يسعدنا في أفكار أن نعلن أننا وصلنا إلى المقالة 100! وفي هذه المناسبة، يطلّ علينا مدير مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية، طارق محمد يوسف، في مقابلة أجراها معه محرّر المدوّنة عمر عسن عبدالرحمن. يتحدّث يوسف في هذه المقابلة عن الاتجاهات الإقليمية في أعقاب 7 أكتوبر، ويقدّم، بصفته خبير اقتصادي، وجهة نظره حول التداعيات الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة للحرب، والتأثيرات المجتمعية والسياسية الأوسع، بالإضافة إلى الانقسام الظاهر في العالم العربي بين الدول الخليجية والدول الأخرى. قمنا بضبط لغة المقابلة وطولها توخّياً للوضوح.
عمر حسن عبدالرحمن: من بين جوانب الأزمة الحالية التي لم يتمّ التطرّق إليها كثيراً هي مسألة الانعكاسات الاقتصادية للحرب على المنطقة. بصفتك خبير اقتصادي، ماذا يمكنك أن تخبرنا عمّا تمرّ به المنطقة حالياً من الناحية الاقتصادية؟
طارق محمد يوسف: الجميع يفترض أنّ الأزمة الجيوسياسية الحالية، أي الحرب على غزة، كان لها تأثير اقتصادي كبير. وقد يكون هذا صحيحاً، لكنّنا لا نراه بالكامل لغياب الشفافية على مستوى السياسات الحكومية والمؤشرات الاقتصادية – في هذه المنطقة نشعر بانعكاسات الأزمات بشكلٍ متأخّر، ولا يقتصر ذلك على هذه الأزمة فحسب. غير أنّ الأسباب كافة تدفعنا إلى الافتراض أنّ الشعور حيال اقتصاد المنطقة أصبح سلبياً بشكلٍ عام، لا سيما في الدول الأقرب إلى المناطق المتضرّرة من الاضطرابات – على غرار الأردن ومصر ولبنان – وربما المناطق الأبعد منها إنّما بدرجةٍ أقل. لقد اقتصرت الآثار الاقتصادية المباشرة حتى الآن وإلى حدّ كبير على غزة وفلسطين بشكلٍ أوسع وإسرائيل بالطبع وعلى محيطها المباشر. والوضع مقلقٌ كذلك في الدول التي يمكن أن تشهد تصعيداً– على غرار إيران والعراق ولبنان واليمن. أمّا في المناطق الأبعد، مثل المغرب والمملكة العربية السعودية، فما من أيّ تأثيرٍ ملحوظ. بعبارة أخرى، يختلف الوضع من دولة إلى أخرى، إذ نرى أنّ عدداً من البلدان قد تأثّر في حين أنّ البعض الآخر يمضي قدماً كالمعتاد.
لكنّها ليست بالضرورة الطريقة التي نريد أن نتحدّث بها عن التأثير الاقتصادي، لأننا سنكتشف في نهاية المطاف انعكاسه على الدخل والاستثمار ومستوى الفقر، والتنمية البشرية في خلال الأشهر السبعة الماضية وفي المستقبل القريب. مثلاً، من الصعب أن نتخيّل ألّا يـأخذ العالم الخارجي – لا سيما المستثمرون والشركات والشركاء الاقتصاديون – بعين الاعتبار خطر نشوب الصراعات والحروب في المنطقة من الآن وصاعداً. بالتالي، ستظهر الآثار الاقتصادية وتتراكم مع مرور الوقت بينما يتغيّر مستقبل المنطقة حيث يولي الناس أهمية أكبر للمخاطر في أيّ خطوة يقدمون عليها. بالتالي، ستتأثر تدفّقات الاستثمار، وسترتفع تكلفة الديون، وستتعرض الموازنات الحكومية لضائقة مالية.
