في الوقت الذي تزداد فيه أهميّة التمويل اللامركزي، تكثّف المصارف المركزية جهودها من أجل الحفاظ على سيطرتها على الأنظمة المالية، بما في ذلك من خلال العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية.
وتشير خطوات اتّخذتها بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مؤخّراً إلى الاهتمام المتزايد في المنطقة بالعملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية. ففي وقت سابق من هذا الشهر، انضمّ المصرف المركزي السعودي إلى مشروع “mBridge”، وهو تجربة عابرة للحدود للعملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية، شملت حتى الآن الصين والإمارات العربية المتحدة وأعضاء آخرين. وفي الوقت نفسه، أطلقت قطر مشروعاً للعملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية، ومن المقرّر أن يدخل مرحلته التجريبية الأولى في وقت لاحق من هذا العام.
يتناول الخبراء في هذا العدد من “آراء من المجلس” الدوافع الجيوسياسية لاعتماد العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية، وانعكاساتها الاجتماعية والاقتصادية المُحتمَلة على المنطقة ودورها في إعادة تشكيل مستقبل المال.
ضرورة استعداد المنطقة للعملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية
أصبحت العملات التقليدية قديمة الطراز، ما يُمهّد الطريق أمام العملات الرقمية ومن ضمنها العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية لتحتلّ مركز الصدارة. فهي لا تمثّل التقدّم التكنولوجي فحسب، بل تشير إلى تحوّل جوهري في المشهد المالي مع تأثيرات بعيدة المدى. ولكي تكون المصارف المركزية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مستعدّة لذلك، عليها أن تتبنّى هذا التحوّل من خلال تأدية دور أكثر فعّالية في المناقشات العالمية بشأن العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية.
“تثير أوقات الأزمات، مثل الأزمة المالية الآسيوية عام 1997 والأزمة المالية العالمية عام 2008، نقاشات حول تطوّر العملات النقدية وتأثيرها في الأنظمة المالية. وبدءاً من اختراع “الليديين العملات الذهبية الموحّدة وصولاً إلى الحديث الحالي عن العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية، يؤكّد تطوّر النقود الحاجة إلى المشاركة الاستباقية في تشكيل مستقبلها. لقد سرّعت جائحة فيروس كورونا المستجدّ التحوّل نحو الرقمنة والعملات المشفّرة كدليل على الحاجة إلى اتخاذ تدابير استباقية لضمان الاستقرار المالي والحدّ من مخاطر العملات التقليدية النقدية. وفي مواجهة التحدّيات الطويلة الأجل مثل التوتّرات الجيوسياسية وتغيّر المناخ، أصبح الاستعداد للمستقبل أكثر إلحاحاً وخصوصاً بالنسبة إلى دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وقد تتمكّن دول المنطقة من المشاركة في المناقشات العالمية بشأن العملات الرقمية من خلال إنشاء مركز ابتكار مُشترك في بنك التسويات الدولية حيث توجد مبادرات دولية أخرى للعملات الرقمية. وتمكّن هذه المنصّة المصارف المركزية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من التعاون على التخطيط للعملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية وإدراجها وضمان إنجاح دمجها في بنية الحوكمة المالية العالمية.
باختصار، يمثّل تبنّي العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية لحظة محورية في تطوّر النقود. ويجب على دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا اغتنام هذه الفرصة لتشكيل مستقبل النقود بشكل استباقي.
العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية في وجه نفوذ الدولار
وفق مسح حديث أجراه صندوق النقد الدولي للسلطات النقدية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أعرب كلّ مصرف مركزي عن اهتمامه باستكشاف إمكانات تبنّي العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية. وفي الواقع، لقد اتّخذ عددٌ من المصارف المركزية في دول مجلس التعاون الخليجي خطوات من أجل تصميم عملات رقمية خاصة بها وتجريبها. تركّزت أهداف المشاركين في المسح بشكل أساسي على توسيع الشمول المالي وتعزيز فعّالية أنظمة الدفع المحلية والعابرة للحدود. وتنطبق هذه الأهداف على البلدان كافّة إنّما بدرجات متفاوتة من الأهمية والإلحاح.
