يشكّل وصول الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى المملكة العربية السعودية لحظة مهمّة في العلاقات التاريخية بين البلدين ومناطقهما. ففيما كانت الولايات المتّحدة تدقّ إسفيناً بين شركائها الخليجيين ومنافسيها في الشرق، توجّه رؤساء الدول الخليجية والمنطقة بشكل أوسع إلى العاصمة السعودية لحضور افتتاح القمّة الصينية العربية وللتقرّب من الرئيس الصيني.
تُعتبر الزيارة مهمّة نظراً للأهمّية المُتزايدة للعلاقة بين المنطقتين، وأيضاً لمكانة الشرق الأوسط في المنافسة المُحتدمة بين الصين والولايات المتّحدة – الضمانة الأمنية التاريخية والشريك الاقتصادي البارز للدول الخليجية. تأتي زيارة شي بُعيد التجديد التاريخي له لولاية ثالثة، وهي الثالثة له خارج البلاد منذ تفشّي جائحة فيروس كورونا المستجدّ في يناير 2020. بالإضافة إلى الاحتفالية الفخمة، استُقبل شي بالإعلان عن صفقات مُحتملة بنحو 30 مليار دولار، واتفاقية شراكة استراتيجية تجمع بين رؤية المملكة العربية السعودية 2030 للتنمية ومبادرة الحزام والطريق الصينية.
في المقابل، وفي تناقضٍ صارخ، زار الرئيس الأمريكي جو بايدن الرياض في خلال الصيف الماضي بنيّة إعادة توطيد العلاقات مع السعوديين والشركاء الآخرين في المنطقة، إلّا أنّ زيارته أظهرت التوتّرات أكثر مما ساهمت في تخفيفها. بالإضافة إلى الاستقبال العادي لبايدن في مطار الرياض، وصلت العلاقة إلى دركٍ أسوأ مع تخفيض منظّمة أوبك+ التي تقودها السعودية إنتاج النفط، ما أدّى إلى ارتفاع أسعاره قبل أسابيع من الانتخابات النصفية الأمريكية في نوفمبر الماضي.
من ناحية أخرى، تتماشى زيارة شي مع الأثر المُتزايد للصين – والقوى الاقتصادية الآسيوية الأخرى مثل اليابان والهند وكوريا الجنوبية – في الدول الخليجية، وما تلاها من إعادة تنظيم للسياسة الخارجية الخليجية. في الواقع، قبل أسبوع واحد فقط، وقّعت الصين وقطر صفقة تاريخية لبيع وشراء الغاز المُسال لمدة 27 عاماً على الرغم من ارتفاع الخطاب العدائي في الولايات المتّحدة ضدّ الصين.
وبكين ليست وحدها التي تحقّق تقدّماً اقتصادياً كبيراً في المنطقة، فهناك شركات المقاولات الكورية الجنوبية والاستثمارات اليابانية في البنية التحتية والتكنولوجيا، والقوى العاملة الهندية، وكلّها دلائل تشير إلى أنّ هذه العلاقات ستستمرّ في النمو مع تحوّل مركز الثقل الاقتصادي العالمي إلى آسيا.
ستصبح هذه العلاقات أكثر أهمّية للدول الخليجية التي تمرّ بمسار تاريخي من التحوّل الاجتماعي والاقتصادي. انخفاض أسعار النفط، بالإضافة إلى الضغوط الديموغرافية والبطالة والافتقار إلى التنوّع الاقتصادي، يضع ضغوط هائلة على ماليّاتها العامة، فيما خلق التقلّب في أسواق الطاقة قوّة دفع كبيرة باتجاه التنويع الاقتصادي عبر دول مجلس التعاون الخليجي الستة. يضاف إلى ذلك توقّع أن يؤثّر تغيّر المناخ بشكل كبير في المنطقة على مدى العقود المقبلة، وستؤدّي القوى الآسيوية دوراً رئيسياً في تصدّي الدول الخليجية لهذه التحدّيات المعقّدة، إلّا أنّ تزايد انخراطها في المنطقة سيفرض على الدول الآسيوية التعامل مع مشهد جيوسياسي آخذ بالتعقيد.
