بينما تتقاتل القوتان المُسلّحتان الرئيسيتان في السودان للسيطرة على الخرطوم، ترتفع الآمال بالتوصّل إلى هدنة على الجانب الآخر من البحر الأحمر. تُجري المملكة العربية السعودية محادثات في جدة تركّز، بحسب التقارير، على التوصّل إلى وقف لإطلاق النار وضمان وصول المساعدات إلى المتضرّرين من الاشتباكات التي أدّت بالفعل إلى مقتل المئات ونزوح أكثر من 700 ألف شخص. وفي حين أنّ هذه الأهداف محدودة، تعكس جهود الرياض لإنهاء القتال مخاوف استراتيجية أوسع إزاء الاستقرار في جارتها الساحلية، وهي مخاوف تتشاركها مع دولة خليجية أخرى: الإمارات العربية المتحدة.
لقد دفعت المنافسة الاستراتيجية في القرن الأفريقي بكلّ من الرياض وأبو ظبي إلى تعزيز انخراطهما في السودان منذ فترة طويلة سبقت الإطاحة بالديكتاتور عمر البشير في العام 2019. قبل ذلك بثلاث سنوات، كان البشير قد أنهى تحالفاً وثيقاً مع إيران، خصم المملكة العربية السعودية اللدود، وأرسل قوّاته للانضمام إلى التحالف الذي تقوده السعودية لمحاربة المتمرّدين الحوثيين الموالين لإيران في اليمن. في المقابل، ضخّت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتّحدة استثمارات في السودان، ونجحت الإمارات في الضغط على واشنطن من أجل تخفيف العقوبات المفروضة على الخرطوم منذ عقودٍ بسبب صلاتها مع القاعدة واستمرارها بانتهاك حقوق الإنسان في دارفور.
لكن، لا تقتصر مخاوف الرياض وأبو ظبي على النفوذ الإيراني، فقد سعت الدولتان إلى إبعاد البشير عن قطر وتركيا، ظنّاً منهما أنّ المجموعات الإسلامية السياسية التي مكّنتها السعودية والإمارات بعد الربيع العربي، ومن ضمنها القوّات التي دعمها البشير في ليبيا، تشكِّل تهديداً لأنظمتهما. كذلك شعرت السعودية بالقلق من تأجير السودان جزيرة في البحر الأحمر لتركيا.
كلّ هذا يعني أنّه عندما تمّت الإطاحة بالبشير في أعقاب الاحتجاجات الجماهيرية في العام 2019، سارعت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتّحدة في الردّ. وفي غضون أيام، تعهّدتا بإرسال مساعدات إلى الخرطوم بقيمة 3 مليارات دولار، بما فيها المواد الغذائية والمحروقات والأموال إلى البنك المركزي. واستمرّتا في بناء مصالح اقتصادية واستراتيجية كبرى في السودان، مصالح تريدان حمايتها الآن.
المقاتلون والمرافئ والذهب
يدور الصراع اليوم حول تنافس بين جنرالين: قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، وقائد قوّات الدعم السريع محمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي. وتربط كلاهما علاقات مع الرياض وأبو ظبي، اللتين استفادتا بدورهما من المقاتلين السودانيين في صراعاتهما الإقليمية.
استعانت المملكة العربية السعودية بقوّات الدعم السريع والجيش السوداني النظامي في حربها في اليمن، حيث يقاتل ما يقدّر بنحو 40 ألف سوداني حتّى قبل الإطاحة بالبشير. وحشدت الإمارات قوّات الدعم السريع لدعم القائد العسكري خليفة حفتر في ليبيا، ويُقال إنّه أُرسِل ألف مسلّح على الأقل لدعم محاولته الفاشلة للاستيلاء على طرابلس في العام 2019.
إلى جانب هذه العلاقات، تربط صلات شخصية الأطراف المُتحاربة بكبار المسؤولين في الرياض وأبو ظبي. رئيس الأركان وضابط المخابرات السوداني في عهد البشير، الفريق طه عثمان الحسين، الذي أقيل في العام 2017 ويُقال إنه فرَّ إلى المملكة العربية السعودية، يعمل منذ ذلك الحين مستشاراً لوزارة الخارجية في الرياض. ويُشاع أنّه كان له دور فعّال في دفع البشير للاصطفاف بجانب المملكة العربية السعودية ضدّ إيران وحلفائها، وكذلك في تعزيز المصالح السعودية والإماراتية في الخرطوم بعد وفاة رئيسه السابق. أمّا حميدتي، فيُشاع أنّ صلات وثيقة تربطه برئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان. وقد زار كلا الجنرالين الإمارات العربية المتّحدة بشكل منفصل في فبراير 2023، واتّصلت المملكة العربية السعودية بكلّ منهما على حدة في 16 أبريل في محاولة لتهدئة التوتّرات.
وفيما يبدو أنّ هذه العلاقات قد تنطوي على تحيّز تجاه طرف أو آخر، تعتمد مصالح السعودية والإمارات الطويلة الأجل في السودان على ضمان الاستقرار.
المملكة العربية السعودية قلقة بشكل خاص على أمن ساحلها المُمتدّ على البحر الأحمر في نقاط تبعد نحو 200 كيلومتر عن السودان. وتريد المملكة العربية السعودية، كجزء من رؤية 2030 الإصلاحية، توسيع السياحة على طول ساحلها الغربي، ويُقال إنّها التزمت بإنفاق ما لا يقلّ عن 500 مليار دولار من الاستثمارات. وتريد أيضاً ضمان أمن مشروعها الرائد “نيوم”، الواقع بالقرب من البحر الأحمر في شمال غرب المملكة. وسيتعرّض كلّ ذلك للتهديد في حال اشتدّ الصراع وأدّى إلى زعزعة استقرار القرن الأفريقي.