إلّا أنّ السؤال الكبير الذي يُطرح حول هذه الأزمة هو مدى انعكاسها على السياسة والتنسيق والتعاون في المنطقة بشكلٍ عام في المستقبل. ضع في الاعتبار أنّ هذه المنطقة عانت كثيراً في خلال العقد الماضي بسبب الانقسامات والخلافات الناشئة والمنافسة الجيوسياسية، التي كلّفتها الكثير على مستوى الاندماج الاقتصادي الاقليمي المحدود أصلاً. وبقدر ما أعادت هذه الأزمة القضية الفلسطينية إلى الواجهة وستفرضها على نظرة الدول وأفكارها بشأن المستقبل وانخراطها مع الآخرين، يمكن أن يكون لها تأثير أكبر في النظام الإقليمي أو غيابه، وفي أولويات الدول الإقليمية من حيث طريقة انخراطها مع القوى الخارجية.
عبدالرحمن: ماذا عن انعكاسها على الاتجاهات الاقتصادية القائمة وغيرها في المستقبل الأبعد؟
يوسف: تأتي هذه الأزمة في أعقاب عقدٍ شهدت في خلاله دول المنطقة المتوسطة والمنخفضة الدخل بمعظمها هزات كبيرة، على رأسها الربيع العربي والثمن الاقتصادي للاضطرابات، وانهيار أسعار النفط الذي تلاها، والمنافسات الجيوسياسية، والحروب الأهلية، بالإضافة إلى تدهور الاندماج الاقتصادي وانهيار تدفّق المساعدات الرسمية. وبعد كلّ ذلك، ظهرت جائحة فيروس كورونا المستجدّ لتزيد من المعاناة.
في خلال هذه الفترة، شهدنا ظهور تباين متزايد بين الدول الخليجية وبقية المنطقة. يمكنني القول إنّ العقد الماضي عزّز ذلك وبلوره أكثر من أي فترة مضت. وأصبح صعباً عدم النظر إلى الدول الخليجية على أنّها تقود المنطقة اقتصادياً وهي التي تحدّد مسارات النشاطات الإقتصادية وسرعتها في المنطقة. غير أنّها تقوم بذلك بشكل فرديّ وبطرقٍ متعدّدة، وتفكّر بالعالم وبالاستثمار أكثر خارج المنطقة، وهي تبدّي مصالحها الاقتصادية الوطنية الخاصة بشكل متزايد على حساب الدول الأخرى. لذا، في المؤشّرات الاقتصادية والاستعداد التكنولوجي والتقدّم على صعيد النتائج الاجتماعية والاقتصادية، من بين أمور أخرى، ابتعدت الدول الخليجية في العقد الماضي عن بقية المنطقة بأشواط لدرجة أنّه بات ممكناً حقاً التحدّث عن عالمين عربيين: الدول الخليجية والدول الأخرى. ومن بين هذه الدول، تبرز تلك التي تتدبّر أمورها فيما تتخبّط دول أخرى في صراعات وترزح تحت اضطرابات مستمرّة، على غرار ليبيا وسوريا واليمن والسودان.
وهنا لا بدّ من التفكير بانعكاس الحرب الحالية على غزة على الاتجاهات القائمة. هل ستجد المنطقة روح تعاون جديدة؟ هل ستبدأ الدول بإعادة النظر في الالتزامات التاريخية بالاندماج الإقليمي، أم أنّها ستعزّز الاتجاهات التي ظهرت مؤخّراً؟ وأنا أخشى أن تسير الأمور في كلا الاتجاهين، بحيث تقول الدول الخليجية لنفسها: “من ناحية هذه المنطقة تكّلفنا. مستقبلنا مرتبطٌ بما يحدث في هذا الجوار. إنّ الأعباء الاقتصادية الناجمة عن كلّ ما يحدث في غزة والانعكاسات على بعض حلفائنا ووكلائنا هائلة. لدينا أولويات أخرى. نحن جزء من الساحة العالمية ونتطلّع إلى أن نكون قوى وسطى. لذا سنعزل مشكلة فلسطين ونقوم بالحدّ الأدنى بمفردنا”.