إنّ تزايد المنافسة بين الولايات المتّحدة والصين، والحروب الأهلية المستمرّة، والاضطرابات في منطقة الشرق الأوسط ككلّ، والخلافات داخل دول مجلس التعاون الخليجي، بالإضافة إلى التنافس السعودي الإيراني، والتوتّرات المتزايدة بشأن برنامج طهران النووي، كلّها تثبت أنّ القوى الآسيوية الأربعة لا يمكنها تقييد مشاركتها في المجال الاقتصادي وسيتعيّن عليها المساهمة في بنية المنطقة الأمنية.
فما هي إذاً أهداف القوى الآسيوية في الدول الخليجية، وكيف تحقّقها مع الإسهام أيضاً في الأمن الإقليمي؟
الدوافع الاجتماعية والاقتصادية
لطالما ركّز التعاون بين الدول الآسوية والدول الخليجية على الطاقة، إذ تحتلّ القوى الآسيوية المراكز الأولى في قائمة أكبر مستهلكي النفط والغاز في العالم، وخصوصاً النفط والغاز الخليجيين. مع ذلك، ونظراً لتأثّر كلا المنطقتين بتغيّر المناخ، أصبح الانتقال إلى الطاقة النظيفة أكثر إلحاحاً وأكثر محورية في تعاونهما الذي يرجّح أن ينمو، خصوصاً أنّ الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية تعملان وفق التزامات طموحة تقضي بالوصول إلى صافي انبعاثات صفري بحلول عام 2050 و2060 على التوالي.
في الواقع، هناك العديد من المبادرات المُشتركة قيد التنفيذ لمساعدة الدول الخليجية على تنويع اقتصاداتها وتقليل اعتمادها على الهيدروكربونات، أبرزها محطّة براكة للطاقة النووية التي تديرها كوريا الجنوبية في الإمارات العربية المتحدة.
يعكس مشروع البراكة أيضاً المنافسة الآسيوية على العقود في الدول الخليجية، فقد فازت شركة كيبكو الكورية الجنوبية بعقد بناء المصنع على عرض ياباني منافس. أمّا بالنسبة للمفاعل النووي السعودي المزمُع إنشاؤه، فستتنافس كوريا الجنوبية بشكل مباشر مع الصين وروسيا ودول أخرى. ومع نمو التعاون الاقتصادي بين الدول الخليجية والقوى الآسيوية، من المرجّح أن تزداد المنافسة في عدد من القطاعات.
وقد أثارت الحرب في أوكرانيا أيضاً أسئلة رئيسية حول العلاقات الاقتصادية الخليجية مع كلّ من آسيا وأوروبا، لا سيّما في ما يتعلّق بالطاقة. إنّ ارتفاع الطلب الأوروبي على النفط والغاز الخليجي بسبب إغلاق روسيا خطوط الأنابيب، أدّى إلى تضخيم النفوذ الجيوسياسي للدول الخليجية وسلّط الضوء على أهمّيتها للدول الأوروبية. وقد تعني محاولة روسيا إعادة توجيه صادراتها من الطاقة عبر الهند والصين أنّ أسواق الطاقة الآسيوية تعتمد بدرجة أقل على الدول الخليجية. في الوقت نفسه، سيتحدّد التعاون الخليجي مع أوروبا لسدّ النقص في الطاقة وفق الاعتبارات الأمنية والسياسية مثل إمكانية زيادة الضمانات الأمنية من أوروبا.