بيد أنّ المسح لا يكشف إذا ما كانت البلدان مدفوعة أيضاً باعتبارات جيوسياسية لاعتماد هذه العملات الرقمية، إذ لا بدّ من أن تؤخَذ في الاعتبار بينما يتكيّف النظام المالي الدولي الذي يهيمن عليه الدولار مع تفاقم المنافسة الجيوسياسية وتزايد الانقسامات المالية. إذ يدفع التهديد المتزايد باستخدام قوة الدولار لفرض العقوبات ومنع الوصول إلى المدفوعات العابرة للحدود البلدان إلى التخفيف من المخاطر الناجمة عن الاعتماد المفرط على الدولار والأنظمة التي تسيطر عليها الدول الغربية. وباستخدام هذه العملات، ستتمكّن البلدان من إجراء المعاملات المالية بتجاوز النظام القائم على الدولار.
وليست صدفة أنّ الدول الأسرع في اعتماد العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية في المنطقة – أي المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة – هي الأنشط جيوسياسياً وربّما الأكثر تعرّضاً للإجراءات الأمريكية. حافظت كلتا الدولتين على علاقات متينة مع روسيا بعد غزوها أوكرانيا، وسعت إلى تعميق التعاون التجاري والتكنولوجي مع الصين. وتعرّضت كل من روسيا والصين لعقوبات أمريكية في السنوات الأخيرة وهما عضوان مؤسّسان في مجموعة البريكس التي تضمّ الآن الإمارات العربية المتحدة، فيما لا تزال المملكة العربية السعودية تبحث في الدعوة للانضمام.
كيف يمكن لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الاستفادة من العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية؟
يمكن أن تشكّل العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية أساساً للمعاملات الرقمية النقدية والمالية والسوقية الآمنة والفعّالة. بالنسبة إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تنقسم الفوائد الاجتماعية والاقتصادية لطرح العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية إلى شقّين:
أولاً، بالنسبة إلى الدول النامية، يمكن أن يؤدّي التداول بالعملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية إلى زيادة الشمول المالي. ففي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا – باستثناء الدول المرتفعة الدخل، 48 في المئة من البالغين فقط لديهم حسابات مصرفية، وهو أقل بنحو 23 نقطة مئوية بالمقارنة مع متوسّط الاقتصادات النامية. ويمكن استخدام العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية والمصمَّمة للعمل من دون اتصال بالإنترنت من قبل غير المتعاملين مع المصارف والعدد الكبير من السكّان المهاجرين واللاجئين والنازحين. فضلاً عن ذلك، يشكّل التشغيل البيني المشترك ميزة حيوية، إذ يمكّن من تبنّي العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية واستخدامها بشكل أكبر. ويمكن استخدام البيانات المستمَدّة من استخدام العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية لإنشاء ملفّات تعريف ائتمانية، وتحسين الوصول إلى التمويل ولا سيما للشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم، بحيث سيقلّل التفاوت في الإقراض الناشئ عن نقص المعلومات عن مخاطر الائتمان.
ثانياً، بالنسبة إلى الدول الأكثر ثراءً مثل دول مجلس التعاون الخليجي، من شأن العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية أن تسهّل التجارة والمعاملات المالية من خلال خدمات الدفع عابرة للحدود أسرع وأرخص وأكثر شفافية وشمولاً، مع الحدّ من مخاطر هذه المدفوعات وزيادة فعّالية تسديدها.
والأهم هو حاجة العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية إلى بنية تحتية آمنة وشاملة، ومن ضمنها البنية التحتية الرقمية العامة لإطلاق الهويات الرقمية، على غرار الهوية الرقمية الوطنية (مثل “Aadhaar” في الهند) أو أنظمة الدفع في الوقت الحقيقي (مثل “Pix” في البرازيل أو “InstaPay” في مصر)، أو أنظمة الدفع المتكاملة (مثل البرنامج الصيني التجريبي “e-CNY” والتكامل مع هونغ كونغ)، وغيرها. لا بدّ من أن يشكّل الشمول الرقمي أحد ركائز خطط طرح العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية بالتوازي مع دمج الثقافة المالية وحماية البيانات في العملية. ولا بدّ من اعتماد نهج شامل – وليس منعزلاً – لتصميم العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية وطرحها.
دراسة العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية
ينبع الاهتمام العالمي بالعملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية – سواء في البحث والتطوير، أو البرامج التجريبية، أو بتبنّيها – بشكل أساسي من رغبة المصارف المركزية في دعم التمويل المركزي والحفاظ عليه بالتوازي مع صعوبة تنظيم العملات المشفرة. على صعيد التمويل اللامركزي، تمثّل التطور الأكبر في الأشهر الأخيرة بموافقة الولايات المتحدة على إدراج صناديق التداول بعملتي البتكوين والإيثريوم في البورصة. من ناحية أخرى، حظرت الصين استخدام العملات المشفّرة وأطلق بنك الشعب الصيني المشروع التجريبي لليوان الرقمي (e-CNY).
