أطلق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في مؤتمر صحافي على هامش اجتماع المجموعة السياسية الأوروبية في براغ في 6 أكتوبر الماضي، موجات ديبلوماسية، حين أشار إلى إمكانيّة لقاء الرئيس السوري بشار الأسد “في الوقت المناسب”. كان هذا التعليق الأوّل من نوعه لأردوغان منذ اندلاع الحرب الأهلية السورية في عام 2011، التي انخرطت فيها تركيا كطرف خارجي مركزي. في الواقع، شكّلت سوريا استثناءً في سياسة التقارب التي اعتمدتها تركيا أخيراً مع خصومها الإقليميين السابقين، ومن ضمنهم مصر وإسرائيل والإمارات العربية المتّحدة والمملكة العربية السعودية. لكن هل يتغيّر الوضع بعد التصريح الجديد الآتي من أنقرة؟ وبشكل أعمّ، ما هي العوامل المُحفّزة على تحسين العلاقات التركية مع سوريا؟ وما هي أولويات كلّ طرف في أي مشاركة دبلوماسية مُحتملة، وإلى أي مدى يمكنهم التوفيق بين تطلّعاتهم؟
تُعدُّ التحوّلات السياسيّة للرئيس أردوغان غزيرة على مدى مسيرته السياسية الطويلة، سياسة إعادة الضبط الأخيرة تجاه خصوم تركيا ليست إلّا دليلاً على هذه البراغماتية السياسية. ولكن حتى باعتبار هذا المعيار، لا بد من ملاحظة تصريحه الأخير الذي فتح الباب أمام لقاء مُحتمل مع الأسد. لم تحتل أي أزمة منذ عقود مكانة وازنة في السياسات الخارجية والأمنية لتركيا مثل الأزمة في سوريا، وربّما لم يشهَّر بأي رئيس في الخطاب العام والرسمي التركي مثل الرئيس السوري بشّار الأسد. لكن عند محاولة تحليل سردية تركيا الجديدة تجاه سوريا ونظام الأسد، تبرز ثلاثة عوامل أساسية: الامتعاض الشعبي حيال مسألة اللاجئين السوريين وتأثيرها المُحتمل في الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة في تركيا، والنفوذ الروسي، والملف الكردي.
ما الذي يقود هذا التغيير؟
من المقرّر أن تجري تركيا انتخابات بالغة الأهميّة في يونيو 2023مع احتمال تقريب الموعد إلى مايو. في رهانه على إعادة انتخابه، يواجه أردوغان تحدّيين سياسيين رئيسيين: الاقتصاد التركي المُتهالك، وأزمة اللاجئين والهجرة المُسيّسة بشدّة من قبل أحزاب المعارضة. ففي حين تلقى سياسات أردوغان الخارجية والأمنية صدى إيجابياً لدى الجمهور، تحتاج الحكومة إلى تأكيد قدرتها ورغبتها بمعالجة هاتين المسألتين بجدّية، لا سيّما في ظلّ مناخ اجتماعي تزداد عدائيته وتتخلّله نوبات كراهية تجاه الأجانب، ويدور معظم النقاش السياسي الذي يتناول اللاجئين حول إعادتهم قسرياً كلّياً أو جزئياً إلى سوريا. وتبعاً لهذه المقاربة، يصبح التعامل مع نظام الأسد أو التطبيع معه بمثابة مقدّمة ضرورية لعودة أعداد كبيرة من اللاجئين، إذ يُرجح أن ترغب الحكومة إعادة جزء، ولو قليل من اللاجئين السوريين في تبركيا إلى سوريا قبل الانتخابات من أجل تهدئة المشاعر المعادية للاجئين المتزايدة في المجتمع التركي.