الأبعاد الأمنية والسياسية
تؤدّي المخاوف الأمنية الخليجية أيضاً دوراً رئيسياً في تشكيل التحالفات الخليجية الآسيوية. إنّ الانسحاب التدريجي لأمريكا من الأمن الإقليمي، في خضم ارتفاع مستويات عدم الاستقرار ، يدفع الدول الخليجية بشكل أكثر إلحاحاً للبحث عن شركاء أمنيين جُدُد. وقد أدّى ذلك إلى صياغة تحالفات جديدة مع القوى الآسيوية، إلى جانب القيام بتدريبات عسكرية مُشتركة وصفقات أسلحة. بالطبع، يحدث ذلك في ظل منافسة بين القوى العظمى، حيث يشتدّ التنافس بين الولايات المتّحدة والصين ويمتدّ إلى المنطقة.
وقد عزّزت الصين أثرها الاقتصادي والسياسي والعسكري في الدول الخليجية على مدى العقد الماضي، فيما أدّى القلق الأمريكي الناتج عنها إلى إطلاق مبادرات مثل I2U2، وهي شراكة بين الهند وإسرائيل والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة. وعلى الرغم من أنّ أهداف الشراكة اقتصادية، لكن يمكنها أن تساعد أيضاً في بناء علاقات أمنية بين الولايات المتّحدة والقوى الآسيوية والدول الخليجية. في المقابل، أعلن الرئيس شي عن تشكيل مبادرة الأمن العالمي بقيادة الصين في وقتٍ سابق من هذا العام، والتي تؤكّد التزام الصين بـ “بنية أمنية جديدة” في الشرق الأوسط.
ومع توسّع نفوذ الصين عبر المنطقة، تبرز تعقيدات وقيود على وجودها الأمني في الدول الخليجية، وبالتالي عليها أن تقرّر بين مقاربة عدم التدخّل التي تعتمدها بكين والتي سمحت لها بالحفاظ على العلاقات مع الدول الإقليمية المتنافسة، وبين المزيد من الانخراط في أمن الدول الخليجية. وبالنظر إلى أنّ الصين تركّز بشكل أساسي على منطقة المحيطين الهندي والهادئ، فمن غير المرجّح أن تحوّل تركيزها إلى الدول الخليجية على الفور، ولكن تدريجياً في خلال السنوات المقبلة.
النظرة المستقبلية: انخراط أكبر لا يخلو من التحديات
وكما تُظهرٍ زيارة شي إلى المنطقة، من المرجّح أن تواصل الدول الخليجية تعميق شراكاتها الاقتصادية والسياسية والأمنية مع الدول الآسيوية. وفي حين يُعتبر تعزيز العلاقات الاقتصادية سهلاً نسبياً، يبقى المشهد الأمني أكثر تعقيداً. فهل القوى الآسيوية مستعدّة للمساهمة بشكل أكبر في الأمن الإقليمي بما يتجاوز المشاركات المحدودة، وهل يمكنها الانخراط أكثر مع انسحاب الولايات المتّحدة من المنطقة؟
الإجابة واضحة بالنسبة لكوريا الجنوبية واليابان والهند لأنها حليفة للولايات المتّحدة ومتوافقة بشكل كبير مع سياسة واشنطن تجاه المنطقة. لكن الوضع أكثر تعقيداً بالنسبة للصين نظراً لتنافسها مع الولايات المتحدة. لم يكن قول الرئيس جو بايدن مُفاجئاً في خلال زيارته للرياض في يوليو الماضي: “لن ننسحب (من المنطقة) ونترك فراغاً تملأه الصين أو روسيا أو إيران“.
مع ذلك، قد سبّبت علاقات الصين المتنامية مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتّحدة بعض التوتّرات مع الولايات المتّحدة، في الوقت الذي تواصل الدول الخليجية الموازنة بين القوى العظمى المتنافسة. لن تختفي هذه التوتّرات، بل يرجّح أن تنمو مع احتدام المنافسة الصينية الأمريكية. وإذا حاولت الصين استعادة تايوان في خلال السنوات المقبلة، ستكون الدول الخليجية في موقف صعب مع تقلّص مساحة المناورة بين القوّتين العظمتين.
كُتبت هذه المقالة أصلاً باللغة الإنكليزية وتُرجمت إلى اللغة العربية.
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.