الهجوم الإسرائيلي على دمشق مؤشّر على تزايد إحباطها وعدوانيتها

تسير التحرّكات الإسرائيلية في سوريا وفق نمط مألوف، حيث تُوظّف الذرائع الواهية لتحقيق أهداف تخدم مصالح إسرائيل الذاتية، لكن إلى متى سيواصل العالم التسامح مع استخدام إسرائيل غير القانوني للقوّة في الشرق الأوسط؟

17 يوليو، 2025
نادر القباني

في 16 يوليو، شنّ الجيش الإسرائيلي غارة جوّية ضخمة استهدفت مقرّ وزارة الدفاع السورية، ما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن ثلاثة أشخاص. وتمثّل هذه الضربة تصعيداً خطيراً ضدّ مؤسّسات رئيسة لدولة ذات سيادة، وجاءت عقب يومين من استهداف الجيش الإسرائيلي لقوافل عسكرية سورية كانت تتحرّك جنوباً. وعلى الرغم من زعم إسرائيل أنّ الغارات تهدف إلى دعم ميليشيات درزية منخرطة في اشتباكات مع القوات الحكومية، فإنّ الأمر لا يعدو كونه امتداداً لنمط سلوكها المألوف، وهو السعي لتحقيق أهداف تخدم مصالحها الخاصة، ثمّ البحث عن سرديّة مقبولة لتبرير أفعالها. في الواقع، لا تهدف الهجمات الإسرائيلية على دمشق إلى حماية الدروز أو الأقليات الأخرى في سوريا، بقدر ما تهدف إلى زرع بذور الفتنة بين مكوّنات المجتمع السوري المتباينة، ومنع نشوء دولة مستقرّة وقادرة على النهوض. وعلى مكوّنات المجتمع السوري أن تعي حجم هذا التهديد، وتتجنّب الوقوع في الفخ الذي تنصبه لها الجارة العدوانية. 

 

 

تحوّلات في العقيدة الإسرائيلية: من الإستراتيجية إلى العدوانية 

 

لطالما استخدمت إسرائيل أساليب ملتوية لتشويه الواقع وتبرير أفعالها. تعتمد في ذلك على صيغة بسيطة، فهي تقوم أولاً بتحديد الهدف المنشود، ومن ثمّ استغلال حادثة معينة توظّفها لتبرير الإجراءات المتّخذة لتحقيق هذا الهدف، وأخيراً، تقويض السرديات البديلة التي قد تظهر وطمسها. فعلى سبيل المثال، قبيل اندلاع حرب العام 1967، أعدّت إسرائيل مسبقاً خططاً واسعة لتوسيع أراضيها، لكنّها انتظرت اللحظة المناسبة، أيّ إغلاق مصر لمضيق تيران وحشدها العسكري على الحدود، لتبرير «ضربة استباقية»، أعقبتها حرب الأيام الستة المدمّرة التي انتهت بسيطرة إسرائيل على شبه جزيرة سيناء والضفّة الغربية وقطاع غزّة ومرتفعات الجولان. 

 

وقد ارتقت الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرّفة الحالية بهذه الصيغة إلى مستوى غير مسبوق، سواء من حيث هشاشة مبرّراتها التي تقدّمها ومشروعيتها، أو تطرّف أهدافها النهائية، أو شراسة حملاتها ضدّ كلّ من يجرؤ على انتقادها. وبهذا، تتفوّق إسرائيل على كلّ الدول الأخرى في العالم في تقويض القانون الدولي والأعراف والأنظمة التي يقوم عليها النظام العالمي. وقد يخدم هذا أهدافها القصيرة المدى، لكنّه في الوقت ذاته يقوّض دعائم المؤسّسات التي ترعى السلام والازدهار ويُلحق الضرر بالمصالح الإستراتيجية بعيدة المدى لجميع الدول. 

 

قُدّم حلفاء إسرائيل ردّ حكومة نتنياهو على هجوم حماس في 7 أكتوبر 2023 بوصفه «حق إسرائيل في الدفاع عن النفس». لكن سرعان ما انتقلت الأفعال الإسرائيلية من الدفاع إلى الانتقام وصولاً إلى ارتكاب جرائم حرب، ثمّ إبادة جماعية. وقد قُتل أكثر من 60 ألف شخص حتى الآن (مع وجود عدد كبير من المفقودين لا يزال مصيرهم مجهولاً)، وتعرّض 70 في المئة من مباني قطاع غزّة للتدمير أو لأضرار جسيمة، فيما يعيش معظم سكّان القطاع، البالغ عددهم مليوني نسمة، في ظروف مجاعة. واليوم، في ظلّ غياب أيّ محاسبة فعّالة، تكرّر إسرائيل السيناريو نفسه في الضفّة الغربية، التي لم تلجأ إلى هجوم مماثل لـ 7 أكتوبر يمكن استخدامه كمبرّر. 

