دمَّرت الزلازل التي ضربت تركيا وسوريا في فبراير الماضي مناطق كبيرة في البلدين، وأسفرت عن مقتل أكثر من 50 ألف شخص، وأجبرت الملايين على ترك منازلهم، وتُعدُّ الكارثة الطبيعية الأسوأ التي شهدتها تركيا منذ عقود. أمّا بالنسبة للاجئين السوريين الذين يعيشون في المنطقة، فقد كانت كارثة مزدوجة. فبعد أن أُجبِروا على مغادرة بلادهم بسبب الحرب، وجدوا أنفسهم ينزحون مرّة أخرى وفي وضعٍ صعب وأكثر عرضة للمخاطر.
وحلّت الكارثة في أسوأ وقت على الإطلاق. إذ تتصاعد المشاعر المعادية للاجئين في تركيا بعد أكثر من عقد على اندلاع الحرب التي أجبرت ملايين السوريين على البحث عن ملاذٍ آمن على الأراضي التركية. ومع استعداد تركيا للانتخابات الرئاسية والبرلمانية في مايو المقبل، أصبحت المطالبات بطرد السوريين عنواناً أساسياً للحشد في خطاب المعارضة التعبوي.
ألمّت المآسي الناجمة عن الزلازل بالسوريين والأتراك على حدٍّ سواء. مع ذلك، لم يؤدِّ مصيرهم القاتم المشترك إلى بناء الجسور بين المجتمعين، بل زاد التوتّرات حدّة. وتزداد الحاجة إلى مساعدات موجّهة بدقّة وجهود متواصلة لبناء التماسك الاجتماعي، وإلّا يرجّح أن تؤدّي الكارثة إلى انقسام السكّان المحلّيين والسوريين بشكل أكبر.
الضغط من أجل عودة اللاجئين
منذ اندلاع الحرب السورية في العام 2011، تشير التقديرات إلى نزوح نحو نصف السكّان السوريين. ووفقاً لمفوّض الأمم المتّحدة السامي لشؤون اللاجئين، هناك نحو 5,4 مليون سوري مسجّلين رسمياً كلاجئين في الخارج. والجالية الأكبر موجودة في تركيا التي تستضيف أكثر من 3,5 مليون سوري، ما يشكّل عبئاً ثقيلاً على موارد البلاد.
قلَّلت الحكومة ووسائل الإعلام التركية الرئيسية من أهمية التوتّرات وأعمال العنف بين السكان الأتراك والسوريين من أجل تجنّب أزمة سياسية، إلّا أنّ دراسة أجرتها مجموعة الأزمات الدولية في العام 2018 وجدت أنّ التحدّي المُتمثِّل في دمج هذه الأعداد الكبيرة من الناس قد خلق “تنافساً عرقياً، وعدم مساواة اجتماعية واقتصادية، وعنف حضري”.
ومع اقتراب موعد الانتخابات، تتعهّد أحزاب المعارضة بإعادة اللاجئين إلى سوريا إذا وصلت إلى السلطة. وهذا احتمال مرعبٌ لكثير من اللاجئين الذين يخشون الاضطهاد على يد نظام الأسد. ولكن قد لاقى ذلك استحساناً عند الكثير من الناخبين المُحتملين.
في مواجهة الضغط الشعبي المُتزايد، أعلنت الحكومة في أبريل الماضي عن “العودة الطوعية” لنحو نصف مليون سوري. لكن وفقاً لمنصّة حقوق اللاجئين، فقد عاد الكثيرون منهم بالإكراه. وفي بعض الحالات، تمّ القبض على عدد من العائلات واحتجازها في مرافق الاحتجاز من دون السماح لها بمقابلة محامين.
وقد زادت هذه الحوادث من حالة القلق الذي يعيشها السوريون الذين يعانون بالأصل أوضاعاً مريرة بسبب الحرب وسنوات من عدم اليقين. أمّا حكومة رجب طيب أردوغان التي فتحت أبوابها على مصراعيها في البداية أمام السوريين الفارين من العنف، فقد فشلت في دمجهم طوال عقدٍ من الزمن، وبالتالي شجّعت على التمييز والممارسات غير القانونية. وقد زاد الوضع سوءاً بسبب نقص الموارد وعدم الكفاءة في استخدامها وضعف الدعم الدولي.
