على الردّ وإلحاق أضرار كبيرة، لا سيّما بعد الضربات المتزامنة التي شنّتها إسرائيل على مراكز القيادة والسيطرة الإيرانية وأنظمة الرادار والدفاع الجوي. غير أنّ الدوحة فضّلت ضبط النفس. وقد لا يلقى هذا القرار قبول جميع الأطراف، لكنّه كان على الأرجح الخيار الصحيح للحفاظ على استقرار المنطقة، على الأقل في الوقت الراهن.

 

ينبغي للهجوم الإيراني أيضاً أن يدفع قطر إلى إعادة تقييم طريقة قراءتها للتهديدات. تبدو عملية اتّخاذ القرار في إيران أكثر تخبطاً وانفصالاً عن منطق الدولة الرشيدة. ويُظهر هذا الهجوم أن تقييم التهديد يجب أن يستند إلى السلوك والنوايا، وليس إلى الخطابات أو التوازنات التقليدية فحسب، خصوصاً في ظلّ البيئة الإستراتيجية الحالية.

 

لقد أثبت الدفاع الجوي دوره الحاسم، وهذا يعزّز ما دعت إليه الدول الخليجية والولايات المتّحدة على مدى سنوات، وهو ضرورة إقامة نظام متكامل للدفاع الجوي والصاروخي على مستوى مجلس التعاون الخليجي. فما كان سابقاً مجرّد مقترح سياسي بات الآن ضرورة ملحّة.

 

وأخيراً، يؤكّد هذا الهجوم أهمية بناء هيكل أمني إقليمي مركزه الخليج. على عكس نهج إسرائيل الأمني المفرط الذي لا يتردّد في تدمير مجتمعات بأكملها مثل غزة ويُظهر استخفافاً تاماً بالقانون الدولي والمعايير الإنسانية، أو المغامرات الأيديولوجية الإيرانية التي تفضي إلى حسابات خاطئة كارثية، ركّزت الدول الخليجية في السنوات الأخيرة على أولويات التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ويّعدّ هذا النهج البراغماتي عامل استقرار، لكنه يتطلّب قدرات دفاعية موثوقة. ويتطلّب ذلك إعادة تفعيل «قوة درع الجزيرة»، كذراع عسكرية لمجلس التعاون الخليجي، والاستثمار في التدريب المشترك، وتطوير عقائد قتالية موحّدة، وتعزيز قابلية التشغيل البيني عبر اعتماد أساليب وتكتيكات وإجراءات موحّدة.

 

مع ذلك، هناك مجال لتفاؤل حذر. تعدّ وثيقة الرؤية الأمنية الأخيرة لمجلس التعاون الخليجي، التي تتضمّن الأهداف والمبادئ الأمنية، الأولى من نوعها منذ اتفاقية الدفاع المشترك لعام 2000، وخطوة يثنى عليها. لكن تبقى العبرة في التنفيذ، خصوصاً بعد أن أثبتت محاولات سابقة صعوبتها وتعقيدها.

 

ستكون السنوات المقبلة محفوفة بالتحدّيات بالنسبة إلى الدول الخليجية. ولا سبيل لتحقيق الاستقرار والأمن إلّا عبر تعزيز التعاون، وتحقيق التكامل الحقيقي، الذي يتجاوز حدود الرؤية الأمنية المشتركة إلى خطوات عملية لبناء قدرات دفاعية وأمنية جماعية موثوقة وقادرة وفاعلة قادرة على التصدّي لمختلف التحدّيات.

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: السياسة الأمريكية الخارجية، العلاقات الإقليمية
البلد: إيران، المملكة العربية السعودية، قطر

المؤلف

زميل غير مقيم
راشد المهنّدي هو زميل غير مقيم في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية، وهو خبير في قطاع الدفاع والاستشارات في مجال المخاطر الجيوسياسية.    تشمل اهتماماته البحثية أمن الدول الصغيرة وتطوير قطاع الدفاع والاستقرار الإقليمي، بالإضافة إلى الشؤون الإستراتيجية. شارك المهنّدي في مناقشات إقليمية وعالمية، حيث قدّم رؤى حول السياسات الأمنية والدفاعية.    قبل ذلك، عمل… Continue reading الهجوم الإيراني على قطر وتداعياته على مستقبل الأمن في دول الخليج