من ناحيةٍ أخرى، يمكن أن نرى أنّ القادة باتوا يدركون أنّها “مشكلة افترضنا أنّه يمكننا تجاهلها، لكنها عادت لتقضّ مضجعنا. علينا الآن أن نجد وسيلة لحلّها والتخفيف من آثارها السلبية. إذا كان ذلك يعني العمل معاً- مجدّداً، من أجل مصالح اقتصادية وأمنية ذاتية – فسنقوم بذلك”. ليس واضحاً لي بعد ما سيحدث. لكن باستثناء فلسطين، يصعب عليّ معرفة كيف ستتغير قصة المنطقتين كثيراً على أساس ما يحدث حالياً في غزة. أعتقد أنّه سيعزّز التباين الذي ظهر سابقاً.
في ضوء كلّ ما يجري في العالم والقضايا التي تشغل بال هذه الدول، سواء أكانت المنافسة في الأسواق الصاعدة أم التحوّط الجيوسياسي أم مكانتها على الساحة العالمية الجديدة، ستُترك دول كثيرة وراء الركب وتصبح قصة العالمَين العربيَين الإطار المهيمن على الديناميات والتوقّعات والمناقشات المتعلّقة بالسياسات بشكلٍ متزايد. نرى أنّ المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة في موقفٍ مختلف جداً عن مصر والجزائر والعراق وغيرها من الدول التي لا تزال تعاني وتتخلّف عن الركب وتخسر. يمكنني القول إنّ البلد الوحيد من خارج الدول الخليجية الذي يشكّل استثناءً هو المغرب بسبب بعده الجغرافي واستقراره الطويل الأمد ومؤسساته القوية نسبياً. لكن حتى مستقبل المغرب يشكّل علامة استفهام نظراً للتوترات الجيوسياسية الناشئة في الجوار.
عبدالرحمن: مفهوم العالمين العربيين المتباينيين مثير للاهتمام، لا سيما في آثاره. لكن هل تستطيع الدول الخليجية الهروب حقاً أو عزل نفسها عن سائر المنطقة؟ إذا تباعد هذان العالمان العربيان للغاية، فهل سيلوح تغييرٌ أكثر ثورية أو نموذجية في الأفق؟ أو ربما إعادة اصطفاف كبرى؟
يوسف: ما أصفه هو الاتجاهات. لكنّك محق بأنّه يمكن تحدّيها أو تقويضها أو ربما عكسها من خلال ما يحدث خارج منطقة الخليج.
بالمناسبة، لم نتطرّق البتة إلى إيران ومستقبل العلاقات مع إيران إذا أصبحت طهران معزولة أكثر، ناهيك عمّا قد يحدث في ظلّ إدارةٍ أمريكية جديدة. لن تقف إيران مكتوفة الأيدي وتسقط من دون جرّ الآخرين معها. يبدو أنّ أحد دروس الأعوام الـ15 الماضية هو التالي: لا يمكن تجاهل إيران. ينبغي إيجاد وسيلة لإدارة العلاقة والتخفيف من المخاطر الناجمة عنها.
بالتالي ستكون هذه الحجة المضادة للفكرة القائلة بأنّ نتيجة العالمين العربيين هي خيار يمكن أن يهيمن إلى أجل غير مسمّى من دون نشوء نوع من التوافق والنظام الإقليمي. منذ السابع من أكتوبر، رأينا الإمارات العربية المتحدة تضخّ الكثير من الأموال في مصر. صحيح أنّه استثمار ضخم، لكنّه كان أيضاً جزءاً من خطة إنقاذ للحكومة المصرية. ونحن نعلم أنّ الأردن لا يتمتّع الآن بالثقة وبآفاق مستقبلية إيجابية. يمكن أن ينهار الوضع بسرعة كبيرة أو يتدهور لأسباب تتعلّق بالسابع من أكتوبر وبما يحدث في فلسطين. والأمر سيان بالنسبة إلى لبنان.
