الدبلوماسية غير القسرية هي المسار الأفضل لبناء علاقات مستدامة بين الولايات المتحدة وإيران

العودة إلى سياسة "الضغط الأقصى" لن تسفر عن نتائج تُذكر على المدى البعيد، بل ستطيل حالة الجمود غير المتكافئ بين البلدين.

6 فبراير، 2025
علم صالح، زكية يزدان شناس

تتصدّر إيران وما تثيره من تحدّيات وتهديدات في نظر الأمريكيين أولويات السياسة الخارجية في ولاية الرئيس دونالد ترامب الثانية. وقد وقّع الرئيس بالفعل على قرار استئناف حملة “الضغط الأقصىعلى طهران، التي كانت طبعت سياسته تجاه الجمهورية الإسلامية في ولايته الأولى. في غضون ذاك، يحثّ الصقور في واشنطن إدارة ترامب على دعم إسرائيل في توجيه ضربات إلى البنية التحتية النووية والاقتصادية الإيرانية، والسعي لإقناع فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة – الدول الأخرى الأعضاء في مجموعة “5+1” التي أيّدت الاتفاق النووي في العام 2015 – بتفعيل الآلية التي تتيح إعادة فرض عقوبات على إيران في مجلس الأمن الدولي. تهدف جميع هذه المحاولات على ما يبدو إلى إعادة إيران إلى طاولة المفاوضات ودفعها لمناقشة قضايا مثل برنامجها النووي وبرنامجها الصاروخي ودورها الإقليمي، لكن من موقع ضعف، وربما حتى اسقاط نظامها 

 

لكن أثبتت عقود من التجارب أنّ “الدبلوماسية القسرية” لا تجدي نفعاً مع طهران، بل تعزّز شعورها بالتهديد، ما يدفعها إلى استنفاد كلّ الخيارات المتاحة ضدّ المصالح الأمريكية في المنطقة، بخاصة عندما تشعر أنّ مثل هذه الدبلوماسية القسرية تقوّض أمنها القومي وقوّة ردعها. لذلك، ما نحتاجه اليوم هو نهج يتجنّب التبسيط المفرط للقضايا الأمنية المتشابكة ومتعدّدة الجوانب بين البلدين، وفي الوقت نفسه لا يفاقم تعقيدات المعضلة الأمنية التي تُبقيهما عالقين في حالة جمود دائم وغير متكافئ. 

 

 

 فهم وجهة النظر الإيرانية 

 

تبلورت سياسة إيران الخارجية وتشكّل نهجها نتيجة ما عاشته البلاد من حروب وثورات وانقلابات وانتفاضات وعقوبات على مرّ القرن الماضي، كثير منها كانت من صنع الغرب أو بتأثير منه، بخاصة الولايات المتحدة الأمريكية. نظراً لهذا السياق التاريخي، أصبحت إيران شديدة الحساسية تجاه التدخّلات الخارجية واستخدام القوّة ضدّها، وبات التصدّي لمثل هذه الدخّلات ركيزة أساسية في رؤيتها للسياسة الخارجية.  

 

نظرت طهران بعين الشكّ إلى التحوّلات الجيوسياسية الكبرى التي شهدتها المنطقة في العقدين الماضيين، نتيجة الاحتلال الأمريكي لأفغانستان في العام 2001 والعراق في العام 2003، والثورات العربية التي بدأت في العام 2010، ورأت في كلّ ذلك تهديداً لأمنها القومي ووحدة أراضيها. ظهر ذلك جليّاً في تصريحات المرشد الأعلى للثورة الإسلامية علي خامنئي الذي رأى أنّ السبيل الوحيد لمنع وقوع الحرب وردع التهديدات المتربصة ببلاده هو في تعزيز قوّتها. 