 

وبالمثل، شنّت إسرائيل في 13 يونيو سلسلة من الغارات الجوّية على إيران، استهدفت برنامجها النووي وقيادتها العسكرية ومنظوماتها الدفاعية. وتذرّعت إسرائيل بأنّ إيران تقترب من «العتبة النووية»، وهو تبرير ينطوي على قدر هائل من النفاق، بالنظر إلى أنّ إسرائيل نفسها تمتلك ترسانة نووية غير شرعية. وقد بدا في الوهلة الأولى أنّ إسرائيل تطبّق الخطة نفسها التي استخدمتها قبل عام ضدّ حزب الله، لكن مع فارق جوهري: فحزب الله جهة غير حكومية، بينما إيران دولة ذات سيادة. وبالتالي، شكّل الهجوم على إيران تجاوزاً لخطّ أحمر جديد، وثمرة مباشرة لعجز حلفاء إسرائيل وأصدقائها عن كبح جماحها. 

 

 

الحملة الإسرائيلية في سوريا: الإحباط يقود إلى التصعيد 

 

في 8 ديسمبر، سقطت دمشق بيد قوّات المعارضة بقيادة «هيئة تحرير الشام»، منهيةً بذلك حكماً استبدادياً دام 54 عاماً تحت نظام الأسد. بدت هذه السقطة أشبه بالمعجزة، إذ لم يمضِ سوى 15 يوماً على انطلاق الهجوم من الشمال حتى أصبحت العاصمة في أيديهم. ومنذ ذلك الحين، تشهد سوريا تحوّلاً لافتاً ومثيراً. 

 

ففي اليوم نفسه لتحرير دمشق، دخلت وحدات مدرّعة إسرائيلية إلى عمق المنطقة العازلة في الجولان المحتلّ. وصرّح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنّ هذه الأراضي ستُحتل «مؤقتاً» لأسباب أمنية مزعومة. لكن على مدار الأيام التالية، استمرّت التوغّلات والهجمات الإسرائيلية، وفي خلال أسبوع واحد، حاولت إسرائيل إفراغ قرى سورية من سكانها في المناطق التي احتلّتها حديثاً، ولم تكتف الحكومة الإسرائيلية بذلك، بل أعلنت نيّتها توسيع المستوطنات الإسرائيلية في تلك المناطق. لقد بدا واضحاً أنّ المزاعم الأمنية لم تكن سوى غطاء واهٍ لتبرير الاستيلاء على الأراضي وتوسيع السيطرة، أو على الأقل انتزاع أوراق تفاوضية غير شرعية للمساومة في المستقبل. 

 

وفي حين رحّب المجتمع الدولي بخروج سوريا من حرب أهلية استمرّت 14 عاماً، وسارع إلى دعم عملية التحوّل فيها، كان نتنياهو يبحث عن سبل لإثارة الانقسام وزرع بذور الفرقة ومنع نشوء دولة موحّدة ومستقرة وآمنة ومزدهرة. ومثلما جرت العادة، تحوّل إسرائيل «الدعم المزعوم» للدروز إلى ستار لتحقيق مآربها، فهي لا تكترث بمصلحة الدروز الذين يُعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية داخلها، ولا بمصالح أيّ من الأقليات السورية الأخرى، بل هي مستعدّة في أيّ لحظة للتخلّي عن هذه المجموعات أو التضحية بها إن كان ذلك يخدم مصالحها الإستراتيجية. 

 

 

عدم الوقوع في الفخّ 

 

أظهرت الحكومة السورية الانتقالية قدرة لافتة على ضبط النفس في عدم الردّ على التوغّلات والهجمات والاستفزازات الإسرائيلية، التي يبدو أنّها مصمّمة لاستفزاز ردّ فعل يمنح إسرائيل ذريعة لتصعيد هجماتها وزعزعة استقرار سوريا. وفي هذا السياق، شكّلت حنكة الحكومة السورية في تعاملها مع الموقف مصدراً لإحباط إسرائيل. ويعكس الهجوم غير المبرّر في 16 يوليو الجاري على مؤسّسات حكومية في دمشق هذا الإحباط، لدرجة أنّ بعض الحلفاء المقرّبين بدأوا يشكّكون في وجاهة تصرّفات إسرائيل. ويبرهن هذا الهجوم، مرّة أخرى، استعداد إسرائيل لخرق القوانين والأعراف الدولية، لكنّه في الوقت نفسه يثير تساؤلات جدية بشأن مدى الإفلات من العقاب الذي تظن إسرائيل أنها تتمتّع به. 