في ظلّ هذا السياق، ضرب زلزالان كبيران جنوب شرق تركيا وشمال سوريا في 6 فبراير الماضي. وتضرّر نحو 13,5 مليون شخص في 11 محافظة تركية يسكن فيها نحو 1,7 مليون مهاجر سوري، بالإضافة إلى تضرّر مساحات شاسعة من شمال سوريا. ومن بين 47 ألف حالة وفاة مُبلّغ عنها رسمياً في تركيا، كان حوالي 6 آلاف قتيل من بين هؤلاء المهاجرين الذي يعيشون أصلاً وضعاً صعباً.
في أواخر فبراير الماضي، أعلن وزير الدفاع التركي عن العودة “الطوعية” لنحو 42 ألف سوري بعد الكارثة. وبمرور بضعة أسابيع، لا تزال آلاف العائلات تعيش في ملاجئ مؤقّتة وتكافح من أجل الحصول على السلع الحيوية. وقد عبّر الكثير من السوريين عن معاناتهم من التمييز في الحصول على المساعدات الطارئة، واضطرار بعضهم للبحث عن ملاذٍ آمن في مناطق تركية لا يلقى المهاجرون أي ترحيب فيها.
سلَّط الوضع المأساوي في المنطقة التي ضربها الزلزال الضوء على ضعف مجتمعات المهاجرين في أوقات الأزمات، فضلاً عن الحاجة إلى سياسات استجابة شاملة للكوارث. لكن الطريقة التي سُلِّمت بها المساعدات في الأسبوع الأوّل بعد الكارثة، كشفت عن افتقار تركيا لخطّة مماثلة، وأظهرت أنّ السوريين لم يكونوا وحدهم في خطر، بل كلّ السكّان.
تمتدّ المنطقة المُتضررة من الزلزال على طول الحدود التركية السورية. في بعض المناطق على الجانب التركي، حقّق السوريون بعض الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، على الرغم من الاختلافات الثقافية واللغوية. لكن يبدو أنّ الزلزال زاد من حدّة العداء ضدّ السوريين الذي ترسّخ في البلاد على مدى العقد الماضي. قد يكون الأمر غير مفاجئ بالنظر إلى حالة اليأس الراهنة. دفعت التبليغات عن حالات سرقة بعد الزلزال بالناجين إلى حراسة منازلهم المدمّرة أو المتضرّرة. وقد فاقم غياب الدعم الحكومي الوضع الفوضوي أصلاً، وأدّى إلى الشعور باليأس وفقدان الأمل. وتُرِك الكثير من المتضرّرين السوريين والأتراك على حدٍّ سواء، لتدبير أمورهم بأنفسهم أو الاعتماد على المنظّمات غير الحكومية والمتطوّعين للحصول على المساعدة.
في ظلّ هذا المناخ من العداء، تمّ التبليغ عن أعمال عنف ضدّ السوريين، أجّجتها قصص كاذبة عن حالات سرقة انتشرت بسرعة على وسائل التواصل الاجتماعي. ولم تكن هذه الحوادث مفاجئة نظراً لمناخ الاستقطاب السياسي.
على الرغم من جهود الحكومة المركزية المستمرّة لتقويض المجتمع المدني، إلّا أنّ المنظّمات غير الحكومة والبلديات والقطاع الخاص خفّفت من إخفاقاتها في أعقاب الزلزال عبر المساعدات التي قدّمتها، بما فيها تأمين المأوى والطعام ومواد الطوارئ الأخرى، فضلاً عن الخدمات الصحّة الجسدية والنفسية. كان من الممكن ترك السوريين بلا مساعدة تقريباً لولا السوريين أنفسهم، وكذلك الجمعيّات الخيرية والجهات السياسية الفاعلة والمؤسّسات الإعلامية والناشطين والمجتمعات الصديقة. ويسلِّط ذلك الضوء على أهمّية المنظّمات غير الحكومية في تقديم المساعدة عندما تفشل الحكومات في ذلك، وكذلك على الحاجة الملحّة لمناصرة حقوق المنظّمات غير الحكومية وحمايتها.