 

بالتالي، ركّزت إيران في المقام الأول على بناء استقلالها العسكري والسياسي وتعزيز قدراتها النووية، بالإضافة إلى توسيع نفوذها الإقليمي عبر شبكة من المجموعات المسلّحة المتحالفة معها. وقد زادت الأحداث الأخيرة، التي شملت مواجهة مباشرة مع إسرائيل، وعدواناً إسرائيلياً مدمّراً على حزب الله، وسقوط نظام الأسد في سوريا، وهجمات على الحوثيين في اليمن، من قناعة الحكومة الإيرانية بأنّ أمنها مهدّد وبوجود خطّة واسعة تهدف إلى تقويض وجودها. 

 

إلى ذلك، تلوم طهران الولايات المتحدة على انسحابها من الاتفاق النووي المعروف تحت اسم “خطّة العمل الشاملة المشتركة” وعلى فرضها سياسة “الضغط الأقصى”، التي تعتبرها محاولة لتغيير النظام، أو أقلّه الحدّ من قدرة طهران على الدفاع عن نفسها. وإذا ما فاقمت إدارة ترامب الثانية شعور إيران بانعدام الأمان، فبدل أن تذهب إلى التفاوض، ستتبنّى موقفاً أكثر عدائية لضمان بقائها. 

 

 

سياسة فاشلة وتبعاتها 

 

شكّل الاتفاق النووي في العام 2015 نجاحاً دبلوماسياً نادراً في إطار المواجهة المستمرّة بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية. لكن قرار ترامب بالانسحاب أحادي الجانب من الاتفاق وفرض عقوبات موّسعة على النظام الإيراني أسفر عن نتائج عكسية. فقد زادت إيران تخصيب اليورانيوم من 4 في المئة إلى أكثر من 60 في المئة، ما قرّبها أكثر من أي وقت مضى من امتلاك القنبلة النووية. إلى ذلك، حققت طهران تقدّماً كبيراً على صعيد تكنولوجيا الصواريخ والأقمار الصناعية، وطوّرت طائراتها المسيّرة لدرجة أصبحت تُصدّرها إلى روسيا لاستخدامها في حرب أوكرانيا. كما يُستبعد أنّ يسهم استخدام القوّة العسكرية ضدّ المنشآت النووية الإيرانية في منع طهران من الحصول على قنبلة نووية، نظراً لأنّ منشآتها محصّنة بعمق تحت الأرض. 

 

رغم الانتكاسات التي لحقت ببنية “الدفاع الأماميالإيرانية في الأشهر الماضية، لا يجوز الاستخفاف بقدرتها على زعزعة استقرار الشرق الأوسط إذا شعرت بتهديد حقيقي. وكان وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي صرّح بأنّ أيّ هجوم على المنشآت النووية الإيرانية سيؤدّي إلى كارثة تطال المنطقة بأسرها. ورغم أنّ إيران لا تمتلك قدرات عسكرية وتكنولوجية تضاهي قوّة الولايات المتحدة وإسرائيل، فإنّها تمتلك وسائل ردع فعّالة. فيمكنها مثلاً تسريع طموحاتها النووية، أو تعزيز تقاربها مع روسيا والصين، أو زيادة دعمها للميليشيات المتحالفة معها في المنطقة، أو اللجوء إلى حرب غير متكافئة لتقويض مصالح الولايات المتحدة وحلفائها، بما في ذلك المنشآت النفطية الضخمة في الدول العربية المجاورة. 

 

يمكن لإيران أن تستغلّ أيضاً سيطرتها على مضيق هرمز، ما سيشلّ حركة الشحن والتجارة الدولية. إذ يُعدّ الممرّ المائي أحد الركائز الإستراتيجية الأساسية في العقيدة الأمنية الإيرانية، نظراً لكونه أهمّ شريان حيوي للطاقة في العالم. وسبق أنّ لوّحت إيران مرّات متعدّدة باحتمال إغلاقه عسكرياً في حال تهديد مصالحها أو أمنها. يمكن أيضاً لبحرية الحرس الثوري أن تحتجز السفن في بعض الحالات. وهي كانت احتجزت في أبريل 2024 سفينة شحن إسرائيلية في خلال عبورها المضيق. 

