بعد عقدٍ على توقيع اتفاقية أوسلو الأولى في العام 1993، انقسم الرأي العام بشأن السلام الذي نتج عنها، بين من اعتقدوا أنَّها مبادرة واعدة لتحقيق السلام الإسرائيلي الفلسطيني الذي خرج عن مساره بشكل كبير، وبين من أصرّوا على أنّها تفتقر إلى العناصر الأساسيّة لأي عملية سلام مُجدية. واليوم، لو حصينا أولئك الذين لا يزالون يعلّقون آمالهم على «عملية السلام»، فلن نجد غير موظّفي الاتحاد الأوروبي والأمم المتّحدة الذين يعملون على الملف ويلقون التشجيع أحياناً من أقرانهم في واشنطن.
وتنتاب الفلسطينيين خيبةُ أملٍ عارمة من اتفاقية أوسلو وحقد على استمراريّتها، ويُمكن القول إنّ التهكّم يدور في صفوف السلطة الفلسطينية، وهي الهيئة المُكلّفة بتنفيذها. ويعتبر الفلسطينيون أنّ عمليّات الطرد المُكثّفة وتجريدهم من أراضيهم ومحاولة إفقارهم التي يشهدونها منذ العام 1993 وقائعٌ تسبّبت بحدوثها الاتفاقيات المعقودة في تسعينيات القرن الماضي، ولا يعتبرونها تطوّرات حدثت على الرغم من توقيع تلك الاتفاقيات.
مع ذلك، لا تزال قيادة السلطة الفلسطينية متمسّكة باتّفاقية أوسلو، ويبدو أنّ لا شيء يمكن أن يغيّر موقف رام الله – بما في ذلك الحكومة الإسرائيلية المتطرّفة الحالية. أمّا في قطاع غزة، حيث حازت حركة حماس على السلطة نتيجة خيبة الأمل الشعبية التى أحدثتها اتفاقية أوسلو في مطلع العقد الأول من القرن الحالي وتعهّدها بالقضاء عليها، فقد عقدت حماس سلاماً ضمنياً مع الحكم الذاتي المحدود الذي أنتجته أوسلو.
قد يتغيّر الوضع السائد قريباً، وذلك ليس لأنّه غير منيع، بل لأنّ السياسات الفلسطينية والإسرائيلية تمرّان بمرحلة انتقالية. لم تتحوَّل إسرائيل إلى نظام سلطوي على نحو متزايد فحسب، بل انتقل ناخبوها أيضاً نحو اليمين أكثر فأكثر على مرّ العقود، وبالتالي انتقل المتشدِّدون من الهامش إلى مركز القرار وكوفئوا بتمثيلٍ أكبر وقوّةٍ مُتزايدة. وإذا كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يدرك قيمة الحفاظ على أوسلو كغطاء لعمليّات الضمّ الجارفة ولاستدامة السلطة الفلسطينية من أجل ضبط الفلسطينيين، فإن شركاءه في اليمين المتطرّف غير قادرين على تبنّي المرونة التكتيكية نفسها، وينظرون إلى وجود السلطة الفلسطينية كتحدٍّ لتصميمهم على إعلان السيادة الرسمية على كامل الضفّة الغربية. بالنسبة إليهم، إنّ هدم الصرح بأكمله هو ثمن يستحقّ دفعه. والأهمّ، يعتقد أنصار الضمّ الموجودين في السلطة أنّه لن تترتّب تكاليف كبيرة عن تنفيذ خططهم، وإنّما هناك فوائد كبيرة موعودة.
وعلى الجانب الفلسطيني، يدخل رئيس السلطة الفلسطينية ورئيس منظّمة التحرير الفلسطينية، محمود عباس، عقده العاشر قريباً، وبالتالي قد يخرج من المسرح السياسي في أي لحظة. لكن الأهمّ هو غياب التخطيط الاستباقي الذي قد يرافق هذا السيناريو على الرغم من الترقّب الكبير المحيط به. بعبارةٍ أخرى، وعلى عكس الفترة المُمتدّة بين عامي 2004 و2005، عندما نُصِّب عباس على رأس المؤسّسات الوطنية الفلسطينية بالإجماع وبموجب استفتاء شكلي بعد وفاة ياسر عرفات، من المرجّح أن يحلّ الفراغ في القيادة بعده أو أن يحدث نزاع عليها – أو كليهما.