وقد أدّى تضارب المصالح بين مختلف الفاعلين السياسيين والقوى البيروقراطية إلى زيادة قضية اللاجئين تعقيداً. وفي حين يستخدم حزب العدالة والتنمية برئاسة أردوغان لغة إيجابية تجاه اللاجئين والمهاجرين، إلّا أنّه لم يفعل شيئاً على المستوى البيروقراطي لدمجهم. من أجل ثني اللاجئين عن البقاء في البلاد ومنع تنامي ردود الفعل الشعبية، تردّدت الحكومة أيضاً في وضع استراتيجية اندماج طويلة الأجل للسوريين. وحتى بعد نحو 12 عاماً منذ بدء الحرب، يشير القانون إلى ملايين السوريين الذين استقرّوا في تركيا على أنّهم “سوريون تحت الحماية المؤقّتة”، علماً أنّ احتمالية مغادرتهم البلاد معدومة. وفي الوقت نفسه، أدّى عدم الاندماج إلى زيادة التوتّرات الاجتماعية وكراهية الأجانب.
من الزلازل إلى الانتخابات
كانت قضية اللاجئين رئيسية قبل الزلازل مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المُقرّر إجراؤها في 14 مايو. وكان معظم الأحزاب السياسية قد استهدفوا أصلاً اللاجئين، ولا سيّما السوريين، بخطاب عدائي. وقد وصل الأمر بالمعارضة أن تعهّدت بإعادة السوريين إلى بلادهم في غضون عامين في حال فوزها.
واتخذ الخطاب المناهض للاجئين منحى كثر جدّية مع ظهور مجموعة قومية يمينية جديدة اكتسبت الدعم بسرعة، وهدّدت بأحد أشكال كراهية الأجانب الأكثر خطورة، الأمر الذي قد يؤدّي إلى زيادة الاعتداءات الجسدية ضدّ السوريين. وقد أظهرت وقائع سابقة من العنف المجتمعي أن خطاب الكراهية قد يُترجم بسرعة إلى تمييز وعنصري وعنف، وصولاً إلى محاولات الإعدام الجماعي.
لقد وضع الزلزال الحكومة في موقف دفاعي. فقد أجّج الغضب في جميع أنحاء البلاد، لا سيّما أنّ الكثيرين يخشون حدوث زلزال مماثل في مدينة اسطنبول، قد يتسبّب بكارثة لا يمكن تصوّرها. أمّا أردوغان، الذي وعد بإعادة بناء المناطق التي دمَّرها الزلزال في غضون عام، فإنّه يواجه انتقادات حادّة بسبب فشله في تجهيز البلاد للوقاية من زلزال متوقَّع منذ فترة على الرغم من كونه رئيساً لأكثر من عقدين.
المساعدات المُستهدَفة
إنّ تركيا واللاجئين السوريين فيها بحاجة إلى مساعدات إعادة الإعمار بشكل ملحّ، لكن من الضروري أن يوجّه المجتمع الدولي هذه الجهود بعناية لتجنّب تأجيج التوتّرات.
المساعدات المطلوبة هائلة. إذ قدّر برنامج الأمم المتّحدة الإنمائي قيمة الأضرار بأكثر من 100 مليار دولار. لا شك أنّ اللاجئين السوريين في وضع صعب وهشّ بشكل خاص، لكن يجب على الجهات الخارجية أن توزِّع المساعدات بشكل عادل. وفي حال لم تتعامل مع التوتّرات الاجتماعية والسياسية في تركيا بعناية شديدة، فإنّها تخاطر بتفاقمها. من ناحية أخرى، يمكن أن تساعد المشاركة الدولية الموجّهة بشكل جيّد، بالتعاون مع الحكومة والمجتمع المدني والقطاع الخاص، في تخفيف التوتّرات.
من أجل تجنّب ردود الأفعال القومية، على الفاعلين السياسيين الأتراك الامتناع عن استغلال الظروف الحالية لتوجيه رسائل انتخابية شعبوية. وعليهم أن يدركوا أنّ لا خيار أمام غالبية اللاجئين السوريين سوى البقاء في تركيا، فيجب أخذ اللاجئين بعين الإعتبار عبر الجهود المبذولة لإعادة بناء المنطقة التي دمّرها الزلزال حيث يسكن نصف هؤلاء اللاجئين.
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفيها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.