 

غالباً ما يدعو التيّار المتشدّد في إيران إلى استغلال الأهميّة الجيوسياسية للممرّ المائي من أجل الدفع قدماً بأهداف طهران الأمنية. وعلى سبيل المثال، وصفت صحيفة “كيهان” المتشدّدة احتجاز السفينة الإسرائيلية على أنّه رسالة إلى الولايات المتحدة تظهر قدرة إيران على إغلاق المضيق، مطالبة الحرس الثوري بتطبيق سياسة مشابهة لتلك التي فرضها الحوثيون في البحر الأحمر على السفن المرتبطة بإسرائيل. كما وجّه عراقجي تهديداً مبطّناً مؤخّراً حين أشار إلى خيار إغلاق مضيق هرمز، لكنّه أوضح أنّ الحكومة لا تخطط لذلك في الوقت الحالي. 

 

 

تبنّي نهج أكثر ليونة 

 

الأسلوب القسري الذي تتّبعه واشنطن تجاه إيران لم يؤت ثماره، بل أسفر عن نتائج عكسية، فقد دفع إيران نحو تبنّي سياسات تتعارض مع مصالح أمريكا وحلفائها. وإذا لم تصبح الدبلوماسية أساس السياسة الأمريكية تجاه إيران، انطلاقاً من مبادئ الاحترام والكرامة و”الثقة غير العمياء”، مع الحفاظ على اليقظة المستمرة، فمن المستبعد تحقيق أي تقدّم ملموس. إنّ انعدام الثقة بين الطرفين، وطبيعة المواجهة متعدّدة الأبعاد، وحالة عدم اليقين السائدة تتطلّب نهجاً دبلوماسياً من أجل الوصول إلى حل يصبّ في مصلحة الطرفين. 

 

سيكون الانخراط الدبلوماسي غير المرتبط بزيادة العقوبات أو التهديد باستخدام القوّة مقاربة أكثر فاعلية. إذ يمكن أن يسهم اتّباع نهج تدريجي قائم على بناء الثقة في تخفيف المخاوف إيران الأمنية وإقناعها بالتخفيف من حدّة مواقفها الإقليمية. قد تكون نقطة الانطلاق المناسبة لهذه المناقشات من خلال استئناف المحادثات حول برنامج إيران النووي. حتى أنّ ترامب نفسه كان قد أكّد أنّه على وعكس موقفه في ولايته السابقة، شرطه الوحيد للتوصّل إلى اتفاق مع إيران هذه المرّة يرتبط بقدرتها على تطوير سلاح نووي. 

 

يمكن أن تساهم مفاوضات مباشرة، تسيّرها وساطة فعّالة مثل قطر، إلى حدّ كبير في الدفع قدماً في هذا الاتجاه. ورغم أنّ هذا الأمر لن يحصل بين ليلة وضحاها، فإنّ بناء الثقة المتبادلة تدريجياً من خلال الدبلوماسية يبقى الطريقة الأكثر فعّالية التي ستمكّن الولايات المتحدة من تحقيق أهدافها الإستراتيجية. 

 

غالباً ما تقود الدبلوماسية القسرية إلى مزيد من التصعيد. لقد أبدت الحكومة الإيرانية الجديدة استعدادها للتفاوض بشأن برنامجها النووي وقضايا أخرى، لكنّها أكّدت في الوقت نفسه جاهزيتها للمواجهة. حان الوقت لأن يولي الطرفان الأولوية للدبلوماسية فوق كل شيء آخر. 

 

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ المؤلّفَين حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: السياسة الأمريكية الخارجية، خطة العمل الشاملة المشتركة، منافسة القوى العظمى
البلد: إيران

المؤلّفون

محاضر أول في العلاقات الدولية في جامعة أستراليا الوطنية
علم صالح هو محاضر أول في العلاقات الدولية في جامعة أستراليا الوطنية. 
أستاذة مساعدة في الدراسات العالمية في جامعة طهران
زكية يزدان شناس هي أستاذة مساعدة في الدراسات العالمية في جامعة طهران.