ودفع توجّه الصين نحو اليوان الرقمي إلى إطلاق اختبارات التشغيل البيني في بنك التسويات الدولية من خلال مشروع “mBridge“، الذي انضمّت إليه المملكة العربية السعودية مؤخّراً كـ «مشارك أساسي» إلى جانب المصارف المركزية من الصين وهونغ كونغ وتايلاند والإمارات العربية المتحدة. وقبل المشروع، أجرت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة اختباراً للتشغيل البيني من خلال مشروع “Aber“. ويمكن ذكر مشاريع التشغيل البيني متعدّدة أخرى في بنك التسويات الدولية، بما في ذلك مشروع “Mandala“ (مع المصارف المركزية في جمهورية كوريا وسنغافورة وماليزيا وأستراليا) ومشروع “Agorá“ الذي يضمّ بنك اليابان، وبنك كوريا، وبنك فرنسا الذي يمثّل النظام الأوروبي، وبنك المكسيك، والبنك الوطني السويسري، وبنك إنجلترا، وبنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك.
تعكس مجموعات البلدان ضمن هذه المشاريع اللعبة الجيوسياسية المعقّدة والفجوات التكنولوجية وراء تطوير العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية. في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، من المهم جدّاً أن تكون دول المنطقة حذرة في خطواتها لتبنّي العملات الرقمية، ولكن لا بدّ أيضاً من التأنّي بشأن التكنولوجيا والنماذج الأولية بما يتماشى مع ظروفها الاجتماعية والاقتصادية بحسب كل دولة. وتفيد هذه الاستعدادات المنطقة لقياس أهدافها في مجال التمويل الرقمي بمعزل عن قرار تبنّي العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية.
إيجاد الدور الصحيح للمصارف المركزية مع العملات الرقمية
يشيد أنصار العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية بانعكاساتها الاجتماعية والاقتصادية الكبيرة، ومن ضمنها تعزيز الشمول المالي بين السكّان المحرومين من الخدمات المصرفية وغير المتعاملين مع المصارف. والواقع أنّ العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية قادرة على تحسين فعّالية المعاملات عبر خفض تكاليفها والوقت المطلوب لإنجازها، ما قد ينعكس إيجابياً بشكل غير متناسب على السكّان ذوي الدخل المنخفض والمحرومين من الخدمات المصرفية. وتُعتبَر العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية واعدة للمعاملات العابرة للحدود، إذ تعمل على خفض التكاليف والتأخيرات في إنجاز التحويلات المالية وتعود بالنفع على العمّال المهاجرين وأسرهم. ويمكن للحكومات أيضاً استخدام العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية لتحويل المدفوعات مباشرة إلى المواطنين، ما يمكن أن يكون فعّالاً في أوقات الطوارئ والأزمات.
وفي حين يمكن تصميم العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية لتعزيز الشمول المالي، وهو ما يجب القيام به بالأساس، تقدّم منصّات رقمية أخرى بالفعل خدمات التحويلات المالية المجّانية وشبه الفورية، والدفع عبر الهاتف المحمول، وحلول مصرفية من دون الحاجة لزيارة الفروع. على سبيل المثال، أصبحت منصّة “إم-بيسا” (M-PESA)، والتي أُطلِقت في كينيا عام 2007 كخدمة لتحويل الأموال عبر الهواتف المحمولة، تقدّم الآن إمكانية الادّخار والاقتراض. ويمكن حتى معالجة التأخيرات في المعاملات العابرة للحدود عبر تطوير معايير مشتركة وتحسين التشغيل البيني المشترك بين الأنظمة المصرفية. ويمكن تسديد المدفوعات للمواطنين في الحالات الطارئة من خلال منصّات الدفع الرقمية الحالية، وليس بالضرورة باستخدام العملات الرقمية.