ثانياً، أحد الأهداف الأساسية للسياسة التركية تجاه سوريا هي القضاء على المكاسب السياسية والإقليمية لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري وجناحه العسكري ووحدات حماية الشعب. ولهذه الغاية، نفّذت تركيا عمليات عسكرية مُتتالية بين عامي 2016 و2019. وفي أواخر أغسطس 2022، تحدّث أردوغان عن توغّل عسكري وشيك ضدّ حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب، إلّا أن روسيا عارضت الفكرة، ودفعت تركيا إلى التواصل مباشرة مع دمشق من أجل معالجة مخاوفها بشأن حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب، ومشروع الحكم الذاتي لأكراد سوريا بشكل عام، ومخاوفها الأمنية بالمجمل. في الواقع، فور لقاء أردوغان بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سوتشي في 5 أغسطس الماضي، دعا وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إلى المصالحة بين المعارضة السورية ونظام الأسد كوسيلة لحماية وحدة أراضي البلاد التي مزّقتها الحرب. وفي التصريحات نفسها، كشف جاويش أوغلو عن لقاء قصير جمعه مع نظيره السوري فيصل المقداد على هامش اجتماع حركة عدم الانحياز في بلغراد في أكتوبر 2021.
ثالثاً، تخلّت تركيا منذ فترة طويلة عن فكرة تغيير النظام في دمشق، وأعطت الأولوية للقضاء على المكاسب التي حقّقها الأكراد السوريون بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي. كانت عملية أستانا التي أطلقتها تركيا وروسيا وإيران في نهاية العام 2016 تعبيراً غير مباشر عن هذه الأولوية الناشئة. لقد حوّلت أستانا المعارضة السورية إلى وكيل لتركيا، بحيث تحدّدت أهدافها وموقعها السياسي وسرديتها وفقاً لأولويات الأمن القومي التركي مع احتفاظها بالحدّ الأدنى من القدرة السياسيّة. في هذا الإطار، يُعدُّ التوصّل إلى أحد أشكال التسوية المؤقّتة في العلاقات التركية-السورية تطوّراً طبيعياً للأحداث.
ماذا سينتج عن هذا التقارب؟
على الرغم من التحوّل المُستجد في خطاب أردوغان، لا ينبغي توقّع حصول اختراق وشيك في العلاقات التركية-السورية، خصوصاً أن انعدام الثقة بين الجانبين عميق والفجوة السياسية واسعة.
يُعدُّ بحث الحكومة التركية في إعادة اللاجئين السوريين جزئياً غير واقعي لأسباب عدّة. بداية، لن يعود إلّا عدد قليل جدّاً من السوريين طوعياً إلى منطقة الصراع النشط في سوريا، عدا أنّ هناك حدود لعدد اللاجئين الذين يمكن للحكومة أن تعيد توطينهم قسراً. فضلاً عن ذلك، وعلى الرغم من استفادة نظام الأسد دولياً من فكرة عودة اللاجئين التي تعزّز الدعوة لإعادة الإعمار وإعادة التأهيل، إلّا أنّه في الواقع يعارض عودتهم إلى الوطن، لا سيّما أنّ تحويلاتهم المالية تشكّل مصدراً وازناً للدخل بالنسبة إلى سوريا، وربّما لا يريد النظام أن يُحرَم من فوائد هذه التدفّقات . وحتّى الآن، لم تكن عودة اللاجئين السوريين المقيمين في لبنان والأردن وكردستان العراق واسعة النطاق.
بدلاً من سياسة الإعادة القسرية للاجئين، على أنقرة أن تبذل قصارى جهدها لمنع وقوع كارثة إنسانية جديدة في شمال غرب سوريا، وبالتالي تدفّق اللاجئين بشكل كثيف إلى تركيا. لا تزال المناطق الخاضعة للسيطرة التركية غير مستقرّة، وتجلس إدلب على برميل من بارود. هذا الأسبوع، دخلت هيئة تحرير الشام، المعروفة سابقاً بجبهة النصرة المُسيطرة على إدلب والمُصنّفة دولياً ومن قبل تركيا أيضاً كمنظّمة إرهابيّة، مدينة عفرين الخاضعة للسيطرة التركية، ما استوجب ردّاً روسياً عبر غارات جوّية. وعلى الرغم من انسحاب هيئة تحرير الشام من المدينة، والأرجح بعد ضغوط من أنقرة، إلّا أن هذه الواقعة تبيّن انسيابية خريطة الصراع في سوريا وهشاشتها، وقد يؤدّي تصعيد القتال إلى تدفّق موجات جديدة من اللاجئين باتجاه الحدود التركية.