لنأخذ بعين الاعتبار كذلك تحرّكات إيران الأخيرة تجاه إسرائيل والتي أظهرت قدرة عسكرية هائلة من المنظار الإقليمي حتى لو كانت بهدف الاستعراض فقط ولم تغيّر شيئاً على الأرض. يدرك الجميع أنّ الردّ الدفاعي الكبير الذي نسّقه الغرب كان في خدمة إسرائيل، وليس من أجل المملكة العربية السعودية أو الإمارات العربية المتحدة أو أي جهةٍ أخرى. ويذكّر هذا مرّة أخرى بأنّ مأزق النظام الإقليمي، وحتميّته، سيستمر في الإلقاء بظلاله على أي مفهومٍ متعلّق بنتائج اقتصادية مرنة ومستقرّة تُحقّق الازدهار والاستقرار وتدفّق الاستثمار.
عبدالرحمن: لقد ناقشنا بعض الاتجاهات الاقتصادية والسياسية المرتكزة على الدولة. ولكن كيف تستوعب المنطقة ما يحدث في غزة وأبعد منها على المستوى المجتمعي؟
يوسف: في هذه المنطقة، تتبلور التداعيات بعد فترةٍ. بالتالي، دائماً ما يشعر الأشخاص الذين يبحثون عن نتائج فورية وآنية بالإحباط. وهذا يفسح المجال أمام كمّ من الافتراضات حول الخمول واللامبالاة وخيبة الأمل – وقد يكون البعض منها صحيحاً. لكن ما يسبّبه حدثٌ مثل الحرب على غزة أو غزو العراق أو سوء استغلال منهجي للسلطة وممارسات استبدادية وقمع سياسي، يبني مستودعاً من المظالم مع مرور الوقت الذي يصبح عرضة للانفجار في الظروف المناسبة. يمكنني القول إنّ ذلك قد يشكّل أكبر درس من دروس الربيع العربي الذي سلّط الضوء على عدم إمكانية توقّع ردود فعل الرأي العام على ما يحدث نتيجةً لتراكم الأمور.
ما يحدث الآن يكاد يعيدني إلى ما بعد غزو العراق، لحظة ما قبل الربيع العربي حيث كان استقرار النظام نتيجة حتمية في أذهان معظم الناس. لم تكن استدامة معظم هذه الأنظمة الاستبدادية واستقرارها واستمراريتها أمراً مفترضاً على نطاق واسع فحسب، بل اعتُبر مفروغاً منه. إلّا أنّ تراكم هذه المظالم المحلّية –اقتصادية وسياسية وحقوق إنسان وحريات مدنية، مقروناً بتراكم المظالم المتعلّقة بالمسائل الإقليمية – أشعل الربيع العربي. لا يمكن التغاضي عن ذلك أو استبعاده كلياً أو القول إنّه لن يحدث لأن الناس منهكون وآمالهم خابت. ما فعلته غزة على الأرجح هو زرع الكثير من بذور الدراديكالية والحراك الناشطي الكامن. يمكن أن تنفجر وعندها ستكون غير متوقّعة بتاتاً ومزعزعة للاستقرار للغاية، وربما عنيفة. وتشكّل هذه إحدى تبعات الحرب على غزة على المدى الطويل: زعزعة استقرار المنطقة من خلال تراكم من المظالم والغضب والامتعاض واليأس الراسخة في أذهان الكثير من الناس.
من جهة أخرى، يزداد الوعي لدى شعوب المنطقة حول القضية الفلسطينية بالإضافة إلى الشعور بالإحباط إزاء ضآلة جهود الدول العربية لحماية المدنيين وفرض وقف لإطلاق النار. في الواقع، يرى الناس العكس، فهم يرون ما يبدو أنّه تعاون بين بعض الجهات الفاعلة الإقليمية وإسرائيل لإطالة أمد الحرب أو لضمان تدمير حماس كإحدى النتائج. ويبرز وعي حديث بشأن القضية الفلسطينية، وقد عادت سردية المقاومة والتضحية الفلسطينية بقوةٍ. وينبثق وعي جديد لدى جيل اعتُقد أنّه نسي القضية لأن الانتفاضات والنضالات السابقة والمقاومة قد حدثت قبل أجيال. إذاً لقد استيقظ الشارع العربي كي لا أقول إنّه حُشد سياسياً، لا سيما جيل الشباب. وذلك، بالإضافة إلى كل ما يحدث، يؤجّج قلق الأنظمة، ويخلق محفّزات محتملة للاضطرابات ويؤثّر في الطريقة التي ينظر بها الناس إلى أنفسهم وإلى المنطقة وإلى علاقتهم بالعالم الخارجي.