تؤدّي المصارف المركزية دوراً جوهرياً عبر إدارة المعروض النقدي وتطبيق السياسة النقدية وتنظيم المؤسّسات المالية. ويجب ألّا يشتّت إصدار العملات الرقمية انتباهها عن هذه الوظائف الأساسية، بل يجب أن تركِّز على المخاطر والتحدّيات المرتبطة بالعملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية مثل تهديدات الأمن السيبراني والقضايا المتعلّقة بخصوصية البيانات. وفي البدايات تحديداً، يجب على المصارف المركزية أن تحرص على عدم إزاحة المنصّات الرقمية الأخرى أو مزاحمتها. ويجب أن تصدر عملات رقمية مصمّمة لضمان الشمول المالي مع السماح لمنصّات أخرى بالعمل كقنوات للوصول إلى من هم بحاجة.
الأفكار الخاطئة الثلاثة حول العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية
خلقت التوقّعات الناجمة عن اعتماد العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية «تفاؤلاً تقنيّاً» متزايداً وخصوصاً في الجنوب العالمي. ولكن هذه المشاعر مبنيّة على أفكار خاطئة.
تتمحور الفكرة الخاطئة الأولى حول قدرة العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية على خلع الدولار الأمريكي عن عرشه باعتباره العملة الاحتياطية الدولية. ويحمل اليوان الرقمي الصيني تحديداً آمالَ دول الجنوب الناشئة ديموغرافياً واقتصادياً التي تسعى إلى الحدّ من قوّة الدولار. ومع ذلك، من المتوقّع أن يظلّ الدولار العملة الاحتياطية المهيمنة على المدى المتوسّط، إلّا في حال وقعت أحداث كارثية أو ارتُكبت أخطاء سياسية فادحة.
أمّا الفكرة الخاطئة الثانية، فتتعلّق بقدرة العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية على تبديد المشكلات البنيوية التي تواجه البلدان النامية على مستوى الاقتصاد الكلّي. وتقدّم عملة نيجيريا الرقمية “eNaira” مثالاً واضحاً على عجز هذه العملات عن القيام بذلك. وقد دفع الإقبالُ المحدود بعد طرح “eNaira” السلطات النيجيرية إلى اتّخاذ إجراءات صارمة لكبح العملات المشفّرة والسوق السوداء للعملات الأجنبية.
وترتبط الفكرة الخاطئة الثالثة بإحسان الحكومات التي تضغط من أجل تبنّي العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية. والواقع أنّ الحكومات في مختلف أنحاء العالم تسلّحت بحجة الشمول المالي باعتباره الدافع الأساسي لتبنّي هذه العملات. ومع ذلك، قد تؤدّي الأهداف غير المعلَنة إلى قمع الأموال الرقمية الخاصة، وبالتالي وضع حالة لإمكانية إخفاء تفاصيل العمليات والتداولات التي تتم بها. وفي حين تنطوي الأموال الرقمية الخاصة، ومن ضمنها العملات المشفّرة، على مخاطر تفرض ضرورة تنظيمها، ينبغي أيضاً اعتبار العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية باعتبارها مكمّلة للأموال الخاصة، لا بديلاً عنها.
العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية: الزخم العالمي والإقليمي والأخطاء
يتزايد الزخم لاستخدام العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية عالمياً، وكذلك في دول مجلس التعاون الخليجي، إلّا أنّ الدوافع تختلف. فالدول الخليجية تهدف من خلال اعتمادها هذه العملات إلى تعزيز استقرارها المالي ورفع مكانتها على المستوى العالمي. ترى اقتصادات الدول الخليجية الغنية بالنفط التي تعتمد أسعار صرف ثابتة أنّ عملاتها الرقمية قد تصلح كعملات مستقرّة سيادية إذا رُبطت بالنفط أو بالعملات التقليدية، لتتجاوز بذلك العملات المستقرّة الخاصة مثل “Tether”. ومن شأن ذلك أن يحوّل المصارف المركزية في الدول الخليجية إلى جهات فاعلة نافذة في هذا المجال.
وعلى مستوى العالم، تُعتبَر العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية أدوات للرقابة المالية في الوقت الفعلي وتعزيز التنظيم. ويمكّن تتبّعُ المعاملات في الوقت الفعلي المصارفَ المركزية من مراقبة الأنشطة الاقتصادية عن كثب، ورصد المخالفات على الفور، وتنفيذ التدابير التنظيمية بسرعة. حتى مع التداول المحدود، يمكن أن تساعد الرؤى بشأن العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية في منع الأزمات المالية، وتخفيف المخاطر النظامية، وتعزيز الاستقرار. لكن من الخاطىء اعتبار العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية بدائل عن العملات المستقرّة اللامركزية، فهي تعمل خارج الأنظمة التقليدية، وتقدّم خدمات لامركزية غير محدودة تعجز العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية عن القيام بها.