لذلك، لا يرجح أنّ يوفر التعامل مع النظام السوري حلّاً سحرياً لمشكلة اللاجئين في تركيا، ما يعني أن الحلّ قد يكون بدمجهم داخل تركيا، لا إجبارهم على العودة قسرياً إلى سورياً وتهديد سلامتهم وأمنهم.
على الرغم من وجود مصلحة مُشتركة بين أنقرة ودمشق بإفساد أوتقويض مشروع الحكم الذاتي الكردي في سوريا، من المُستبعد أن يترجم إلى استراتيجية مُشتركة أو تعاون نشط في التعامل مع مسألة الأكراد السوريين. فصلاً عن ذلك، فإنّ أن الولايات المتّحدة الأمريكية هي اللاعب الخارجي الأساسي في شمال شرق سوريا الخاضع للسيطرة الكردية، وبالتالي في حال لم يحصل أي تغيير في السياسة الأمريكية، سيقيّد الوجود العسكري الأمريكي سياسات أنقرة ونظام الأسد تجاه الحكم الذاتي الكردي في سوريا.
النتيجة المرجحة
وجود سردية جديدة لا يعني بالضرورة وجود سياسة جديدة، لذلك من الصعب إعادة ضبط العلاقات بين أنقرة ودمشق نظراً إلى مستوى العداء بين الجانبين، والوجود العسكري التركي الكبير على الأراضي السورية، وواقع الدويلة التركية الناشئة في شمال سوريا.
مع ذلك، لا يزال التغيير المُستجد في السردية مهماً. أولاً لأنّه يخترق حاجزاً نفسياً. حتّى هذه اللحظة، لم يكن معظم النقّاد والمحلّلين الموالين للحكومة يرون أي قيمة في إجراء محادثات مباشرة بين أنقرة ودمشق على المستوى الوزاري أو الرئاسي. أمّا الآن، فقد أصبحت فكرة التعامل مع النظام السوري أكثر انتشاراً، إن لم تصبح الوضع الطبيعي المُستجد في السياسة الخارجية التركية، من أجل معالجة مخاوف أنقرة السياسية والأمنية.
ثانياً، قد يكون للسردية الجديدة تداعيات على أدوات السياسة التركية في سوريا. لكي نكون أكثر واقعية، إذا تُرجِم هذا التوجّه الجديد بتذويب الجليد فعلياً، ستنخفض بشكل كبير احتمالية شنّ عمليات عسكرية تركية جديدة في سوريا.
ثالثاً، نظراً لنفوذ تركيا الكبير على المعارضة السورية، من المرجّح أن تدفع أنقرة بقوّة أكبر باتجاه الانفتاح على فكرة المصالحة مع النظام السوري على الرغم من ظروف المعارضة واعتباراتها.
رابعاً، لم تُعِد عملية أستانا تشكيل خريطة الصراع في سوريا بشكل كبير فحسب، بل أعادت أيضاً تحديد طبيعة العلاقات بين تركيا وروسيا وإيران في سياق سوريا. وبالتالي، إذا نشأت منصّة ثلاثية مُماثلة بين تركيا وروسيا وسوريا لخلق أرضية مشتركة بين الحكومات الثلاث، فإنها ستوفّر إطاراً منظّماً ومهماً للمحادثات التركية-السورية المحتملة، وكذلك ستخلق نقطة اشتباك أخرى لأنقرة وموسكو، بمعزل عن كيفية تأثير الحرب في أوكرانيا على الوجود الروسي في سوريا، أو الدبلوماسية الناشئة بين أنقرة ودمشق.
أخيراً، لطالما دعت أحزاب المعارضة التركية إلى التعامل المباشر مع النظام السوري. وفي أعقاب السردية الجديدة للحكومة حيال سوريا، تلتقي الأحزاب والأطراف التركية المختلفة حول فكرة الحلّ الدبلوماسي والتعامل المباشر مع النظام من أجل معالجة مخاوف أنقرة وأولوياتها في سوريا. من هنا، في حال شكّلت الانتخابات التركية المقبلة في عام 2023 أحد الدوافع الرئيسية لهذا التغيير، فمن المرجّح أن تُطلق العملية الدبلوماسية الحقيقية بعد الانتخابات.
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفيها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.