ولكن على عكس العام 2004، لم تعد السلطة الفلسطينية تتمتّع بالشرعية في صفوف الفلسطينيين كما أنّها تفتقر للخيارات القادرة على إعادة بناء الدعم الشعبي، وهذا ما يزيد من تعقيدات مرحلة ما بعد عباس. إن تمسّك السلطة الفلسطينية ومنظّمة التحرير بنموذج أوسلو، على الرغم من استمرار تدهور الظروف على أرض الواقع، أدّى إلى خسارتهما، ولا سيّما السلطة الفلسطينية، المصداقية بين ناخبيهما. لقد تحوّلت السلطة الفلسطينية، التي أُنشِئت في العام 1994 كإدارة مؤقّتة للحكم الذاتي في انتظار التسوية السياسية الشاملة التي كان من المُقرّر الوصول إليها في الألفية الماضية، إلى سلطة دائمة يناهز عمرها نصف عمر إسرائيل تقريباً. فالمفاوضات السياسية، وإن كانت هزلية سابقاً، إلّا أنها عُدِمت لسنوات. ومن هنا، ينظر معظم الفلسطينيين إلى السلطة الفلسطينية كأداة للسلطة الإسرائيلية تعمل على تسهيل عمليّات الضم بدلاً من إقامة الدولة الفلسطينية. وفي حال سعت إسرائيل إلى إضعاف السلطة الفلسطينية أكثر أو تفتيتها جغرافياً، فمن غير المرجّح أن تواجه مقاومة كبيرة، خصوصاً إذا احتوت المصالح الفلسطينية المُرتبطة ببقائها.
لقد رُوِّج للانتخابات على أنّها وسيلة مهمّة قد تمكّن السلطة الفلسطينية من استعادة مصداقيّتها. غير أنّها، وحتى في أفضل الظروف، تشكّل سلاحاً ذي حدَّين. ففي حال لم تترافق الانتخابات مع تجديد مؤسساتي، وإصلاحات تمثيلية على المستوى الوطني، وإجماع بين الفصائل، وإستراتيجية من أجل تحدّي الحكم الإسرائيلي بدلاً من التعايش معه، فإنّها ستعيد تأكيد شرعية السلطة الفلسطينية ضمن البنية الحالية لاتفاقية أوسلو.
بعد مرور ثلاثة عقود على توقيع اتفاقية أوسلو، لا يزال المشهد السياسي الفلسطيني منقسماً ومتشرذماً في وقتٍ يحتاج فيه الشعب الفلسطيني بشدّة إلى قيادة موحّدة وذات صدقية. وعلى عكس العام 1993، تخلَّى معظم الفلسطينيين عن الحركات التي هيمنت على السياسة الفلسطينية لعقودٍ، وسحبوا ثقتهم منها بشكل متزايد. أصبح الانتماء الحزبي اليوم رابطاً أقل قوّة ممّا كان عليه في السابق، وهذا ما يمكن اجتساسه من ظهور مجموعات مُسلّحة محلّية غير تابعة لهذه الحركات في شمال الضفّة الغربية تضمُّ أعضاء من منظّمات قديمة مختلفة. في الواقع، يبدو أنّ الناشطين الفلسطينيين يتحرّكون بعيداً من المؤسّسات الرسمية وانقساماتها، التي يعتبرونها قيداً يحدُّ من قدرتهم على مقاومة إسرائيل، أو حالة منفصلة عن واقع مقاومتهم، أو كليهما.
ويطرح هذا الواقع أسئلة جوهرية عن الوجهة المستقبلية. من الصعب تصوُّر إستراتيجية مماثلة في ظلّ غياب منظّمات ومؤسّسات ذات مصداقية وتمثيل، وموحّدة بالحدّ الأدنى، وقادرة على تأدية دور في صياغة إستراتيجية مُتماسكة وتعبئة الموارد اللازمة لتنفيذها. ومن أجل فهم هذه النقطة، لا يحتاج المرء سوى إلى مقارنة فعالية حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات ضدّ نظام الأبارتايد السابق أو نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا الذي قادته الأقلّية البيضاء، وهي حملة احتضنها حزب المؤتمر الوطني الأفريقي ورعاها وروَّج لها، أو حملة مقاطعة إسرائيل التي أعلنتها الجامعة العربية بين العام 1945 وأوائل التسعينيات، مع حركة المقاطعة الفلسطينية الحالية التي عمدت قيادة منظّمة التحرير والسلطة الفلسطينية إلى تجنّبها، إن لم تعمل على تقويضها. وبالمثل، فإنّ لجوء الفلسطينيين إلى المؤسّسات القانونية الدولية ومؤسّسات حقوق الإنسان، مثل محكمة العدل الدولية، ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتّحدة، ومؤخّراً المحكمة الجنائية الدولية، لاطالما شابه غياب عزيمة القيادة على المواجهة.
بالتالي، لا بدّ من أن يكون التخلّي عن اتفاقيات أوسلو وما رافقها من التزامات من الجانب الفلسطيني من ضمن أولويات مؤسّسة موحّدة من هذا النوع. وعلى الرغم من أنّ الثمن المُترتّب عن هذه المبادرة قد يكون مكلفاً وباهظاً، إلّا أنّ تأثيرها في حياة الفلسطينيين والنضال الفلسطيني في سبيل تقرير مصيرهم سيكون هامشياً، أقلّه في البداية. إنّ الحقائق والديناميكيّات وشبكة العلاقات التي تأسّست على مدى العقود الثلاثة الماضية، أصبحت راسخة بعمق، وبالتالي، لا يستطيع المرء ببساطة أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء ويزيل الضرر اللاحق على مدى السنوات الثلاثين الماضية. ومع ذلك، سيكون من المستحيل أيضاً معالجة المأزق الحالي وتصحيحه طالما أنّ الفلسطينيين يرزحون تحت نير إتّفاقية العام 1993.