لقد تطوّرت إلى حدّ بعيد الرقمنة الحالية لأنظمة الدفع، ما يعني أنّ العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية قد لا توفّر فوائد فورية محلياً. ومع ذلك، يبقى اعتماد العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية أساسياً لحماية البنية التحتية المالية في المستقبل، ولا سيما تعزيز المعاملات العابرة للحدود. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للعملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية أن تتكامل بسلاسة ضمن نظام رقمي لتمويل التجارة، عبر استخدام تقنية دفتر الأستاذ الموزّع (DLT) والعقود الذكية. وهذه فرصة كبيرة، قد تؤدّي إلى إحداث ثورة في التجارة والتمويل من خلال معاملات أسرع وأكثر فعالية من حيث التكلفة وأكثر أماناً.
صحيح أنّ الدوافع وراء اعتماد العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية واضحة، إلّا أنّ دورها يجب أن يكون مكمّلاً للعملات المستقرّة اللامركزية. لا بدّ من أن تركّز الدول على الاستفادة إلى أقصى الحدود من العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية للحماية من المستقبل، والتكامل مع أنظمة تمويل التجارة المتقدّمة، وتحسين المعاملات العابرة للحدود لضمان نظام مالي قوي ومبتكر ومرن.
ابتكارات أنظمة الدفع: المخاطر والفرص
في هذا العصر الرقمي، تُحدث العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية وأنظمة الدفع المبتكرة الأخرى ثورةً في التمويل عبر تعزيز المعاملات المالية السلسة. وتأتي دول مثل الصين وتايلاند والإمارات العربية المتّحدة في الصدارة في مجال العملات الرقمية لتوفير مدفوعات رقمية آمنة وفعّالة تمهّد الطريق أمام دول أخرى.
وتقود سنغافورة أيضاً عدداً من المبادرات الرائدة. وتستكشف مشاريع مثل “Dunbar” و”Partior” و”Nexus” استخدام العملات الرقمية الصادرة عن المصارف المركزية لإجراء المدفوعات العابرة للحدود وتعزيز أمن البيانات والتشغيل البيني المشترك. والجدير بالذكر أنّ مشروع “Orchi” يطرح الأموال المُحدّدة الغرض عبر استخدام العقود الذكية لتخصيص الأموال لأغراض محدّدة، ومن ضمنها مبادرات الاستدامة والتمويل الأخضر من أجل تعزيز الشفافية والتدخلات الهادفة.
وهذه الأنظمة تكمِّل أنظمة الدفع بتقنية دفتر الأستاذ الموزّع، مثل “Finternet” و”Hyperledger” التابعين لبنك التسويات الدولية، والتي تعمل على تعزيز الشمول المالي للسكان المحرومين من الخدمات المصرفية وتمكين الوصول إلى التمويل المُستدام عبر تبسيط المعاملات.
تظهر العملات المستقرّة، أي الأصول الرقمية المرتبطة بالعملات الورقية أو الأصول الحقيقية، كوسائط موثوقة للتبادل وتخزين القيمة في الاقتصاد الرقمي. وتعيد العملات المستقرّة مثل “Tether” و”USD Coin” تشكيل مشهد المدفوعات.
صحيح أنّها ابتكارات تحوّلية، إلّا أنّها محفوفة بالمخاطر إزاء الاستقرار المالي وغسيل الأموال وتداعيات السياسة النقدية. بالتالي، من الضروري التخطيط الحذر والتعاون للتخفيف من المخاطر وجني الفوائد، من بينها التقدّم نحو أهداف التنمية المستدامة.
وقد تستفيد الديناميات الاقتصادية الفريدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من هذه التقنيات في المعاملات الرقمية الآمنة التي تراعي الخصوصية وتحافظ عليها، وكذلك في المدفوعات السلسة، وتعزيز التجارة، والنمو، والوصول إلى التمويل الأخضر. مع ذلك، يبقى من المهم معالجة التجميد المُحتمل للعملة، والتعامل مع الأزمات المصرفية، وضمان التدفّقات السريعة لرأس المال.
هذه المقالة هي ضمن سلسلة مقالات “آراء من المجلس” يعبّر من خلالها الزملاء والخبراء في المجلس عن آرائهم ورؤياهم حول القضايا الرئيسية التي تواجه منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفيها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.