بالتالي، أعادت أحداث السابع من أكتوبر، وخاصّة سلوك إسرائيل ما بعد السابع من أكتوبر، ترتيب وجهات النظر والرؤى والمفاهيم لدى الكثير من الناس بشأن أنفسهم والمجتمعات والأنظمة والعالم. من هذا المنطلق، فهو في صدد إنشاء نظام إقليمي جديد بالمعنى السياسي الفكري – ومنظور جديد أو طريقة جديدة تنظر بها الشعوب إلى أنفسها وإلى العالم الخارجي. ولعله التأثير الأكثر أهميّة على المدى الطويل.
عبدالرحمن: نعم، بالنظر إلى أي حدّ قد رسم الصراع العربي الإسرائيلي معالم المنطقة منذ 50 – 75 عاماً، لعلّ الأجيال الشابة التي لم تشهد ذلك تتساءل عن سبب استجابة المنطقة للسابع من أكتوبر بهذه الطريقة غير المرضية، ويمكن أن يؤدّي ذلك إلى تشكيل هويات سياسية جديدة ووجهات نظر سياسية متمحورة حول هذه الديناميات. هل هذا صحيح برأيك؟
يوسف: إنّ تأثير هذه الديناميات أمرٌ لا يمكن التنبّؤ به أو إملاؤه. في الواقع، عندما اندلعت احتجاجات الربيع العربي عام 2011، لم يكن أحد يتوقّعها. غير أنّ الجميع فهم سبب حدوثها. من هذا المنطلق، أعتقد أننا نزرع بذور الاضطرابات والاحتجاجات المستقبلية إذ تبدأ شعوب المنطقة باستيعاب كل ما شاهدته. لنتذكر قبل بضع سنوات فقط الرسالة التي قيلت للكثير من العرب وتلك التي سُوّقت لأجيال من الشباب، ألا وهي أنّ الأولوية هي كسب المال وتحصيل العلم والحصول على وظيفة؛ وأنّ الأمر يتعلّق أيضاً بوسائل التواصل الاجتماعي والازدهار والاستقرار والسلطوية وعدم القلق بشأن أي شيء لأننا سنهتم بالأمر. إلّا أنّ القناع قد سقط، ومن يتابع TikTok وFacebook وما يحدث في وسائل الإعلام يمكنه رؤية هذا الوهم.
هذا أمر بالغ الأهمية. لا أتذكّر بحياتي أي حدث مزعزع للاستقرار الجيوسياسي كان له هذا النوع من التأثير المدوّي والقادر على التقويض بشكل جوهري وعلى إعادة توجيه العقول، أكبر من الذي نراه اليوم. وقد عايشت حقبة الثمانينيات والتسعينيات.
عبدالرحمن: بالنظر إلى المستقبل، هل ترى ما يجعلك متفائلاً؟
يوسف: على المدى القريب، لا أرى ما يبعث على التفاؤل. أرى أنّ قصة العالمين العربيين تشكّل الاتجاه السائد الذي ستشهده المنطقة. بيد أنّ مستقبل الأمن الإقليمي سيؤثّر في ذلك. مثلاً، لن تستطيع دول مثل مصر والأردن الاعتماد بنفس الأسلوب السابق على الديون الخارجية أو أن تعول على المساعدات المالية من الدول الخليجية. والدول المصدّرة للنفط، على غرار الجزائر وليبيا والعراق، لا يمكنها الحفاظ على الوضع الراهن بفضل إيرادات الهيدروكاربونات من دون المخاطرة بالتأخّر أكثر عن الدول الأخرى. وتواجه الدول في مناطق الصراع أسوأ مصير. وأصبح الجميع نوعاً ما رهينة للأوضاع التي تتغيّر إنّما ليس في صالحهم. من الناحية الاقتصادية، نرى أنّ عصر العولمة يتحوّل أكثر فأكثر إلى عالم من المنافسات الجيواقتصادية والتحالفات الجيوسياسية الجديدة ويرزح عددٌ من هذه الدول تحت أعباء ديون ضخمة. وتحولات الطاقة تجري على قدم وساق. وتواجه هذه الدول تحدّيات بيئية ويتراجع أداؤها في مجالات متعدّدة، مثل التنمية البشرية والنمو وغيرهما.