 

ومع تصاعد وتيرة الضغوط الداخلية للمطالبة بالردّ العاجل، حافظ الرئيس السوري أحمد الشرع على رباطة جأشه وثباته، وأدلى بتصريح علني في اليوم التالي للهجوم أشار فيه إلى أنّ الهدف الحقيقي لإسرائيل هو تقسيم البلاد وتمزيق وحدتها. وبدلاً من الانجرار إلى إصدار أوامر بالردّ العاجل، آثر الشرع التركيز على رأب الصدع الداخلي، متعهّداً بحماية الدروز والأقليات الأخرى. ومن المرجّح أنّ هذا هو الردّ الوحيد القادر على التصدّي لهدف إسرائيل المتمثّل في زرع بذور الفتنة وإبقاء سوريا ضعيفة ومنقسمة. 

 

ويبدو أنّ قيادة الطائفة الدرزية تدرك تماماً خطورة الموقف أيضاً، إذ سارعت إلى الاتفاق على وقف إطلاق النار. ومن المهمّ أن تواصل الحكومة السورية ومكوّناتها المجتمعية العمل على تطوير آليّات الحوار وتخفيف حدّة التوتّرات ومنع تصاعد الصراعات. ويجب أن تكون الرسالة الموجهة إلى إسرائيل واضحة لا لبس فيها مفادها أنّ الشعب السوري لن يُقسَّم وسيخيب مسعاكم. كما يتوجّب على دمشق بغية تعزيز النسيج الوطني، أن تكون مستعدة لمنح المزيد من الصلاحيات للسلطات المحلّية، وعلى المجتمعات السورية أن تتجاوز الحسابات الضيّقة وتقف إلى جانب الدولة. 

 

ويتعيّن أيضاً على المكوّنات السورية أن تبحث عن وسائل داخلية للضغط على العناصر المتمرّدة للتخلّي عن العنف ونبذه وتجنّب الانجرار وراء الدعوات إلى تدخل أجنبي. فالعنف لا يورث  إلّا مزيداً من العنف، وبعد 14 عاماً من الحرب الأهلية واستباحة التراب السوري بمشاركة قوّات من إيران وروسيا وتركيا والولايات المتّحدة وحزب الله، فإن آخر ما يريده السوريون اليوم هو جلب تدخل خارجي جديد أو العودة إلى القتال. 

 

وأخيراً، على المجتمع الدولي أن يتّخذ موقفاً أكثر حزماً إزاء أنشطة الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرّفة. فكل خطوة غير قانونية أو غير شرعية أو غير أخلاقية سُمح لإسرائيل بالإفلات منها، لم تزدها إلّا عناداً وتعزيزاً لشعورها بالإفلات من العقاب، وأدّت إلى انتهاكات أكثر فظاعة لحقوق الإنسان ولسيادة الدول. يقف كثير من قادة العالم صامتين بينما ترتكب إسرائيل فظائع متزايدة بحق الشعب الفلسطيني، وتهاجم جيرانها وتحتلّ أراضيهم، وتؤجّج التوتّرات في المنطقة، وتُهدر الرصيد المعنوي والرمزي الذي راكمه يهود العالم على مدى عقود طويلة. فإلى متى سيستمرّ هذا الوضع من دون رادع أو حساب؟ 

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: الحرب الأهلية، العلاقات الإقليمية
البلد: سوريا، فلسطين

المؤلف

زميل أوّل ومدير البحوث
نادر القباني هو زميل أول ومدير البحوث في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية وهو أيضاً زميل بحوث في منتدى البحوث الاقتصادية في القاهرة.   يحمل القباني خبرة تزيد عن 20 سنة في مجال البحوث والممارسات التنموية. وكان سابقاً مدير البحوث في مركز بروكنجز الدوحة وزميلاً أولاً في برنامج الاقتصاد العالمي والتنمية وزميلاً أولاً غير مقيم… Continue reading الهجوم الإسرائيلي على دمشق مؤشّر على تزايد إحباطها وعدوانيتها