تمتدّ المصالح السعودية أيضاً إلى السودان نفسه. ففي العام 2021، قال مسؤول كبير إنّ المملكة تريد مضاعفة استثماراتها في البلاد إلى ملياري دولار، مع التركيز على الزراعة، كجزء من الجهود المبذولة لمعالجة أمنها الغذائي. كما وتدعم مشروع بناء خطّ سكّة حديد يمتدّ من بورتسودان إلى تشاد.
وتبرز الإمارات العربية المتّحدة كجهة اقتصادية رئيسيّة أخرى في السودان، باعتبارها أكبر شريك تجاري للبلاد، ومشتري رئيسي للذهب الذي يتقدّم على صادرات السودان كلّها. يشير مرصد التعقيد الاقتصادي إلى أنّ قيمة صادرات الذهب من السودان إلى الإمارات العربية المتحدة بلغت 2,8 مليار دولار في العام 2021، أي نحو 99 في المئة من صادرات السودان من الذهب المسجلة رسمياً ، على الرغم من التقارير التي تفيد بأنّ قوّات الدعم السريع تكسب الملايين من خلال بنية غامضة تضمّ شركات صوَريّة في الإمارات العربية المتحدة.
يتماشى الوجود الإماراتي في السودان أيضاً مع استراتيجية الإمارات العربية المتحدة الأوسع في المنطقة، والتي يتمثّل جزءٌ رئيسي منها في الاستثمار في المرافئ وشرائها. ففي ديسمبر الماضي، وقّعت الإمارات على صفقة بقيمة 6 مليارات دولار لبناء وتشغيل مرفأ جديد واسع على البحر الأحمر ومنطقة إقتصادية في أبو عمامة.
وتعتقد كلتا الدولتين الخليجيتين أنّ تأمين هذا الممرّ المائي – وهو أحد أهمّ الممرّات المائية من الناحية الاستراتيجية في العالم إذ تقع قناة السويس في طرفه الشمالي – والاستثمار في السودان سيشجّعان الولايات المتّحدة على اعتبارهما شركاء مسؤولين في المنطقة، في الوقت الذي تقلّص واشنطن وجودها في المنطقة للتركيز على مواجهة الصين.
الافتقار إلى الاستراتيجية
كلّ هذا يعني أنّ للرياض وأبو ظبي مصالح كبيرة في أن يكون السودان مستقرّاً. ومع ذلك، فإنّ علاقاتهما مع البرهان وحميدتي لم تكن دائماً طيّبة. لم يدعم أيّ من البلدين الجنرالين عندما أطاحا بالحكومة المدنية في فترة ما بعد البشير في العام 2021. وبالفعل، أثار الانقلاب إدانة المجتمع الدولي ودفع الولايات المتّحدة وحلفائها إلى تجميد مساعدات بقيمة 5 مليارات دولار. كما علّقت القوى العالمية برنامجاً لإلغاء نحو 95 في المئة من ديون السودان، التي تبلغ حوالي 60 مليار دولار.
فضلاً عن ذلك، عارضت الإمارات العربية المتّحدة قرار البرهان بإطلاق سراح شخصيّات بارزة من عهد البشير، والذين عُيِّن بعضهم في مؤسّسات الدولة في أعقاب الانقلاب. يُعتقد أنّ البرهان مدعوم من أنصار النظام السابق، الذين يبلغ عددهم نحو 500 ألف شخص، بمن فيهم أفراد داخل مؤسّسات الدولة. ومع ذلك، تحتفظ الإمارات العربية المتّحدة بعلاقات مع الجنرالين. ولم يكن من المُمكن أن تتمّ صفقة أبو عمامة من دون دعم البرهان والعلاقات التجارية المباشرة للإمارات العربية المتّحدة مع حميدتي.
تبنّت المملكة العربية السعودية مقاربة عمليّة تجاه السياسة الداخلية السودانية، وشجّعت البرهان وحميدتي في يونيو 2022 على الانخراط في حوار مع المدنيين.
بيد أنّ الافتقار إلى استراتيجية سعودية إماراتية مُشتركة ومُتماسكة إزاء السودان، قد شجّع الجنرالين على تولي زمام الأمور بنفسهما، ممّا أدّى إلى تأجيج الصراع الحالي. وفي حين تخشى المملكة العربية السعودية من أن يهدّد انهيارُ السودان الأمنَ على ساحلها على البحر الأحمر، سمح بُعد المسافة النسبي للإمارات العربية المتّحدة بتبنّيها استراتيجية دعم الجنرالين وانتظار انتصار أحدهما.
لكن في النهاية، من مصلحة السعودية والإمارات العليا ضمان انتهاء الصراع سريعاً والعودة إلى المرحلة الانتقالية التي تلت سقوط البشير، من أجل حماية مصالحهما في السودان. وعليه، شرطان إثنان لعودة السودان إلى الساحة الدولية ولتحقيق الاستقرار الذي تحتاجه الدول الخليجية ويحتاجه السودانيون نفسهم بشدّة: وقف دائم لإطلاق النار وتشكيل حكومة مدنية قويّة وذات مصداقيّة.