هل يمكن أن يفرض ذلك إصلاحات على الأنظمة غير الآمنة والاستبدادية والقمعية بطبيعتها؟ أودّ أن أعقد آمالاً على ذلك، لكنّه قد لا يحدث. كما لاحظنا في الفترة التي سبقت الربيع العربي، احتمت الأنظمة واعتقدت أنّها قادرة على إدارة الإصلاحات وتأجيلها والاكتفاء بالحد الأدنى من التحسينات في النتائج- وأعتقد أننا رأينا النتيجة في نهاية المطاف.
أعتقد أنّ الدول الخليجية ستكون قادرة على تحمّل ضغوط أكثر بكثير من غيرها، ويُعزى ذلك جزئياً لأنّ ركائز اقتصادها أقوى. هذه مجتمعات تعيش في سلام مع نفسها إلى حدّ بعيد وفي سلام مع الأنظمة التي تحكمها. وهي لا تواجه التحدّيات نفسها، أقلّه حتى الآن. وسيعني ازدهارها الاقتصادي النسبي أنّ الجميع يمكنهم أن يستفيدوا ويشعروا بأنّ النظام يخدمهم. لكنّها لن تكون محصّنة ضدّ ما يحدث في أماكن أخرى، لا سيما في إيران والعراق واليمن، أي جوارها المباشر. هذه هي النقاط التي ستقرّر في نهاية المطاف ما إذا كانت استمرارية هذه الدول واستقرارها وازدهارها المتصوّر ستضمحل مع مرور الوقت. من يدري ماذا سيحدث على الساحة العالمية وانعكاسه عليها. هل سيؤدّي هذا الانتقال العالمي في مجال الطاقة إلى تقليص مصادر إيراداتها وتقويضها؟ هل سيصبح العالم أقلّ ترحيباً بنوع تدفقات الأموال التي تجلبها إلى طاولة المفاوضات وتنشرها في جميع أنحاء العالم؟
لكنني لا أعتقد أنّ شعوري بالتشاؤم سيتغيّر في ضوء مصالح العالم الخارجي في المنطقة. بعبداً عن حماية إمدادات الطاقة، أعتقد أنّ نظرة الدول بمعظمها تجاه المنطقة ستقتصر إلى حدّ كبير على الاعتبارات الأمنية والحدّ من تدفقات المهاجرين من المنطقة وأي اضطرابات داخل جيوب مجتمعات المهاجرين ومحاولة تجنيد جهات فاعلة إقليمية للمساعدة في حماية حدودها. لا تبدو أوروبا على سبيل المثال مهتمّة بتعميق أي نوع من الاندماج الاقتصادي مع منطقتنا أو بتقديم موارد أكبر لدعم التنمية الاقتصادية. هذا ليس مطروحاً على الطاولة، وسيستمرّ على هذا المنوال.
لذا، سيتوجّب على هذه المنطقة أن تعتمد نوعاً ما على نفسها في أغلب الأحيان وعلى مواردها الخاصة، وستتميّز الدول بالموارد المتوفّرة لديها وبمدى استدامتها. للأسف، هذه هي الصورة التي أراها للشؤون الإقليمية أو لمستقبل المنطقة على المدى المتوسّط. أتمنى لو كان لدي إطار واضح للتفكير في المدى الطويل، لكن الحال ليست كذلك. فأنا في الغالب منشغل بالتفكير في السنوات الثلاثة أو الأربعة القادمة.